درويش مثقّفًا هنديًّا

الزعيم سياتل (1786 - 1866)

يقتبس محمود درويش، في مفتتح قصيدته الشهيرة؛ 'خطبة الهنديّ الأحمر ما قبل الأخيرة' (أحد عشر كوكبًا، 1992)، سطرين من خطبة سياتل، الزعيم الهنديّ الأحمر لدواميش واسكواميش، يقول فيهما: 'هل قلتُ موتى؟ لا موتى هناك... هناك فقط تبديل عوالم' (1854).

'جلّادنا المقدّس واحد'

وفي ربيع عام 1992، كتب أحد أصدقاء المؤرّخ منير العكش إليه، وهو من شعب السو الهنديّ، رسالة يعلّق فيها على ما ورد في مقال بنيويورك تايمز: 'وإذن خُدِعْت... كما خُدع شاعري المفضّل محمود درويش، لقد مُحيت رواية الهنود لتاريخهم. تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إنّ أوّل ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزوم... قل لدرويش: إنّ جلّادنا المقدّس الواحد، وإنّه يواصل حرب الإبادة من قبره، للنهاية. لهذا وجدت نفسي في قصيدته أكثر ممّا وجدتها في خطبة زعيم سياتل'.

كتبت نيويورك تايمز، في مقالها، أنّ الخطبة المنسوبة للزعيم الهنديّ، والتي كانت نصًّا يعدّه كثيرٌ من الباحثين والهنود أحد أهمّ أعمدة تاريخ الهنود الحمر، وهو النصّ ذاته الذي استوحى منه درويش قصيدته، كان هذا النصّ مكتوبًا بحبر أبيض، وكاتبه ليس سياتل، بل أستاذ للأدب في جامعة واشنطن.

 كان السؤال، عند الاطّلاع على هذه المعلومة، ليس إذا ما كان هذا الخبر صحيحًا أم لا، ولا لماذا، بل كان: لماذا كان الأبيض قادرًا على صياغة الضحيّة بهذه الصورة الجماليّة المغرقة في الروعة، ولم يكن قادرًا، أبدًا، على أن يرى نفسه كما هو في مرايا الضحايا وجثثهم التي طفحت على طول نهر المسيسيبي طوال قرون عديدة؟

إغراق الهنديّ/ الفلسطينيّ في الوحشيّة

درويش، في حديثه عن علاقته بالمكان، وبالأنا، وبالآخر، يقول إنّه حين يقرأ أناه من خارجها، والآخر الذي هو الغريب، الخصم العدوّ، وهو موجود بدلًا منه في مكانه؛ لا بدّ حينها أن يصطدم التنقيب عن الذات، أركيولوجيًّا، بواقع، وبحاضر، وبتاريخ، وبحروب، وبتراكم ثقافات، وبتعدّديّة؛ وهذا لا بدّ سيحيله إلى سجال فكريّ مع الآخر، وصدام. صدام يملك هو الجرأة الكافية ليبحث عن نفسه فيه، في الآخر، ولا يملك الآخر هذه الجرأة ليرى نفسه فيه، لأنّه ينكر وجوده، لذا، إن حاول الاقتراب، فإنّه سيعترف ولو بجزء قليل منه، وهذا ما سيضع وجوده، وجود الغريب، موضع تساؤل وشكّ.

 لا يملك الغريب ما يكفي من ثبات الهويّة والمكان الذي يمكّنه من رؤية نفسه في درويش، ولا في الزعيم سياتل. إنّ ذلك الوصف الجماليّ للهنديّ في الخطبة المنسوبة لسياتل، ليست إلّا النظرة الاستعلائيّة ذاتها التي ترى في غير الأوروبيّ إمّا طيبةً بلهاء، من خلالها يماثل الأبيض غير الأبيض، ما بين الطبيعة والبشريّ؛ في التوراة، في قصص إشعيا وغيرها، وفي السرديّة الصهيونيّة الدينيّة لتاريخ أرض فلسطين بعد هجرة اليهود، حيث يكون الفلسطينيّ في الأرض إحدى بهائم هذه الأرض، قد وهبه 'يهوه' – الله لليهود يذبحونه أو يسخّرونه لأنفسهم، كما وهبهم الأرض ذاتها.

محمود درويش (1941 - 2008)

الفلسطينيّ موروث طبيعيّ، ساكن هذه الأرض وليس يسكنها. وهكذا، تتساوى النظرة التي تُغرق الهنديّ بالبلاهة الجميلة بالنظرة التي تغرقه بالوحشيّة، والفلسطينيّون، أيضًا، كانوا قومًا جبابرة، كالوحوش! هكذا، كيفما كان الآخر، وحشًا أم ظبيًا، فهو يتّصف بأنّه يحمل طبائع الطبيعة ذاتها التي هو 'ساكنها'، ولم يخرج بعد من ذاته الحيوانيّة إلى ذات الأوروبيّ العقلانيّة؛ إلى الإنسان!

اللغة الحرّة

ولكنّ 'الشعر سلّمنا إلى قمر...'، كما وصفه درويش في قصيدته 'أطوار أنات' (لماذا تركت الحصان وحيدًا، 1995). والشعر، هنا، حرّ من ثنائيّة العقل والطبيعة التي يفرضها حضور المستعمِر الدائم على المستعمَر. في مساءلة المستعمِر باستمرار عن العقل في المعنى، وعن العقل في صورته الأوروبيّة، والله في مفهومه الأوروبيّ، والتقدّم في نسقه الأوروبيّ.

الشعر، ولغة الهنود الحمر المحكيّة الحرّة من أشكال الكتابة الأوروبيّة، كما يصفها القائد الهنديّ روسل مينس، هما طريقتان للكينونة، على الطريقة الهنديّة، والطريقة الأصلانيّة لكلّ شعب مستعمَر. ثمّة في الكتابة 'دفاع عن الذات'، دائمًا وأبدًا، في حضور المستعمِر، لا سيّما إذا كانت تلك الكتابة موجّهة، ومحصورة، وذات قواعد، وغايات عمليّة، وعقلانيّة. أمّا في الشعر، وفي اللغة المحكيّة الهنديّة التي ترفض الكتابة، تتحرّر ذات المستعمَر من وصف المستعمِر وحربه على العقل والأرض؛ فالأرض أمّ للهنديّ، ليس في سياق الردّ الأيديولوجيّ على المستعمِر، وليس في سياق الترفّع الأخلاقيّ، بل هي حقيقة لا يحتاج صاحبها منّا التوقّف والنظر في أمرها. والأنا لدى الفلسطينيّ، في لغة درويش: 'نحن مَنْ نحن.. ولا نسأل من نحن.. ما زلنا هنا، نرتق ثوب الأزليّة..' (ههنا، الآن، وهنا الآن، 2009).

الحاجة إلى ماضٍ

يقول فانون في 'معذّبو الأرض' (1961) إنّ القلق الذي يشعر به المثقّف المستعمَر، هو ما يدفعه للبحث عن البرهان الذي يقول بوجود حضارة ساطعة، روعة مختفية تحت الرماد، في الماضي البعيد السحيق. هذا البرهان لا يكون فقط من أجل مبارزة ثقافيّة ما، بل هو حاجة ضروريّة لتحقيق التوازن العاطفيّ والنفسيّ للمثقّف. وعندما يجد هذا المثقّف نفسه عاجزًا عن إقامة أيّ علاقة حقيقيّة بالمكان، أو عاجزًا عن تحقيق التوازن النفسيّ المطلوب مع ما حوله، يجد نفسه مضطّرًا إلى العودة للقديم، للماضي، للذكريات، للطفولة، للأساطير، للحلم، لأيّ ماضٍ قد يعيد إليه بعض التوازن. وهكذا يصف درويش حاجة الشعراء، وهو يقرن أناه وماهيّتها بهذه الحاجة، في قصيدة 'طباق' (كزهر اللوز أو أبعد، 2005)، متحدّثًا عن إدوارد سعيد:

'أنا ما أكون وما سأكون/سأصنع نفسي بنفسي، وأختار منفاي/ منفاي خلفيّة المشهد الملحميّ/ أدافع عن حاجة الشعراء إلى الغد والذكريات معًا/ وأدافع عن شجرٍ ترتديه الطيور بلادًا ومنفى/ وعن قمرٍ لم يزل صالحًا لقصيدة حبّ/ أدافع عن فكرةٍ كسرتها هشاشة أصحابها/ وأدافع عن بلدٍ خطفته الأساطير'.

هل الهويّة حين تخبر عن نفسها، بما كانت عليه وما ستكون، وما هي عليه الآن، تعود إلى الماضي، لتجد برهانًا لنفسها؟ في قصيدة 'خطبة الهنديّ الأحمر...' تبدو الهويّة في صراع ثابت مع الآخر، لكنّه منته. أمّا في قصيدة 'طباق'، يقول درويش عن الهويّة: 'والهويّة قلتْ، فقال: دفاع عن الذات، إنّ الهويّة بنت الولادة/ لكنّها في النهاية إبداع صاحبها'.

قد تكون العودة إلى الماضي مختلفة عمّا هي عليه لدى فانون منها لدى درويش، في قصيدة 'خطبة الهنديّ الأحمر'، إذ كان لا بدّ للهويّة أن ترى نفسها من خلال نفسها قبل أن ترى نفسها في الآخر. هي لم تر نفسها عاجزة، أو ناقصة في الحاضر، فلم يكن عليها أن تبحث عن نفسها في أيّ ماضٍ، لأنّ ماضي الهويّة الهنديّة هو حاضرها، فهي امتداد لنسق ثابت لا يتغيّر، هو الأرض ذاتها.

الحقيقة لا تتغيّر

الإيمان بالأرض، هذه هي الكلمات الرئيسيّة في فكر روسل مينس بخاصّة، وفي الفكر الهنديّ بعامّة، حيث من الأرض تبدأ الأشياء وتعود إليها، الأرض الأمّ، البادئة التكوين، وحيث الطبيعة والتراتبيّة الطبيعيّة، وحيث الأشياء لا تنتهي أبدًا، وتظلّ تعود وتعود بأشكال أخرى وأخرى. يكتب درويش عن هذه العودة:

'هناك موتى ينامون في غرفٍ سوف تبنونها/ هناك موتى يزورون ماضيهم في المكان الذي تهدمون/ هناك موتى يمرّون فوق الجسور التي سوف تبنونها/ هناك موتى يضيئون ليل الفراشات، موتى يجيئون فجرًا لكي يشربوا شايهم معكم/ هادئين كما تركتهم بنادقكمْ/ فاتركوا يا ضيوف المكان/ مقاعد خالية للمضيفين، كي يقرؤوا عليكم/ شروط السلام مع.. الميّتين'.

روسل مينس (1939 - 2012)

في هذه الكلمات، تتلخّص الحياة الهنديّة ما بعد الموت، وما قبل الموت، وفي الحياة نفسها، حيث الحقيقة فيها لا تتغيّر، على نقيضتها الأوروبيّة التي تسعى إلى العبث بالحقيقة على الدوام، كما يصفها مينس، إلى تعريف الأشياء، وإعادة تعريفها، مرّة ومرّتين وألف مرّة، إلى تفريغ الكون من روحه وتحويله إلى مادّة، إلى العبث بالعقل، إلى الاستعلاء والتخريب، ما هو اليوم حقيقيّ وملموس في الغد يكون قمامة ويجب الانتهاء منه.

هذا ما يعطي الفكر الهنديّ، ربّما، صفة الثبات والتفوّق الأخلاقيّ في مواجهة رحلة العذاب الطويلة التي عاشها الهنود وما زالوا يعيشونها إلى اليوم.

اعتناق لقضيّة الحرّيّة

في قصيدة 'خطبة الهنديّ الأحمر...'، نظر درويش إلى هذه المعايير الأخلاقيّة للشعوب الهنديّة، وكان كما وصف هو نفسه الآخرين في الحالة الفلسطينيّة:

'ما دام الكلّ يعرف أنّ السيف عاجز هذه المرّة أيضًا، عن كسر الروح، سنثبت مرّة أخرى أنّنا الأقوى أخلاقيًّا، فلم يبق لنا إلّا هذا البرهان. أمّا موازين القوى، فستواصل سرد وقائعها خارج المحاجّة الفكريّة والقانونيّة.. لقد أغنانا التلفزيون عن الشرح، دمنا مسفوك في كلّ بيت، وعلى كلّ ضمير، ومن لم يصبح فلسطينيّ القلب، منذ الآن، لن يتعرّف على هويّته الأخلاقيّة بعد الآن' (في حضرة الغياب، 2006).

هكذا فعل درويش، أيضًا، مع القضيّة الهنديّة. من الممكن، ربّما، إطلاق لقب 'المثقّف الهنديّ' على درويش، ولكن ليس الأخير، أو كما وصفه أحد الناشطين الهنود: 'سترى كيف سيصبح درويش واحدًا من أعظم شعرائنا'. لقد كانت هذه القصيدة اعتناقًا لقضيّة الحرّيّة ذاتها التي يفرضها 'جلّاد مقدّس واحد'، على شعبين وشعوب أخرى.

 

الهويّة اليقين

أمّا عن الهويّة في الحالة الفلسطينيّة، فقد ظلّت تبحث عن ذاتها في الماضي البعيد، تبحث وتستعير، وتصطدم مرّة هنا ومرّة هناك؛ لكنّ الملاحظ في شعر درويش، وتحديدًا في قصيدتيه 'ههنا، الآن، وهنا والآن' و'على محطّة قطار سقط عن الخريطة' (كلاهما في: لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي، 2009)، أنّه يبدو كمثقّف هنديّ وصل أخيرًا إلى شعور بثبات الهويّة؛ أنّ الهوية هناك، وهو، هنا، يكتبها وتكتبه، وهو ابنها. كأنّهم هنود، هؤلاء الذين يكتب عنهم في مقدّمة قصيدته 'ههنا، الآن...':

'ههنا، بين شظايا الشيء واللاشيء، نحيا في ضواحي الأبديّة/ نلعب الشّطرنج أحيانًا/ ولا نأبه بالأقدار خلف الباب/ ما زلنا هنا/ نبني من الأنقاض/ أبراج حمامٍ قمريّة/ نعرف الماضي، ولا نمضي/ ولا نقضي ليالي الصيف بحثًا/ عن فروسيّات أمس الذهبيّة/ نحن مَنْ نحن/ ولا نسأل مَنْ نحن/ فما زلنا هنا/ نرتق ثوب الأزليّة'.

في هذه السطور، تخلّى الشّاعر عن مغامرات البحث، عن التساؤل عمّن يكون وعمّن نكون، متأكّدًا، كأنّه يقين طبيعيّ يشبه يقين مينس، ممّن هو، وممّن نحن: 'وطنيّون/ ولكنّا مللنا صورة النرجس في ماء الأغاني الوطنيّة' (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي، 2009)، هكذا، تشعر بالثبات المتحرّك على مدى القصيدة ذاتها.

لماذا الشعر؟

وأخيرًا، ففي قصيدته، 'على محطّة قطار سقط عن الخريطة'، يبدو درويش نفسه، وقد تحرّر من كلّ هموم التساؤل، والشعور بالقلق، ورؤية الآخر نفسه. فيقول:

' أقول لمن يراني عبر منظارٍ على برج الحراسة: لا أراك، ولا أراك./ أرى مكاني كلّه حولي/ أراني في المكان بكلّ أعضائي وأسمائي/ أرى شجر النخيل ينقّح الفصحى من الأخطاء في لغتي/ أرى عادات زهر اللوز في تدريب أغنيتي على فرحٍ فجائيّ/ أرى أثري وأتبعه/ أرى ظلّي وأرفعه من الوادي بملقط شعر كنعانيّةٍ ثكلى/ أرى ما لا يُرى من جاذبيّة ما يسيل من الجمال الكامل المتكامل الكلّيّ في أبد التلال/ ولا أرى قنّاصتي'.

بهذه الكلمات، يصرّح الشعر عن إجابة السؤال: إذا كان الواقع بهذا الجنون، والشاعر والمثقّف يدركان هذا، أمام الطوفان والسلاح الفتّاك، فلماذا الشعر؟ لماذا نتحدّث؟ لماذا يتحدّث المثقّف عمّن هو؟ ولماذا يقول الشاعر ما هو؟ والإجابة، أنّ الشعر يحرّر الأنا، بالكلمات الحرّة، من قبضة القنّاص، باللغة، التي تمكّن الشاعر من صياغة نفسه بمنأى عمّن هم ساهرون في برج الحراسة، وهذا ما يحتاجه الشاعر وآخرون، لا يملكون حقّ الكلام.

 

أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.