ديوان "السّوى": فلتنزلي أيّتها الآلهة

لوحة Gerson Leiber

هل الشعر تخفٍّ أم انكشاف؟ تستّر أم تعرٍّ؟ هذا السؤال الذي ظلّ يطاردني طيلة قراءتي لديوان الشاعرة رولا سرحان؛ 'السّوى' (الدار الأهليّة للنشر والتوزيع، 2017)، وأستطيع أن أختصر تجربة قراءتي للديوان بالصعود الشاقّ، ولا أعرف إن كان هذا مديحًا أم ذمًّا، ولا أعرف لماذا كنت مضطّرًا إلى مواصلة هذا الصعود؛ هل ذلك يعني أن الشاعرة نجحت؟ أم أنّني أنا الذي نجح؟ لكنّ السؤال الأهمّ لديّ: لماذا تصرّ طيلة نصوصها على الجلوس فوق المرتفع؟ هل هي سعيدة هناك، تتسّلى بلعبتها مع القارئ؟ أم خائفة منّي ومن رغباتي العنيفة تجاه كشفها؟ كأنّ هذا هو السرّ الذي أبقاني أطاردها خلال الديوان، لكنّني لا أعرف إذا كانت هي التي تخفي هذا السرّ عن القارئ عمدًا، أم أنّ السرّ هو الذي يخفيها؟

كائنات فوقيّة

هاذان المحوران جعلاني أقرأ الديوان من منظورين متوازيين؛ الغاضب والمشفق، وربّما يحسب له هذا. فأنا تستفزّني كلّ الأشياء والكائنات الفوقيّة، من الآلهة، إلى الزعماء، إلى الطيور، ولا أعتقد أنّني أقرأ الشعر لكي أبحث عن كائنات فوقيّة جديدة! لا سيّما وأنّني ابن ثقافة 'الفوقيّات' التي أرهقت أرواحنا في محاولات الصعود التي لم تنجح يومًا، فلم تعد تثيرني الفوقيّات ولا تقدّم لي أيّ جديد. كما أنّ لغة الديوان صنعة خالصة، أو ما يقارب الصنعة، نهجَ أبي تمّام وأحفاده الموغلين في صناعة الشعر عن طريق اللعب على الكلام، وشقّ المعاني إلى أضدّاد وثنائيّات.

أمّا منظور المشفق، فقائم على فرضيّة الخوف الذي يسكن الشاعرة، الخوف من البوح، أو الخوف من أن تُفهم خطأً، والذي اتّضح في نصّها؛ 'أنتَ لا تفهمُ غزلي فيك'. وربّما كانت لهذا الخوف مبرّرات شخصيّة أو اجتماعيّة كامنة في نظرة المجتمع العربيّ للمرأة. كأنّ التخفّي، هنا، تعبير عن اكتئاب أو خيبة تتحدّث عن نفسها، عبر التلاطم بين الثنائيّ والمتقابل من كلمات؛ فالإيحاءات المستمرّة للقارئ بعلوّ الذات الشاعرة، باستخدام مضامين التصوّف، أو الارتكاز إلى الشخصيّات الأسطوريّة، من الميثولوجيا اليونانيّة بخاصّة، ما هو إلاّ تعبير عن حالة اكتئاب قادمة من قاع سحيق.

الحسّيّ الغائب

اعتمدت نصوص الديوان، فكريًّا ولغويًّا، على عنصرين رئيسيّين؛ التضادّ والأسطورة. أمّا الحسّيّ والوصفيّ فيكاد يكون منعدمًا تمامًا، فلا اعتراف أبدًا بأيّ شيء إلّا سرّيًّا، في أسطورة قديمة، ولعلّ هذا يفسّر كثرة استخدام الأساطير، وورود الأسماء الإغريقيّة، وشخصيّات التاريخ العربيّ أيضًا.

وقلّما يتعرّض الديوان، في الوقت نفسه، إلى كينونات بعيدة عن ذات الشاعرة، ويبدو تعظيم هذه الذات من خلال تعظيم الذات المقابلة، إن كانت الرجل، أو الله، أو الكون، الذين يتداخلون في أحيان كثيرة. ففي قصيدتها 'المياه الحلوة والخبز اللذيذ'، تعطيك الشاعرة شعورًا بالآدميّة الاستثنائيّة، فأنت تشعر دائمًا بأنّها واثقة من رغبة القارئ في البحث عنها، لا سيّما في قصيدة 'أفصح عن بعضي'، وفي ذلك استفزاز جميل ومثير للرغبة بالبحث عنها فعلًا. لكنّها في قصيدتها 'لا تكن شاعرًا'، تقترب من الصورة البسيطة للذات المقابلة، فهي تبحث، هنا، عن الابتسامة البريئة، والصفاء الملائكيّ، والمباشرة الحسّيّة، وكأنّها تنسى أنّ في جميع الرجال شعراء، حتّى إذا لم يمتلكوا لغة التعبير.

رغبة بالصفع

كانت قراءة ممتعة، وصعودًا لصخور تتفاوت في نسب صعوبتها؛ فبعضها كان مرهقًا جدًّا، وبعضها كان غاية في السلاسة، مثل قصيدة 'أنسى' التي فضّلتها في الديوان. لكنّني، وهذا أمر شخصيّ، لا يغريني الشعر الخائف ولا المتعالي، لأنّني أريده، دائمًا، نزولًا للآلهة، تأكل وتشرب مع الناس، وتلعب مع الأولاد. وهو في نظري، أيضًا، غير قائم على رغبة القارئ بدخول الشاعر، بل رغبة الشاعر المثقل بالوحدة والأسئلة والخوف والحبّ والوعي والقلق، بأن يرمي كلّ ذلك في وجه القارئ.

لم يصفعني ديوان 'السّوى' لرولا سرحان، لكنّني لا أنكر أنّه ربّى لديّ رغبة فادحة بصفع أجهل فاعله وأجهل مفعوله.

 

فارس سباعنة

 

شاعر وإعلاميّ يقيم بمدينة رام الله - فلسطين. يعمل مسؤولًا عن العلاقات العامّة والشراكات المحلّيّة في مؤسّسة محمود درويش. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ 'يصدقني الكمان' (2016)، و'كأنّها سحابة' (2012). ساهم في العديد من المبادرات والحملات والمهرجانات الأدبيّة والثقافيّة، مشاركةً أو تنظيمًا، منها مبادرة 'بسطة شعر' (2009 – 2010). يكتب المقالة الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة في منابر فلسطينيّة وعربيّة. أعدّ وقدّم برنامج 'الناظم' المختصّ بالشعر العربيّ الكلاسيكيّ، والذي بثّته فصائيّة القدس التعليميّة.