خيري منصور... عن أيّ قدسٍ يتحدّثون؟

خيري منصور (1945 - 2018)

 

قلّة من المعجبين بمقالات الأديب الراحل خيري منصور (1945 - 2018) وخواطره، تعرف أنّه شاعر، قبل أن يكون صحافيًّا ذا خاطرة محكمة ومقالة جيّدة؛ فقد طغت شهرته إعلاميًّا على شهرته شاعرًا، أو ناقدًا، أو باحثًا في الأدب، ومع ذلك لو أعاد بعض المعجبين بمقالاته وخواطره، النظر في هذا الانطباع العامّ، واستأنفوا قراءة شعره كلّه أو بعضه، على أقلّ تقدير، لشعروا بالأسف لأنّه لم يواصل دأبه على هذه الطريق، ونهجه على هذا السبيل الموطّأ، الّذي تبلور وتجلّى في غير ديوان من دواوينه.

 

الأمّ

فالنظرة الأولى في شعره، تلفت النظر إلى الحسّ "المقاوم" الّذي امتلأت به بواكيره، واتّصفت به قصائده الأولى، وإذا كان الفلسطينيّون من الشعراء قد اعتادوا على الرمز بالحبيبة لفلسطين، فإنّ خيري منصور رمز لها بالأُمّ، وهذا هو الانطباع الأوّل، الّذي يظفر به القارئ لإحدى قصائده الموسومة بالعنوان "كلّ قبر كمين"، ففلسطين أُمّ إلى جانب أُمّ المتكلّم الأخرى، وإذا كانت الأولى تعاني من أجل الأبناء والحَفَدة، المنتشرين أيدي سبأ في الآفاق المتباعدة، فإنّ الأخرى هي الّتي تكتفي باستقبال الشهداء، ويتناسل منها اللاجئون:

ومضى عائدًا

مثقلًا بالثمر

بين أُمَّيْن

واحدةٌ تعصر القلب

تبني لأحفادها الغائبين

وواحدةٌ تعصر الشهداء لتبتاع خيمة طين

وتبيضُ بها اللاجئين

 

يا ليتنا كنّا "معاكْ"

واللافت للنظر الجاذب للانتباه، أنّ خيري منصور يتكرّر لديه تمجيد "المقاوم"، الّذي يُهرع من منفاه القسريّ ليلتحق بالفدائيّين، ويهون عليه أن يبذل دمه وروحه؛ كونه لا يبالي، ولا يهتمّ بغير الشهادة، ففي قصيدة أخرى نقف إزاء شهيد لا يعرفه الشاعر، وجلّ ما يعرفه عنه أنّه عاد ليضحّي بنفسه؛ من أجل سيّدة الشهداء فلسطين، فقد يلتقي به المتكلّم في القصيدة في القدس، أو في أريحا، أو في حيفا، لا يهمّ المكان، إلّا أنّه في فلسطين ... هكذا يجب أن تكون مرثيّة الشهيد المناضل:

لست أرثيه، لا أعرفه

الحجارة تعرفه

والمدى يعرفه

والرياح الّتي نقلت شارة السرّ ما بيننا

تعرفه

وقبر أبي تحت زيتونة المنتهى

يعرفه

ودير الغصون الّتي راح يبحث عنها

بمنخفضٍ في دمي

تعرفه

 

تماثل هذه الرؤية لـ "المقاوم" الشهيد، رؤيته الأخرى في قصيدة ثانية بعنوان "قمر البقاع"، وهي قصيدة يعود بنا الشاعر فيها لطفولة ذلك المقاوم، الّذي طالما امتطى حصانًا من قصَب، وهو يلهو مع الصغار على أحد البيادر لاهثين متعَبين، ويتقسّمون إلى فريقين متخاصمين، ويبرون عيدانًا يتّخذون منها رماحًا خشبيّة، ويتخيّلون الحصان حصانًا حقيقيًّا لا ينقصه الصهيل. يغفو المتكلّم في القصيدة قليلًا، مستعيدًا هذه الصور كمن يرى في ما يرى النائم، ثمّ يصحو من الحلم، فإذا بذلك الطفل مقاتل شرس، يستبدل الكلاشينكوف بالحصان القصب، وبالرمح الخشب:

أصحو فيغسلني نداك

يا مَن وعَدْتَ طفولتي

بطفولةٍ أخرى

ببيدر حنطةٍ

ومدى من الألوان ينبع مِن هواك

يا مَن نبتَّ على جذوعٍ ميتةٍ

غصنًا، وأمطر ياسمين على سواك

وشهقتَ آخر شهقةٍ

يا ليتنا كنّا "معاك"

 

القدس... علاقات عامّة؟

وجريًا على عادة الشعراء الفلسطينيّين؛ يتوقّف خيري منصور في إحدى القصائد حيال موضوع القدس، تلك المدينة الّتي كتب فيها وعنها محمود درويش، وسميح القاسم، وأحمد دحبور، ومريد البرغوثي، وتميم البرغوثي، وعزّ الدين المناصرة، قصائد عدّة، بيد أنّ القدس لدى خيري منصور تدخل - شعريًّا - في دائرة السؤال؛ فعن أيّ قدس يتحدّثون؟ وهل ما يقال عن القدس هنا وهناك يعبّر عن حقيقة تمسّك القائلين بها، والتشبّث بعاصمة الوطن "فلسطين"؟ أم أنّ الأمر لا يعدو الشعارات الّتي يجري تداولها من باب العلاقات العامّة، والدعاية السياسيّة والإعلان؟

القدس أقداسٌ

فكم قدسًا تعود ولا تعود إلى العربْ

قدس المهرج

والمهيج

والمخرج في الخطبْ

أم قدس قافلة الخشبْ

قدس الّذين تسابقوا

وتساقطوا

هرزًا بمسبحة الّذي كان السببْ

أم قدس من كشف الحسبْ

 

سيفتّشنا العسكريّ

وهو، إلى ذلك، لا يختلف عمّن عبروا الجسور، ذات يوم، إلى الضفّة الغربيّة زائرًا، فلاحظ ما لاحظته فدوى طوقان ذات يوم، عندما كتبت قصيدتها المؤثّرة "عند شبّاك التصاريح"، فالمعاناة واحدة، ومعاملة الإسرائيليّين - أو بكلمة أدقّ الاستعمار - لمن يعبرون هي المعاملة ذاتها الّتي وصفتها الشاعرة؛ فهم علاوة على الانتظار الطويل المملّ في جوّ حارّ ودبق، يُسمعون المنتظرين الكثير من الشتائم والسباب، من نوع "عربٌ... فوضى... كلاب"؛ فهم بمعاملتهم هذه لا يختلفون عن النازيّين العنصريّين، يقول خيري منصور في هذا السياق:

على حاجزٍ بيننا

سيفتّشنا العسكريّ

بطاقاتنا ذبلت في خريفٍ مضى

ويوقفنا عسكريّ الحواجز

 

صورة بتوزيع موسيقيّ

وعلى الرغم من أنّ لخيري منصور باعًا طويلًا في نحت الصور الشعريّة المبتكرة، إلّا أنّه أيضًا لا يفتأ يهتمّ، ويعنى عناية خاصّة بغنائيّة القصيدة؛ فهو يلجأ إلى التوزيع الموسيقيّ لأجزاء الصورة، وللتراكيب الّتي تتألّف منها، مكرّرًا بعض الكلمات الّتي تشير إلى الملامح الإيقاعيّة عالية النبرة، كهذا الجزء من قصيدة "ثلاث أغنيات":

حسبه

أنّ كلّ العرائس في قريتي

يترقّبنه

حسبه

أنّ كلّ السنابل يضفرن أهدابه

حسبه

أنّه صارَنا

بعد أن دقّت الأرض أبوابه

حسبه

أنّ "جفرا" بهذا الربيع

تطرّز أثوابه

 

فاطّراد الأصوات في هذا الجزء – كما في غيره - يرتقي بالجانب الغنائيّ في القصيدة، ويسمو به لمرتبة سنيّة وجليّة... وفي قصيدة أخرى، يقتبس من إحدى أغاني المطربة اللبنانيّة فيروز لازمة في القصيدة، وهي لا تتكرّر كثيرًا، بيد أنّها تمثّل علامة فارقة في القصيدة على المستوى الغنائيّ:

عتمةٌ وطريق

وكلابٌ تجرجر بين الخرائب أكفاننا

ونوافذُ موصدةٌ ومدى

من عباءات أجدادنا

اندهي

قد يردّ الحدا

نحن يا أختُ، صِرْنا صدى

 

أمّا علاقته بموسيقى الأغاني الشعبيّة، والمواويل الفولكلوريّة المتداولة، فأظهر من أن تخفى؛ ففي واحدة من قصائده وهي بعنوان "وصيّة"، نظمٌ على نسق الأغنية الشعبيّة "يا رايحين ع حلب"، ولكنّ هذه القصيدة وهذا اللحن، يجري على يد الشاعر منصور تطويعهما فنّيًّا، لرؤية الشاعر لمأساة الفلسطينيّين في لبنان، وفي حرب المخيّمات، وبصفة خاصّة ما حدث في مخيّمَي صبرا وشاتيلا من مذابح:

يا رايحين عَ صبرا

حزني طلعلو جناح

لا ترجعوا حتّى الشهيد يرتاح

يا طالعين من بيروت

قلبي انشطر نصّين

واحد على ولدي

وواحد "معاكم" راح

 

تعدّد الاهتمامات

ومن هذه القصائد والأمثلة؛ يتّضح أنّ خيري منصور شاعر لا تنقصه الموهبة، ولو أنّه عني بشعره، على نحو أكثر، وتابع دون أن تتغلّب على اهتماماته المقالة الصحافيّة، والخاطرة، والكتابات النثريّة من سير ودراسات، وبحوث حضاريّة وفلسفيّة، وما يتّصل بموضوع الاستشراق، وغيره، لكان من كبار الشعراء، وواحدًا من فرسان جيله أمثال القيسي، والمناصرة، وأحمد دحبور، والبرغوثي.

ومع ذلك فإنّ نتاجه في الشعر غير قليل؛ إذ صدرت له الدواوين: "غزلان الدم" (1981)، و"لا مراثي للنائم الجميل" (1983)، و"ظلال" (1978)، و"التيه وخنجر يسرق وجه البلاد" (1987)، و"الكتابة بالقدمين" (1992)، عدا بعض الكتب النثريّة ومنها "الاستشراق"، و"الكفّ والمخرز"، و"صبيّ الأسرار"، و"مقالات في حداثة الشعر"، و"أبواب ومرايا"، وغيرها.

 

إبراهيم خليل

 

أكاديميّ وناقد فلسطينيّ يقيم في الأردنّ؛ حاصل على الدكتوراه في الدراسات اللغويّة من الجامعة الأردنيّة؛ عمل محرّرًا في عدد من المنابر الإعلاميّة، منها "جريدة الشعب" والمكتب التنفيذيّ لشؤون الأرض المحتلّة. يعمل اليوم أستاذًا في الجامعة الأردنيّة، وله عشرات الأبحاث والمؤلّفات في الأدب، والنقد، والدراسات اللغويّة.