الروائي والتجربة: تمثّل الزمان والمكان [1/ 2]

لوحة تيلي ماكديرموت

في مقدّمة كتابه 'تاريخ الأدب الإنجليزيّ'، حدّد الناقد الفرنسيّ هيوبوليت تين، الذي عاش في القرن التاسع عشر، ثلاثة عناصر لدراسة الأدب: العرق والبيئة والعصر - يعني الموروث والمعيش والمُشاهَد، فهذه العناصر الثلاثة تترك أثرها في نصّ الكاتب.

ولا أدري إن كان النقّاد العرب الذين حلّلوا 'لاميّة العرب'، للشاعر الجاهليّ الشنفرى، اتّكأوا على منهج تين حين رفضوا ادّعاء من زعم أنّها قصيدة منتحلة. لقد رأى هؤلاء أنّ القصيدة، بلغتها وبصورها وبتصويرها حياة الصحراء وقسوتها، لا يمكن أن تصدر إلّا عن شخص عاش في البادية وتشرّب عاداتها وتقاليدها، وألّف أجواءها، وأنّ أيّ شخص، مهما قرأ عن حياة الصحراء، لا يمكن أن يكتب 'لاميّة العرب'، وبالتّالي فإنّ الزعم بأنّها من نظم خلف الأحمر لا صحّة له. 'لاميّة العرب' ابنة بيئتها وابنة زمانها.

في كتابه 'فنّ القصّة'، يرى محمّد يوسف نجم أنّ مجال القاصّ هو عناصر التجربة الإنسانيّة التي عرفها أو خبرها، ولهذا يستطيع أن يتمثّلها تمثّلًا فنّيًّا صحيحًا. وأعطى نجم أمثلة على كتّاب عرب كتبوا عن غير بيئتهم فوقعوا في أخطاء عديدة.

ألهذا نصح بعض النقّاد العرب الكتّاب العرب بالكتابة عن بيئتهم المكانيّة و الزمانيّة؟

نجم وتيمور

في كتابه 'فنّ القصّة'، يرى محمّد يوسف نجم أنّ مجال القاصّ هو عناصر التجربة الإنسانيّة التي عرفها أو خبرها، ولهذا يستطيع أن يتمثّلها تمثّلًا فنّيًّا صحيحًا. وأعطى نجم أمثلة على كتّاب عرب كتبوا عن غير بيئتهم فوقعوا في أخطاء عديدة.

محمود تيمور، في قصّة 'نداء المجهول'، يصوّر رحلة إلى لبنان قام بها راوي القصّة حوالي سنة 1908، وقد أخطأ الكاتب في تصوّر البيئة المكانيّة والزمانيّة للقصّة، وتردّى في بعض الأخطاء التاريخيّة والجغرافيّة؛ 'فهو يقول على لسان الراوية، إنّه رأى على إحدى الرسائل الواردة إلى الأستاذ كنعان طابعًا سوريًّا، في حين أنّ سوريا، في ذلك الوقت، كانت ولاية عثمانيّة، ولم تستقلّ عن السلطنة وتُصدر طوابع خاصّة بها، إلّا في فترة حكم فيصل القصيرة. وكذلك يتحدّث عن صحارى شاسعة، لا نعلم بوجود مثلها في لبنان'. (نجم، فنّ القصّة، ط7، بيروت 1979، ص69).

غسّان وإميل

لغسّان كنفاني رأي في نتاجات أدباء عرب يكتبون من وراء مكاتبهم دون أن يحيوا حياة الشعب. حين كتب عن بعض قصص شولوخوف، نهاية ستّينات القرن العشرين، رأى التالي:

'إنّ معظم كتّابنا لا يحيون حياة الشعب، لا يتألّمون لآلام الناس، ولا يفرحون لأفراحهم، لا يدخلون إلى اهتماماتهم وحياتهم، (لذلك) فإنّه لا يخرج من بين أيديهم كتاب حقيقيّ يثير الانفعال في قلوب القرّاء'. (غسّان كنفاني، فارس فارس، 1998).

'إنّ معظم كتّابنا لا يحيون حياة الشعب، لا يتألّمون لآلام الناس، ولا يفرحون لأفراحهم، لا يدخلون إلى اهتماماتهم وحياتهم، (لذلك) فإنّه لا يخرج من بين أيديهم كتاب حقيقيّ يثير الانفعال في قلوب القرّاء'.

كم رواية يمكن أن يسقط المرء من قائمة قراءاته إذا ما أخذ بكلام كنفاني؟

من المؤكّد أنّه لن يقرأ أيّ عمل لا يعبّر صاحبه فيه عن تجربة عاشها الكاتب، أو أيّ رواية تجري أحداثها في زمن غير زمن الكاتب الذي عاش فيه، أو في مكان لم تكن للكاتب به صلة.

في روايته 'عائد إلى حيفا' (1969)، حين يصف كنفاني الأسرة اليهوديّة القادمة من بولونيا، يصوّر شعورها بالدهشة، فقد رأت أنّ المكان الذي حُمِلَت إليه يبدو مختلفًا عن المكان الذي قرأت عنه في رواية آرثر كوستلر 'لصوص في الليل':

'وفي الحقيقة، فإنّه لم يكن ليعرف الكثير آنذاك عن فلسطين، وبالنسبة له كانت مجرّد مسرح ملائم لأسطورة قديمة، ما تزال تحتفظ بنفس الديكور الذي كان يراه رسومًا في الكتب الدينيّة المسيحيّة الملوّنة المخصّصة لقراءات الأطفال في أوروبّة، إلّا أنّه، بالطبع، لم يكن ليصدّق تمامًا أنّ تلك الأرض كانت مجرّد صحراء أعادت الوكالة اليهوديّة اكتشافها بعد ألفي سنة'. (الروايات، بيروت، ط3، 1986، ص373).

وإذا كان المهاجر المستوطن القادم من أوروبّة فوجئ بما رأى، وعرف أنّ المكان غير مطابق للمكان الذي قرأ عنه في الروايات، إذ بدت الصورة مختلفة كليًّا، فإنّ إميل حبيبي تساءل عن صلة غسّان كنفاني بحيفا، بعد أن كتب الأخير، وهو في المنفى، رواية عنها.

تساؤل حبيبي عن صلة كنفاني بحيفا، ولم يكن متأكّدًا من أنّه عاش فيها في طفولته، وكنفاني لم يعش فيها، هو الذي وُلد في عكّا وعاش في يافا. تساؤل حبيبي دفعه لأن يتتبّع المكان الذي رسمه كنفاني في روايته، وكانت ثمّة مفاجأة:

أنا حاولت أن أمشي مع غسّان الطرق التي وصفها وجعلها الطرق التي انتقل عبرها اللاجئون الفلسطينيّون في حيفا إلى شاطئ البحر، ووجدته أحيانًا، بدل أن ينزل بهم إلى البحر، يصعد بهم إلى الجبل'.

'أنا تعلّمت، بمفاجأة مؤلمة من رواية غسّان كنفاني ’عائد إلى حيفا‘، شيئًا عن المكان. في هذه الرواية يصف غسّان حيفا والشوارع والأحياء التي قطعها أهل المدينة في هروبهم عبر البحر، ولا أذكر إن كان غسّان، رحمه الله، عاش في حيفا أم لا. لكن مع ذلك، أنا حاولت أن أمشي مع غسّان الطرق التي وصفها وجعلها الطرق التي انتقل عبرها اللاجئون الفلسطينيّون في حيفا إلى شاطئ البحر، ووجدته أحيانًا، بدل أن ينزل بهم إلى البحر، يصعد بهم إلى الجبل'. (مشارف، عدد 9، حزيران 1996، ص12 وما بعدها).

ويرى حبيبي أنّ من يريد أن يراجع حيفا أو عكّا أو حتّى يافا، قبل عام 1948، يستطيع أن يعتمد على كتاباته هو. ويذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فحين قرأ الأدباء العبريّون ترجمات رواياته إلى لغتهم العبريّة، كتبوا، وفق إميل، أنّه كان يعرّفهم على حيفا التي لا يعرفونها، وعلى عكّا التي لا يعرفونها... (مشارف، ص12).

محفوظ والغيطاني

هل اختلف نجيب محفوظ في طريقة كتابته؟

في كتابه 'نجيب محفوظ... يتذكّر' (بيروت، 1980)، يأتي جمال الغيطاني على أسفار محفوظ والأماكن التي كتب عنها، ولم يسافر محفوظ خارج مصر إلّا مرّتين، مرّة إلى اليمن وثانية إلى يوغوسلافيا، ويكتب الغيطاني:

'ملحوظة.

معظم روايات نجيب محفوظ تدور أحداثها في القاهرة، ولا يمتدّ المكان خارج القاهرة إلّا فيما ندر، ولكن هناك مكان آخر يبدو قويًّا، وبنفس درجة الحضور. إنّه الإسكندريّة، خاصّة في ’ميرامار‘ و ’السمّان والخريف’ وبعض القصص القصيرة، وهناك قصّة قصيرة تجري أحداثها خارج مصر، كتبها نجيب محفوظ بعد عودته من اليمن'. (ص94).

وطّار وبلحسن

للطاهر وطّار، الأديب الجزائريّ، رواية عنوانها 'الزلزال' (1974)، وتجري أحداثها في مدينة قسنطينة، وهي مدينة لم يُقم الكاتب فيها. فكيف كتب رواية عن مكان صلته به عابرة؟

يدرس الناقد عمّار بلحسن الرواية، ويرى أنّ كاتبها، وطّار، قام بدور بطلها 'بو الأرواح' في داخل المجال القسنطينيّ قبل أن يكتب نصّه المتخيّل، وقام بـ 'تجارب' تتمثّل في التجوّل في المدينة وأحيائها وشوارعها وحاراتها وأزقّتها وساحاتها وجسورها. ورأى أنّ وطّار ركّز على وصف المجال الخارجيّ المتحرّك، وليس هناك وصف للمجال البيتيّ أو المنزليّ القسنطينيّ.

يدرس الناقد عمّار بلحسن الرواية، ويرى أنّ كاتبها، وطّار، قام بدور بطلها 'بو الأرواح' في داخل المجال القسنطينيّ قبل أن يكتب نصّه المتخيّل، وقام بـ 'تجارب' تتمثّل في التجوّل في المدينة وأحيائها وشوارعها وحاراتها وأزقّتها وساحاتها وجسورها. ورأى أنّ وطّار ركّز على وصف المجال الخارجيّ المتحرّك، وليس هناك وصف للمجال البيتيّ أو المنزليّ القسنطينيّ.

الطاهر وطّار نفسه يقول معلّقًا حول هذه المشاهد المتجوّلة: 'وقد تنبّهت إلى أنّني في ’الزلزال’ ظللت، شأني شأن الريفيّ المتسوّق، أطوف في الأزقّة والأنهج، وحتّى إذا ما أردت الاستراحة في مكان، فلن يكون غير المقهى أو الساحة العموميّة. نعم، لم أدخل دارًا واحدة في قسنطينة الكبيرة العريضة والطويلة، مع أنّني طفت بها كلّها. إنّ سبب ذلك واضح، فأنا لا يمكن لي أن أقتحم عالمًا مغلقًا دوني، بحكم أنّني لست منه'. (مجلّة فصول، أيّار 1989، مجلّد 8، العددان 1+2، ص130-143 + ص134).

يتبع...

 

د. عادل الأسطة


أستاذ جامعيّ من يافا ويقيم في نابلس. حصل على البكالوريوس والماجستير من الجامعة الأردنيّة، وعلى الدكتوراه من جامعة BAMBERG في ألمانيا عام 1991. يكتب زاوية أسبوعيّة في الأيّام الفلسطينيّة، وحرّر في جريدة الشعب صفحات الثقافة. أصدر العديد من الكتب، أهمّها 'جداريّة محمود درويش وصلتها بأشعاره'، و'الصوت والصدى: مظفّر النوّاب وحضوره في الأرض المحتلّة'. يكتب القصّة القصيرة والرواية ويهتمّ بدراستهما، ويواصل متابعة الكتابة عن اليهود في الأدبيّات العربيّة، وقد أصدر كتابين في هذا الموضوع وعدّة دراسات. صدرت بعض كتبه في عمّان ودمشق والقاهرة، وشارك في عشرات المؤتمرات والندوات.