الراوي مزاحمًا المؤلف في "وزر النوايا"

Alex Andrews

 

"وزر النوايا" رواية لنسرين طبري، صادرة عن دار الفارابي – بيروت، عام 2018، وهي تنقسم إلى ثلاثة أجزاء، وتتركّب في مجموعها من 22 فصلًا: عشرة فصول في الجزء الأوّل، وأربعة فصول في الجزء الثاني، وثمانية فصول في الجزء الثالث. تتناول في سبعة فصول من الجزء الأوّل، حالات شعوريّة تمرّ بها إحدى شخصيّات الرواية، صادق، وهي – فيما أعتقد - الشخصيّة الّتي أرادتها نسرين مركزيّة في روايتها. وتتناول أحداثًا وحالات خاصّة بشخصيّات أخرى أيضًا، بعض هذه الشخصيّات إنّما جاء ليلقي الضوء على شيء ما؛ ليكتمل معنًى أو صورة ما في الرواية.

مليكة، تدور حياة صادق حولها في جزأين وثلاثة فصول من الرواية، لتكون الشخصيّة المركزيّة الثانية. أقصد بالشخصيّة المركزيّة الشخصيّة الفاعلة في الرواية، وحولها تتمحور الأشياء، معاني وأحداثًا؛ هي "الّتي تقود الفعل وتدفعه إلى الأمام في الدراما والرواية، أو أيّ أعمال أدبيّة أخرى، وتعني الكلمة في أصلها اليونانيّ ’المقاتل الأوّل‘. وليس من الضروري أن تكون الشخصيّة الرئيسيّة بطل العمل دائمًا، ولكنّها دائمًا هي الشخصيّة المحوريّة، وقد يكون منافسًا لهذه الشخصيّة (Antagonist)".ن [1]

 

هذيان صادق

تبدأ الرواية بتصوير حالة من الهذيان يعيشها صادق؛ فنراه يرسم في الفراغ "خطوطًا لا يراها سواه"، يسمع "ذبذبة نداءات تناشده أن يخلّد أثرها، قبل أن يحين رحيلها". هي حالة من حالات الهذيان الّتي يعيشها، حالة تلو الحالة، لا يخرج منها، ينقلها إلينا الراوي بدقّة كبيرة، كأنّما هو من شخصيّات الرواية؛ فيتولّد لدينا الانطباع بأنّه من النوع الّذي يعيش ما تعيش شخوصه. لكنّنا عندما نرى أنّه يأتي بقصص سردتها نسوة عن مليكة، ثمّ رغم أنّ أحدًا لا يعرف حقيقتها، يتعامل معها على أنّها وقعت في حياة صادق، نصبح أكثر ميلًا للإيمان بأنّه يعيش حالة هذيان خاصّة به، بانفصال عمّا تعيشه الشخوص، بل أستطيع القول إنّ الراوي في "وزر النوايا"، مُنغمس في الأحداث كأنّه جزء منها، يكاد يكون فاعلًا فيها، ربّما سيكون من الدقّة أن أقول: إنّه يسلك وكأنّه المؤلّف ذاته.

 

 

أبدأ بتبيين فهمي هذا بالإشارة إلى أنّ الراوي لا يسرد قصص النسوة عن مليكة، ويبدأ بالتعامل معها والإحالة إليها على أنّها أحداث حقيقيّة، وقعت في حياة صادق فحسب، بل إنّه – أيضًا - لا يتقيّد بالأحداث كما كانت؛ فيحيل إلى أقوال شخص، على أنّها أقوال لأشخاص آخرين.

آتي ببعض أمثلة ثمّ بالتحليل:

كوشم في الذاكرة، لاحقته كلمات ختمت بها جميلة زيارتها أحلام يقظته ومنامه: "لم أجد في دنياي من يستحقّ أن يحفظ أثري إلّاك ..."، مثلما لاحقته كلمات صاحبة الصوت: "قصدتك ... أعرف جيّدًا ما أريد ...".[2]

تذكّر ترانيم مليكة، الّتي تحذّر الثوّار من اقتراب الخطر.

قفز من مكانه راكضًا باتّجاه الصوت، كان الصوت كالسراب في الصحراء يلمع في أذنيه، ويبتعد كلّما اقترب منه خطوات أخرى، ما زال الصوت يتحايل على مسامعه، يتنقّل من مكان إلى مكان. أرادت مليكة له أن يبتعد عن الخطر، وأراد هو أن يحتضن مليكة للمرّة الثانية، غير مُبالٍ أن تكون الأخيرة.[3]

في المقطع الأوّل، ينسب الراوي كلمات شخصيّة أخذت اسم صاحبة الصوت، إلى شخصيّة أخرى اسمها جميلة. أمّا في المقطع الثاني، فإنّ الراوي يتعامل مع إحدى القصص الّتي تسردها النسوة عن مليكة، على أنّها واقع، رغم أنّه - هو نفسه - ينبّه إلى أنّه لا يعرف أحد أيّ القصص أقرب إلى الحقيقة، بمن فيهم صادق. إنّ عدم معرفة صادق بهذه القصّة، يعني أنّ صوتها يحذّر الثوّار غير موجود بالنسبة إليه؛ وبهذا يكون الراوي قد صوّر حالة من خلقه هو، أتى بها من اللاشيء، كرغبته، لحاجته وغايته، وجعلها حقيقة.

 

في التمييز بين المؤلّف والراوي

أن ينسب أقوال شخص إلى آخرين، وأن يخلق قصّة ثمّ يتعامل معها على أنّها حدثت، فيهما مزاحمة للمؤلّف على تحديد المعاني، الأمر الّذي من الممكن للراوي أن يفعله، ولكن مراوغةً؛ فالراوي، وهو الشخص الّذي يسرد،[4] هو الوسيط الفنّيّ بين الأحداث ومتلقّيها،[5] وهو كائن متخيّل تقمَّصَه المؤلّف ليسرد.[6] وقد اتّفق العاملون في مجال النقد الأدبيّ، على ضرورة التمييز بينه والمؤلّف.[7] وفي هذا - أي في التمييز بين المؤلّف والراوي - يرى كايزير أنّ الراوي ليس المؤلّف، ولا شخصيّة متخيّلة في السرد القصصيّ، بل هو روح المحكيّ والخالق للعالم الروائيّ. ومهما حاول أن يصف العالم بدقّة كما هو، فإنّ وصفه لن يكون نسخًا بل خلقًا لعالم جديد.[8] وكذلك أيضًا يرى جنيت أنّ الراوي ما هو إلّا شيء تخيّليّ، وأنّ الخلط بينه والمؤلّف صنيعه، ربّما هو خلط مشروع في نمط القصص الواقعيّ، كالسيرة الذاتيّة أو القصّة التاريخيّة، ولكن هذا الخلط يفقد مشروعيّته ومصداقيّته عندما يتعلّق الأمر برواية متخيّلة.[9] وعلى النقيض منه، يرى بوتور أنّ الراوي، وإن كان شخصًا وهميًّا، إلّا أنّه يمثّل المؤلّف داخل النصّ السرديّ، هو الوسيط بين الحقيقة والوهم، هو نقطة الالتقاء بين عالم الخيال وعالم الواقع.[10]

 

حالة متطرّفة

إذا ما أخذنا كيفيّة سلوك الراوي في "وزر النوايا"، نجد أنّه حالة متطرّفة، ممثّلة لرأي كايزير، يتدخّل فيها الراوي في أحداث الرواية، ليس مراوغةً، بل من دون مواربة أيضًا؛ فعندما ينسب قول صاحبة الصوت إلى جميلة، وكذلك عندما ينسب قولها إلى مليكة، فهو بهذا يموضع صاحبة الصوت في الرواية، ليكشف عن شخص صادق، ويؤكّد بعض صفاته من ناحية، وليكشف عن علاقة جميلة ومليكة مع صادق من ناحية أخرى. إنّهما جميلة ومليكة، كما صاحبة الصوت، ترغبان لو تبقيان ذكرى لا تغيب، ترغبان لو يخلّدهما بريشته. وكما صاحبة الصوت، ليس أن يحفظ ذكراهما عنده، ليس أن يُبقي عليهما في حياته، بل أن يخلّد ذكراهما في الحياة؛ الأمر الّذي يعني أنّ علاقتهما به ليست الموضوع، بل تخليد ذكراهما، وحفظ أثرهما.

وبهذا؛ يكون الراوي قد سلّط الضوء على فكرة البقاء وحفظ الأثر من ناحية، ويكون قد أزاح صادق عن محور الاهتمام، لتأخذ مكانه فكرة البقاء وحفظ الأثر من ناحية أخرى.

لا حاجة إلى الكثير من أجل تأكيد فهمي بأنّهما لا تريدانه أن يحفظ أثرهما عنده، يكفي أن أذكر أنّ صاحبة الصوت تحدّثه، تحدّث صادقًا عن حبيب لها، يعشقها وتعشقه:

"شممتُ رائحته في ملح البحر، تحسّست زغب صدره في الطحالب النابتة على صخوره، لامست ثنايا جسده في تموّجات المياه المتكسّرة؛ من فعل مرور قوارب الصيد.

كثير الغياب كان، لكنّه اعتاد أن يترك لي صوته، في صدى الإنشاد المنبعث من حلقات الذكر".[11]

وعندما يتعامل مع قصّة سردتها النسوة عن مليكة، على أنّها حقيقة واقع، حدثت في حياة صادق، القصّة الّتي تقول إنّها ثائرة؛ فإنّ الراوي يرفع من شأنها نسبة إلى صادق، عبر الآتي:

هذيان صادق وفقدانه لبوصلة الاتّجاهات مقابل وضوح رؤيتها، مقابل مبادرة مليكة وأخذها زمام الأمور بيدها.

لم تكشف لنا الرواية عن طفولة مليكة، كما كشفت عن طفولة صادق، ولكنّ حياتها - في المقابل - كانت هاجسه، وكانت محطّ اهتمام البلاد من شمالها حتّى جنوبها؛ مَنْ هي؟ ومن أين جاءت؟ وماذا كانت تفعل في حياتها؟ بينما حياته لم تكن محطّ اهتمام أحد سوى جدّته، وهو اهتمام نابع من كونه حفيدها.

هو، صادق، يُشعل فضلاته ليتدفّأ، وهي، مليكة، الثائرة.

لا أقول إنّ الإعلاء، بحدّ ذاته، من شأن أحد الشخوص، كفيل بأن يجعل منها شخصيّة مركزيّة، ولا هو شرط ضروريّ لأن تكون كذلك؛ فقد تكون الشخصيّة المركزيّة حثالة، وقد تكون وضيعة، مثلما قد تكون بطلًا مثالًا يُحتذى حذوه، غير أنّ خلق قصّة من أجل الإعلاء من شأنها - وكان صادق قد بدأ يتحوّل في ثلاثة فصول من الجزء الأوّل: الثامن والتاسع والعاشر، إلى قاصّ أثر لها - جعل منها شخصيّة مركزيّة يُحتذى بها، حوْلها وحدها دارت الأحداث، وتمحورت في الجزأين الثاني والثالث؛ الأمر الّذي بشّر به الراوي مع نهاية الجزء الأوّل:

"تَمَلْمَل، تقلّب، تلوّى. جَنَح يمينًا، جَنَح يسارًا، وَثَبَ كَمَنْ شقّ نَعْشَهُ، كَمَنْ كسَرَ شاهِدَ قَبرِه، أزال بكفّيه أثر الغيث عن وجهه، ودَمْدَمَ بشفاه عاودها الدفء، ‘مليكة، مُرادي في هذه الحياة مليكة‘".[12]

تحوّله إلى قاصّ لأثر مليكة، وتَمحْوُر الأحداث في الجزأين الثاني والثالث حولها وحدها، يُزيح صادقًا عن مركز الرواية، لتأخذ مكانه مليكة الثائرة؛ هذا إن سلّمنا بأنّه كان شخصيّة مركزيّة في الجزء الأوّل.

 

*****

 

[1] إبراهيم فتحي، معجم المصطلحات الأدبيّة (صفاقس: المؤسّسة العربيّة للناشرين المتّحدين، 1986)، ص 210.

[2] نسرين طبري، وزر النوايا (بيروت: دار الفارابي، 2018)، ص 34.

[3] المرجع نفسه، ص 81.

[4] جيرالد برنس، المصطلح السرديّ معجم مصطلحات، ترجمة عابد خزندار (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003)، ص 158.

[5] سعيد علّوش، معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة (بيروت: دار الكتاب اللبنانيّ، 1985)، ص 111.

[6] ولغ غانغ كايزير، "مَنْ يحكي الرواية"، ترجمة محمّد أسويرتي، في: طرائق تحليل السرد الأدبيّ (دراسات) (الرباط: منشورات اتّحاد كتّاب المغرب، 1992)، ص 113.

[7] محمّد نجيب العمامي، الراوي في السرد العربيّ المعاصر – رواية الثمانينات في تونس (سوسة: دار محمّد علي الحامي وكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، 2001)، ص 5 – 8.

[8] كايزير، المصدر نفسه، ص 117 – 119.

[9] جيرار جنيت، خطاب الحكاية - بحث في المنهج، ترجمة محمّد معتصم (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ، 2000)، الفصل التاسع عشر.

[10] ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس (بيروت: منشورات عويدات، 1986) ص 65 – 66.

[11] طبري، المرجع نفسه، ص16 – 17.

[12] المرجع نفسه، ص 68.

 

 

جمال ضاهر

 

روائيّ وباحث في مجال المنطق وعرب ما قبل الدعوة الإسلاميّة. رئيس دائرة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة بير زيت، ومدير برنامج ماجستير الدراسات العربيّة فيها. ممّا صدر له: "‘عند حضور المكان" (رواية، 2000)، "وأضحى الليل أقصر" (رواية، 2005)، "مفاهيم في المنطق، أسس وقواعد" (2010)، "قواعد في المنطق: أسس ومفاهيم" (2012)، "العدم" (رواية، 2013).