سوائل باردة: أسئلة مريد البرغوثي في "رأيت رام الله"

مريد البرغوثي | Peter Everard Smith

 

حين قرأت عنوان كتاب "رأيت رام الله"، للكاتب والشاعر الفلسطينيّ مريد البرغوثي، شعرت كأنّه يستفزّني لقراءة الكتاب أوّلًا، ولرؤية رام الله كما رآها، تلك المدينة الفلسطينيّة الّتي طالت غربتي عنها، على الرغم من أنّني لست من مواليدها، المدينة الّتي رأيتها في عيون أصدقائي على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وبكاميرات هواتفهم النقّالة، ومن خلال معايشاتهم اليوميّة، والّتي دُعيت غير مرّة لزيارتها؛ للمشاركة في فعاليّات ثقافيّة ووطنيّة، وكان مصيري المنع من قبل الاحتلال؛ لتتجسّد غربة عن مكان لم أولد فيه، هي بمنزلة غربة منع الاكتشاف.

 

مثل دوّامات بحر غزّة

مريد البرغوثي مولود في الثامن من تمّوز (يوليو) عام 1944، في قرية دير غسّانة قرب رام الله، الّتي وصفها بعمق في كتابه، وأوضح طباع أهلها، قبل هجرته، وبعد عودته. البرغوثي بغربته عن مسقط رأسه، جسّد عاطفة النظرة المؤجّلة، إنّها فكرة الالتصاق بالمكان عن بعد، عاطفة عمرها ثلاثون سنة لدى مريد، وعمر مقارب لديّ، هي عدد سنوات الوعي لديّ بأماكن الحياة. 

 

غلاف "رأيت رام الله"

 

رام الله ليست بعيدة عن مسقط رأسي غزّة، سوى بضع عشرات من الكيلومترات، لكنّي - وبحكم أنّني في أبعد مكان عن العالم كلّه - لا أستطيع زيارة أيّ مكان خارج غزّة، بما في ذلك رام الله. الغربة لا تقسّم فقط إلى دقائق وساعات وأيّام وسنوات، إنّما إلى فراغات تدور حول الجسد، مثل دوّامات بحر غزّة، تلتفّ حوله حتّى تكاد تلغيه، وتعلن مصرعه؛ فهل من عودة من مصرع بعد ثلاثة عقود من الخيبة والوجع، من الحنين والانتماء إلى مكان هو في الأصل، جغرافيًّا، استحقاقيّة للفرد، كبقعة هو ينتمي إلى حدودها؟

 

أرض لا تحتاج إلى معرفة

يسرق مريد البرغوثي حواسّك، في كلمات معجونة بترابك الذاتيّ، ترابك الخاصّ الّذي تستموت من أجل الحفاظ عليه، هو أرضك الضيّقة، الأرض الّتي لا حاجة لك إلى معرفة كمّ انتمائك إليها. 

حين يحدّثك مريد البرغوثي عن الغربة، فإنّه يتطاول على عاطفتك المركونة، وتتسلّق معه كلّ حنين، لم تعره اهتمامًا منذ زمن بعيد. هو بوصفه الغربة يشرح جلد ذاكرتك، ويحملك معه لتشعر بخوف الغريب وقلقه، كما يشعر به أهل البلد الّذي يحتوي غربته، لكنّه لا يستطيع أن يشعر بما يفرح به ذوو تلك البلاد، هو بطريقته الخاصّة يحاول أن يخمش دفء أيّ لحظة في الغربة، كلّ السوائل الّتي تسيل منه في الغربة تبدو باردة ممتلئة بالقلق والتشريد.

في اللحظات الّتي كانت تجري داخله هرولة تجاه وطنه، كان مريد يحقر الجسر بين الأردنّ وفلسطين، الّذي منع الكثيرين من الناس، من العودة لتجريب الطرق في وطنهم لسنوات كبيرة؛ فيخاطبه بأنّه ليس نهرًا ولا بحرًا ولا جبلًا، ولا جزءًا طبيعيًّا جغرافيًّا، إنّه مجرّد قطع خشبيّة صنعها النجّارون الكادحون، وبمشاعر متناقضة يحاول اجتيازه، نعم يا مريد، إنّك تثرثر عمرًا بأكمله على الجسر، بلا صوت وبلا توقّف.

 

هنا المستوطنات!

 وفي انتقالك إلى الأسئلة الصعبة، يرافقك مريد البرغوثي ليدلّك على مكان الجرح باقتدار، وكأنّه مصرّ على أن يعذّبك بشعاع من غرفته المعتمة، الّتي جاء هاربًا منها من كلّ البلاد؛ ليجد الجنديّ الإسرائيليّ يجلس في انتظاره، ويأخذ حقّ الوصاية على وطنه، وقد وصف مأساته بالقول: "غرفة حراسة عاديّة، الجنديّ فيها يحرس وطننا منّا".

مدينة رام الله الشديدة النظافة كما يصفها مريد البرغوثي، والّتي يصفها بالعجب من تنوّعها، ومواكبتها للحداثة والمدنيّة الفائقة، فيقول: "عجيبة رام الله! متعدّدة الثقافات، متعدّدة الأوجه، لم تكن مدينة ذكوريّة ولا متجهّمة، دائمًا سبّاقة للّحاق بكلّ ترف جديد"، ويصف طبيعة رام الله وكأنّه يصف ابنه تميم في طفولته، ويغرّد جماليًّا: "رام الله السرو والصنوبر، أراجيح المهابط والمصاعد الجبليّة، اخضرارها الّذي يتحدّث بعشرين لغة من لغات الجمال".

 

رام الله

 

ويمتدّ مريد البرغوثي إلى الوعي بشراهة، حين يلصق على جدران بيت فلسطينيّ، لافتات تذكّرهم بتصدّع في أرض الوطن يستمرّ في الإيغال، حين يركل أذهاننا بفكرة المستوطنات، ويعرّفها كما رآها: "أبنية متدرّجة من الحجر الأبيض، متلاصقة ومتكاثفة، تصطفّ خلف بعضها في سطور منسّقة، راسخة في أماكنها، بعضها عمائر وبعضها بيوت، مغطّاة بالقرميد". ويستغرب مريد البرغوثي ممّن يناقشون فكرة تفكيك المستوطنات، ضمن الحلول السلميّة مع الاحتلال، ويقول: "إذا سمعت من خطيب على منبر عن تفكيك المستوطنات فاضحك، كما تشتهي، إنّها ليست قلاعًا من الليجو أو الميكانو الّتي يلعب بها الأطفال، إنّها إسرائيل ذاتها، إنّها إسرائيل الفكرة والأيدولوجيا، والحيلة والجغرافيا والذريعة"، وفي ضربة أخرى يقول: "المستوطنات هي كتابهم، شكلهم الأوّل، ميعادهم على هذه الأرض، هي غيابنا"، نعم يا مريد، إنّها التيه الفلسطينيّ ذاته.

 

67

مريد البرغوثي في كتابه "رأيت رام الله"، يفضح للعالم عورة الفلسطينيّ والعربيّ في مواجهة دواخلهم، في مواجهة الرقم 67، وهو رقم الهزيمة الّتي حوّلت مسار حياة الفلسطينيّين والعرب، وأحالتهم جميعًا إلى غرباء أمام أنفسهم، ووصف الرقم 67 بأنّه تجمّد على شكله الصحراويّ الأوّل. وقد ربط مريد التاريخ المعاصر برمّته، بلعنة الرقم 67، وهو الّذي شهد هزيمة الجيوش العربيّة في وجه إسرائيل، وكما وضح فإنّنا من لحظتها نتكيّف مع ما يريده الاحتلال.

"رابين سلبنا كلّ شيء، حتّى روايتنا لموتنا"، هنا يصف مريد شعوره، حين خاطب رابين العالم بقوله: "إنّنا ضحايا العنف"، وبادره الحضور بالتصفيق، وقد نجح وقتها في كسب تعاطف العالم مع إسرائيل، إنّها مشاعر الحسرة الّتي يلقيها المظلوم، كحيّة في جحر من صفّق للظالم.

ويستمرّ مريد البرغوثي في سرده، في فضح مسارات الاحتلال في منع تطوّر المدن الفلسطينيّة، والتركيز على جعلها قرًى غير قادرة على المواكبة، ولم يكفّ احتلال الأرض، بل احتلّ دورنا كضحيّة، وألصق تهمة القتل أمام العالم بنا.

 

كتلة جمال

الطريق الّتي يتصيّدها مريد البرغوثي في كتابه، سردًا ذاتيًّا وجمعيًّا، اليوميّات والأحداث الفلسطينيّة، في مجابهة القوّة الاحتلاليّة، تجعل السدّ محمَّلًا بالحزن والمأساويّة، لكنّه بأسلوبه الشعريّ الممتع، وقدرته على صياغة الدهشة في تركيب الجملة، جعل ما قدّمه كتلة من الجمال، المحمّلة بالوعي المطلوب اقتناؤه للشباب الفلسطينيّ، حول قضيّتهم، وحول ما يواجهونه من تضليل؛ لحرف نظرهم عن الرؤية الأقرب إلى الشموليّة.

 

اقتباس من كتاب "رأيت رام الله"

 

كتاب "رأيت رام الله" جماليّة تستدرجك للإكمال رغمًا عنك. العالم ينظر إلى الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ نظرة متنازعين على أرض، ولا ينظر إلى اليوميّات الّتي يحياها المعنَّف، والمعرَّض للقمع، والمسلوب الحرّيّة، لا ينظر إلى الغربة القسريّة، وإلى التغريب الممنهج، وإلى منع التحضّر بالقوّة والسياسة، وإلى حالة القلق على الحاضر والمستقبل، لدى مواطن بسيط تضربه الحياة على عنقه، كلّما حاول أن يرتاح قليلًا، قم واحمل حزنك.

 

هوّة

تلك الهوّة بيننا، كوننا فلسطينيّين، والحياة، كلّما حاولنا رتقها انفرطت أكثر. قاموس الاحتلال فقط ما يحدّد لنا معاني الكلمات والمواقف اليوميّة، في الأراضي المحتلّة، وفي الغربة والشتات؛ هذا ما حاول مريد البرغوثي طرحه؛ من خلال تسليط الضوء على تجربته، وتجربة من حوله من أبناء جيله في الغربة، حين العودة وبعدها، ورؤية رام الله وقريته بعد ثلاثة عقود من المنع الإجباريّ عن مسقط رأسه.

لقد كان يحاول مريد أن يفضح الغربة بكلّ ما فيها من أحاسيس، ويعرّيها لمن يطمح إليها، وحاول أن يحاكمها، لكنّها مرضه الخبيث الّذي تكاثر وتحوّل إلى غربات. إنّها لغة بديعة مغتربة في الجمال أيضًا يا مريد، تلك الّتي نقلت من خلالها أحمال حواسّك.

مريد له رؤية واقعيّة للواقع الفلسطينيّ والعربيّ منذ 1967، وهي ليست بعيدة عمّا نعيشه الآن، في فلسطين والشتات.

 

 

حسام معروف

 

شاعر ومحرّر. عضو هيئة تحرير مجلّة 28 الغزّيّة، ويدير أنشطتها. يدير صفحة بيانات الأدبيّة على 'فيسبوك'. عضو مؤسّس في التجمّع الشبابيّ من أجل المعرفة 'يوتوبيا'. حاصل على جائزة متحف محمود درويش عن قصيدة النثر (2015)، وجائزة مؤسّسة بدور التركي للتنمية الثقافيّة (2015) والتي صدرت في إطارها مجموعته الشعريّة، 'للموت رائحة الزجاج'.