"القنديل الصغير" لكنفاني... لا شمس للحاكم دون ناسه

من قصّة «القنديل الصغير» للشهيد غسّان كنفاني

 

يموت الملك، وفجأة يُلقى على كاهل طفلته، غير المُهَيَّأة بعد لإدارة نفسها، إدارة شؤون البلاد والعباد. يرحل الملك تاركًا وراءه وصيّة مقتضبة للطفلة، يقول فيها: "كي تصبحي ملكة يجب أن تحملي الشمس إلى القصر". ثمّ بعدها تبدأ المغامرة في قصّة «القنديل الصغير» (1975)، الّتي يضعنا غسّان كنفاني، قاصّ القصّة وراسمها، في قلبها.

 

الغرفة المغلقة لن تأتي بالشمس

منذ بداية القصّة، ودون أن يترك كنفاني لنا أو للطفلة وقتًا لنضوج الحزن على وفاة أبيها الملك، يضعنا في تحدٍّ أساسيّ: نحن أمام حدث جلل؛ فالبلاد ليس لها مَنْ يدير أمرها، وعلى طفلة (وليست فتاة)، أنثى (وليست ذكرًا)، أن تكون أهلًا لهذه المسؤوليّة الشاقّة.

تبدأ الطفلة، الّتي ليس لها اسم كباقي شخصيّات القصّة، بتنفيذ وصيّة أبيها. تصعد إلى الجبل العالي محاولةً جلب الشمس، لكنّها تصطدم بالواقع المادّيّ، فالشمس أعلى ممّا ظنّت...

تبدأ الطفلة، الّتي ليس لها اسم كباقي شخصيّات القصّة، بتنفيذ وصيّة أبيها. تصعد إلى الجبل العالي محاولةً جلب الشمس، لكنّها تصطدم بالواقع المادّيّ، فالشمس أعلى ممّا ظنّت، كما ليس بالإمكان الإمساك بها. تطلب مساعدة حكيم القصر، فيرفض مبرّرًا بأنّ عليها أن تجد الحلّ لتنفيذ الوصيّة وحدها. تطلب مساعدة الناس أيضًا، يتّهمها البعض بالجنون، ولم يستطع أحد مساعدتها. وكان ثمّة موقّت، هو الشمعة الّتي أشعلها الحكيم حين وفاة أبيها، وهي ما إن تنتهي حتّى تنتهي معها فرصة الطفلة بالنجاح في أن تصبح ملكة حقًّا، ويحقّ عليها العقاب.

أثناء رحلتها في حلّ اللغز، تعرّضت الطفلة إلى خيبات أمل أشبه بالاكتئاب؛ تغلق باب غرفتها على نفسها، وتشرع في البكاء. كانت رسائل حكيمة تُلْقى إليها من أسفل باب غرفتها، فتكون كفيلة بعلاج حزنها وشحذ طاقتها من جديد. إحدى هذه الرسائل كان مكتوبًا فيها: "لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة."

 

جماعيّة الحلّ

وفي إحدى الليالي يأتي على القصر عجوز فقير الحال، يحمل في يديه قنديلًا صغيرًا، يطلب من الحرّاس أن يُدْخِلوه إلى الطفلة حتّى يساعدها، فيستهزئ الحرس به ويطردونه؛ فيقول لهم: "إذا لم يكن بوسع عجوز أن يدخل إلى قصرها فكيف تطمع أن تُدْخِل الشمس إليه؟".

أثناء ذلك، كانت الطفلة على شبّاك غرفتها تنصت إلى الحوار، ورنّت جملة العجوز في أذنيها، لذا نزلت إليه مسرعة، إلّا أنّه كان قد ذهب. تطلب الطفلة بعدها من قائد الحرس أن يأتي لها بجميع مَنْ يحمل فانوسًا صغيرًا في يده، حتّى تعثر على العجوز؛ فما كان إلّا أن وفد إلى القصر الكثير من الرجال الّذين يحملون الفوانيس الصغيرة، ولكثرتهم لم يستطيعوا العبور إلى القصر بسبب ضيق بوّاباته؛ لذا أمرت بهدم الأسوار حتّى تُيَسِّر دخولهم إلى القصر، ثمّ نزلت إليهم فكانت أضواء القناديل كالشمس في عينيها. وما إن انجلى الليل وطلعت الشمس، حتّى دخلت عبر الشبابيك إلى القصر، فعلًا لا مجازًا؛ لأنّ الطفلة الملكة قد هدمت أسوار القصر العالية الّتي كانت تحجب الشمس، كما تحجب الناس.

عوامّ الناس هم الكفلاء في إيصال الملك إلى مُلْكِه، وهم الكفلاء في وقوف المملكة على رجليها ونجاح تجربتها؛ هذا هو الدرس التربويّ الّذي يُعِدّه كنفاني إلى الصغار.

عوامّ الناس هم الكفلاء في إيصال الملك إلى مُلْكِه، وهم الكفلاء في وقوف المملكة على رجليها ونجاح تجربتها؛ هذا هو الدرس التربويّ الّذي يُعِدّه كنفاني إلى الصغار.

 

يعرض كنفاني مجموعة حلول مجتمعة دفعة واحدة لفكّ عقدة القصّة، المتمثّلة بتحدّي إدخال الشمس إلى القصر. العائلة، أولى تلك الحلول، وذلك حين تسعى جاهدةً إلى تنفيذ وصيّة أبيها الملك. الحكيم، الّذي يظلّ بخفّة مرافقًا للطفلة طوال القصّة. الطبقات المهمّشة؛ عامّة الناس وفقراؤهم وعجائزهم. فالحفاظ على المملكة، لم يكن دون التواصل مع هذه المفاعيل مجتمعة وجماعة، فإزالة الأبواب الكبيرة وهدم الأسوار العالية كي يدخل الناس، ومن ثَمّ دخول الشمس على القصر، تعبير على أنّ الحلّ جماعيّ؛ أنّ اليد الواحدة مثلما ليس بمقدورها التصفيق، لا تستطيع حمل جميع الفوانيس، ولا الشمس كذلك. الجماعة هي الباب المؤدّي إلى تحقيق الأهداف السامية، "فيدُ الله مع الجماعة" كما يقول الرسول محمّد (ص).

 

تجاوز الهزيمة

تأتي قصّة «القنديل الصغير»، وهي إحدى إنتاجات «دار الفتى العربي» ضمن سلسلة «الأفق الجديد»، بعد 8 سنوات على نكسة عام 1967. يحمل كنفاني ثقل الهزيمة هذه، فيعيد إنتاجها على صورة موت سريع يجب ألّا يستغرق الحزن عليه وقتًا، بل يجب الاستمرار؛ "إنّ البكاء والحزن لا يحلّان المشاكل". كانت تلك إحدى الرسائل إلى الطفلة، يمرّر خلالها كنفاني فلسفته في المواجهة بهذا النفس الثوريّ. يكفي أن يأخذ الجيل الصاعد من الجيل الّذي عايش النكسة النصيحة والوصيّة، دون أن يعني ذلك أخذ التراكم النفسيّ المهزوم والمحبط لهذا الجيل؛ ففي القصّة انعكاسات للهزيمة، وربّما بعض أسبابها، والأهمّ أنّ فيها عرضًا للأزمة الّتي تعاني منها الشعوب مع حكّامها، وحلّ لهذه الأزمة، وتمرير ذلك إلى الجيل القادم.

إنّ أدب الأطفال، في إحدى مداخلاته، هو ترحيل الكبار؛ مشكلاتهم وأزماتهم، إلى عالم الصغار؛ وهو ما يفعله كنفاني، حين ينقل بذكاء، وعبر عالم من خيال وجمال، تبعات اللحظة الشعوريّة الّتي تولّدت من هزيمة عام 1967. إنّها لحظة هزيمة ستنعكس على أدب الأطفال بشكل واضح، منها دَفْعُ المؤلّف إلى أن تكون الطفلة ابنة الحاكم بطلة، وليست مجرّد ملكة؛ فلو أنّه غير مبالٍ بالبطولة، لاستلمت الطفلة الحكم دون شروط، لكن شرط حمل الشمس إلى القصر يتوجّب على الطفلة صفة البطولة. لذا؛ تظهر البطولة في القصّة، أحد عناصر الشخصيّة المهمّة لعدم تكرار النكسة. إنّها "استدعاء البطولة من بنية الهزيمة عند المؤلّفين والحالة"، كما يعبّر إسماعيل ناشف في كتابه «طفولة حزيران: مدوّنة دار الفتى العربيّ وأدب المأساة» (مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، 2016).

 

"التاريخ لا ينتظر أحدًا"

ثمّ إنّ التنصّل من المسؤوليّة لم يكن خيارًا؛ "وقد عاشت مملكتنا بسعادة دائمة؛ لأنّ كلّ واحد فيها يعرف واجبه ولا يهرب منه"، قال لها الحكيم. ويكشف النصّ تأثّرًا بقيم ليبراليّة الطابع، فيها الحقوق والواجبات أساس لاستمرار المجتمع، ويحمل الطفل كما الكبير مسؤوليّة فيه. وتنحرم الطفلة بذلك من طفولتها (وهو واقع فلسطينيّ) حين لا تُخالِط إلّا شخصيّات من عالم الكبار: حكيم القصر، قائد الحرس، رجال القناديل الصغيرة.

تظهر الشخوص دون أسماء، في إشارة مباشرة إلى معنى كلّ شخصيّة. حكيم القصر، يمثّل الحكمة الّتي على المرء أن يتحلّى بها. قائد الحرس، الّذي مثّل القوّة الّتي هي بحاجة إلى توجيه. رجال القناديل الصغيرة، الّذين يمثّلون العوامّ والطبقات المهمّشة والفقيرة.

يدلف كنفاني حلوله على عالم الصغار، وبحذر شديد يخبرهم بأنّ العالم ليس ورديًّا حين تتأزّم الطفلة بمسألة الوقت وذوبان الشمعة، وكأنّه يخبرها بالمقولة اليساريّة المعروفة "التاريخ لا ينتظر أحدًا".

كان طابع روايات كنفاني الموجّهة إلى الكبار مجبولًا بالحزن، تصف الواقع أكثر ممّا تحرّره، تتحدّث عن الوقائع أكثر من الأحلام، وتؤرّخ للهزائم أكثر ممّا تفتح لنصر قادم. اقرأ(ي) روايات «رجال في الشمس» (1963) و«عائد إلى حيفا» (1969) و«أمّ سعد» (1969)، وستخرج(ين) بنفسيّة متعبة بعض الشيء. أمّا مثل هذه الموجّهة إلى الأطفال، فإنّها تحاول أن تقطع مع كلّ مشاعر مهزومة، وتضع ركائز أساسيّة للأمل وتحقيق العدل، فهي قصّة تربويّة وقيميّة الطابع.

يدلف كنفاني حلوله على عالم الصغار، وبحذر شديد يخبرهم بأنّ العالم ليس ورديًّا حين تتأزّم الطفلة بمسألة الوقت وذوبان الشمعة، وكأنّه يخبرها بالمقولة اليساريّة المعروفة "التاريخ لا ينتظر أحدًا". ومن عالمه المحاط بنكسات وأزمات وأيديولوجيّات، يغرف ويسكب على الأطفال. بتسلسل بسيط ومرمّز ومشوّق، وبجمل استعارتها محفّزة للنفس، يسعى إلى إضفاء معنًى ما لكلمة "صغير"، فالأطفال الصغار والقناديل الصغيرة إذا اجتمعوا كان بإمكانهم جَلْب الشمس إلى حيث يريدون، إلى القصر، أو إلى "أفق جديد" ربّما. 

 


مثنّى خميس

 

 

كاتب وصحافيّ من فلسطين. وُلِدَ في طولكرم، وتعود جذوره إلى مدينة يافا. يدرس ماجستير علم الاجتماع في «جامعة بيرزيت»، ويعمل مساعدًا للتدريس فيها.