لنمنح الطفل الباكي في سيّارة التاكسي فرصة

 

مَنْ لم يركب تاكسي السرفيس، أو الباص، أو وسائل النقل العامّة، يخسر الكثير من المشاهد، ويفوته الكثير من القصص، ولا شكّ في أنّها تجربة مفيدة لإنسان يرغب في الكتابة، وتتكوّن نصوصه من القصص الّتي يعيشها أو يسمعها أو يتخيّلها. في سيّارة التاكسي لا أضع سمّاعات الأذن، ولا أقرأ رواية، بل أستمتع في معظم الأحيان بمشاهدة سينما التاكسي المفتوحة أمامي.

قبل أيّام كنت في سيّارة التاكسي، غارقًا في أفكاري الّتي دفعتني إلى الدخول في نوبة ضحك مفاجئ، وأنا أتذكّر كلام صديقتي، حول الخنازير الّتي تخرج من رؤوس بعض الأشخاص والسياسيّين العجائز.

انقطعت ضحكتي بفعل انفجار من زمامير السيّارات، في البداية ظننت الموضوع بسبب موكب زفاف، ثمّ لاحظت أنّ عدد المشاركين في حفلة الزمامير أكبر من أيّ موكب زفاف، وأنّهم يصنعون معًا صوتًا جحيميًّا يمكنه إيقاظ عدد من الموتى، الصوت كان لا يطاق، السيّدة الّتي تجلس بجانبي كانت تحمل طفلًا، أصابته حالة من الرعب أدخلته في نوبة بكاء، لكنّه بدا لي مثل مشهد بكاء طفل في فيلم صامت؛ لأنّ صوت بكائه ذاب تمامًا في حفلة الزمامير، الّتي نظّمتها حملة شعبيّة للاحتجاج على قانون الضمان الاجتماعيّ، الّذي أقرّته "السلطة الفلسطينيّة" مؤخّرًا. بكاء الطفل الرضيع الخائف ذكّرني مجدّدًا بذوبان صوت الفرد، وحرّيّة الفرد في كلّ احتجاج يشارك فيه جمهور بشريّ كبير، بغضّ النظر عن عدالة ما تطلبه الجماهير الحاشدة، أو عدم عدالته.

إنّ الفرد الّذي لا يريد ببساطة أن يسمع صوت زمامير السيّارات، المحتجّة على قانون الضمان، لا أحد يكترث له أو لصوته، أو يسمع صوته أصلًا حتّى لو صرخ؛ لأنّ في الاحتجاج الجماهيريّ قاعدة غير معلنة، مفادها أنّه لا يمكنك السباحة ضدّ تيّار الجمهور، إن لم يعجبك الأمر يمكنك إغلاق أذنيك، والمشي في الشارع بهذه الهيئة المضحكة؛ فرأيك غير مهمّ حتّى لو كنت تمشي وسط مسيرة كبيرة، تدعو إلى دعم الحرّيّات.

الأمر ذاته ينطبق على الفرد، الّذي لا يرغب في الاستجابة لدعوة جهة معيّنة للإضراب مثلًا؛ لكونه غير مقتنع بفائدة الإضراب، أو غير مقتنع بأحقّيّة الجهة الداعية في تمثيله، أو لأنّه ببساطة لا يريد أن يلتزم، ويريد أن يضع كرسيًّا على باب محلّه، ويدخّن الأرجيلة، ويتعاطى الكحول. ومن المفارقات أن يكون النظر إلى هذا الشخص كأنّه عميل أو جاسوس، أو يرغب في ضرب الإضراب، دون احترام لحرّيّته الفرديّة، من قِبَل جهات غالبًا ما تنظّم هذه الإضرابات؛ احتجاجًا على سياسات تناقض الحرّيّات، لكن يبدو أنّ المطالبة بالحرّيّة الفرديّة تسقط تمامًا من المشهد.

ثمّ إنّ حرّيّة الفرد في العالم العربيّ تتدهور بشكل كبير، وتتدهور في فلسطين أيضًا، ثمّة مناطق كثيرة في فلسطين، يمكن الفرد فيها أن يشارك - بل يحرَّض على المشاركة - في مسيرات تطالب بإنهاء الاحتلال، أو مبايعة جهة سياسيّة بعينها، أو الوقوف مع الحكومة أو ضدّها، لكنّك ستجد بين المشاركين نساء يعانين وجود ديكتاتور خاصّ في بيوتهنّ، لا يمكنهنّ مطالبته بالرحيل! وسوف تجد عناصر في أحزاب ثوريّة ومؤسّسات ثقافيّة، لا يمكنهم المسّ برأس برغوثة صغيرة أو مشاعرها، تعيش على جلد رئيس الحزب أو الفصيل أو المؤسّسة.

أقرأ مقالات كثيرة لكتّاب عرب في صحف عربيّة، تتحدّث عن الحرّيّة، وتصنع منها وجبات فخمة وسلطات وآيس كريم، وأنواعًا من الحلوى والمقبّلات الفكريّة، لكن لا أحد منهم يجرؤ على كتابة مقال، يخالف فيه التوجّه العامّ للصحيفة أو هيئة تحريرها، أو على صنع وجبة لا تروق الجهة الّتي تموّل الصحيفة، حتّى لو كانت تلك الوجبة مبتكرة وشهيّة، لا يمكنهم صناعة كنافة إذا كان رئيس التحرير يحبّ الزلابية.

ثوب الحرّيّة في العالم العربيّ مرقَّع ومثقوب في مناطق كثيرة، وأهمّها المنطقة الّتي تغطّي العورة، وهي منطقة الحرّيّة الفرديّة، نحن بحاجة إلى طريقة لخياطة ذلك الثوب أو استبداله، ولكن قبل الخياطة أو الاستبدال، على دعاة الحرّيّة أن يعترفوا بأنّ ثوب الحرّيّة مثقوب وممزَّق ومهترئ؛ لأنّهم إذا لم يفعلوا ذلك، فسرعان ما يتحوّلون إلى مهرّجين مطلوبين لخيمة السيرك.

على الأقلّ، فلنبدأ بخفض صوت الزمامير قليلًا، وتخفيف منسوب الحديث عن الإيديولوجيا، والتقليل من تلميع الأشخاص، حتّى لو كانوا يحملون شعارات حلوة.

الحرّيّة لا تُجزَّأ، ولا يمكن الوصول إليها بوسائل ديكتاتوريّة.

فلنمنح الطفل الباكي في سيّارة التاكسي فرصة؛ ليُسمَع صوت بكائه على الأقلّ، والأفضل أن نسمح له بممارسة حقّه في النوم في هدوء؛ كي تتمكّن والدته من الخروج في مظاهرة تطالب بالعدالة الاجتماعيّة والحكم الرشيد.

 

 

خليل ناصيف

 

وُلِد في مخيّم الجلزون على أطراف مدينة رام الله، عام 1977. حاصل على بكالوريوس علوم الحاسوب من جامعة القدس، ويعمل حاليًّا في قسم إدارة الكوارث في الهلال الأحمر الفلسطينيّ. صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان "وليمة للنصل البارد" (2014) عن دار موزاييك.