نيتشه والتاريخ: قراءة في بداية الأحاديث المعادية للنساء

«غرفة الثعابين» (1882) للرسّام اليونانيّ ثيودور راليس

 

يشكّك دولوز مستندًا إلى نيتشه في صحّة سؤال تاريخ الميتافيزيقيا، كما هي عند أفلاطون وسقراط، بـ "ما هو؟"، أي، ما هو الجمال؟ ما هو الخير؟ ما هو العادل؟ حيث يرى دولوز في قراءته لنيتشه، أنّ مجرّد صياغة السؤال بهذه الطريقة، أي الـ "ما هو" الجمال، هو حمق في حدّ ذاته. فهو سؤال غير شرعيّ، أو غير مطروح بطريقة جيّدة توصل إلى الجوهر المطلوب. بينما تنبع طريقة نيتشه في السؤال من فكرته حول الإرادة؛ الإرادة الّتي ينجلي خلفها معنى الفعل، والقول، والإيمان، والفنّ، وهي الّتي تعدّ أعراضًا لتلك الإرادة الخفيّة؛ فنقول:" ماذا يريد ذلك الّذي يقول هذا؟ وماذا يريد ذلك الّذي يفكّر بهذا؟ وماذا يريد ذلك الّذي يشعر بهذا؟".

إنّ السؤال الأصحّ، بحسب نيتشه، هو أن نقول:"ماذا يريد الّذي يبحث عن الحقيقة؟، و"ماذا يريد الّذي يقول التاريخ؟ و"ما هي السلطة الّتي امتلكها لتمكّنه من القول؟".

من هذه النقطة أرى بأهمّية تناول تراثنا في الواقع العربيّ، استنادًا إلى نهج نيتشه الجنيالوجيّ؛ فنحن بحاجة إلى «منهج» نيتشه لمحاكمة تاريخنا. أي أنّنا بحاجة لتاريخ نقديّ، كما وصفه في النوع الثالث من التاريخ في كتابه «محاسن التاريخ ومساوئه»، وذلك لا يتمّ إلّا من خلال الفيلسوف المؤوّل، والمجترح، والطبيب، الّذي يؤسّس لذاكرة مضادّة للتاريخ تحول دون تكلّسه.

 

السرديّات الكبرى وسرديّات النساء الصغرى

يرى نيتشه، وعلى غراره سارت المدرسة الفرنسيّة من أمثال فوكو ودريدا، أنّ الفلسفة هي ممارسة واقعيّة لثقافة مضادّة، وقد طرح الفيلسوف ليوتار عام 1979 مقولته حول السرديّات الكبرى، والّتي تحوّلت إلى مصطلح عامّ يتمّ تداوله على نطاق واسع في حقل الدراسات الثقافيّة. وسرعان ما أصبحت السرديّات الكبرى مفهومًا مرجعيًّا يسمح للباحث الثقافيّ بدراسة وتحليل ونقد مختلف الظواهر الثقافيّة والفكريّة الّتي تظهر في مجتمع معيّن.

السرديّات الكبرى هي ذلك النمط من الخطابات الّتي تتمركز حولها افتراضاتها المسبقة، ولا تسمح بالتعدّديّة، والاختلاف، أو تنوّع السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة...

والسرديّات الكبرى هي ذلك النمط من الخطابات الّتي تتمركز حولها افتراضاتها المسبقة، ولا تسمح بالتعدّديّة، والاختلاف، أو تنوّع السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة. إضافة إلى إنكارها لإمكانيّة قيام أيّ نوع من أنواع المعرفة أو الحقيقة خارجها، ومقاومتها لأيّ محاولة للتغيير، أو النقد، أو المراجعة.

وفي مقابل السرديّات الكبرى، يقترح ليوتار مفهوم السرديّات الصغرى بوصفه بديلًا نظريًّا ومعرفيًّا. والسرديّات الصغرى هي الخطابات الّتي تتشكّل من قِبَلِ جماعات أو تجمّعات معيّنة لتحقيق أهداف محدّدة ذات طبيعة مرحليّة، ووقتيّة، وبراغماتيّة، ولا تحمل الطابع الشموليّ ولا السلطويّ القسريّ للسرديّات الكبرى.

قد نستطيع تطبيق الدراسة الجنيالوجيّة لإحدى السرديّات الكبرى والمهيمنة، والّتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسلطة عبر التاريخ، والّتي ساهمت تراكميًّا في خلق صورة وواقع المرأة في العالم العربيّ الإسلاميّ، وهي سرديّة الأحاديث (المنسوبة إلى النبيّ محمّد) المعادية للنساء. والّتي ساهمت في تكوين عدّة صور اجتماعيّة لهنّ ساهمت في شيطنتهنّ، أو الترويج لقلّة فهمهنّ أو كفاءتهنّ، وغير ذلك من الصور الّتي حدّت من مشاركتهنّ في الحيّز العام، وحوّلتهنّ إلى كائنات بحاجة إلى الربط والعناية ليبقين على قيد الحياة، ممّا أحكم السيطرة عليهنّ.

والإرث التاريخيّ الّذي يخلّفه لنا الأصل، ثمّ تُصنْعُ منه تلك الحقائق، على درجة من الخطورة الّتي ينبغي أن ننتبه لها دومًا؛ فهذا الإرث، كما يراه نتيشه، ليس مكسبًا ولا رصيدًا يتراكم ويتعزّز، بقدر ما هو جملة من الشروخ والتصدّعات غير المتجانسة الّتي تجعله غير ثابت، وتعمل من الداخل على تهديد الوريث الهشّ، أي نحن.

إنّ الظلم وعدم الاستقرار في أذهان الناس، وكذلك الاختلالات وفقدان المقاييس المعيشة، كلّها ثمرة لانعدام الصواب المنطقيّ ولنقص التعمّق، والاعتماد على الخلاصات المتسرّعة الّتي اقترفها الأسلاف. لكنّ البحث عن المصدر لا يؤسِّس، بل فقط يربك ما ندركه ثابتًا، ويُجزّئ ما نراه موحّدًا، ويجعلنا نجدُ اللا تجانس في المطابق لذاته. فليس ثمّة بعد ذلك قناعة أو معرفة تَثْبُتْ، فالجنيالوجيا سُرعان ما تكشف عمّن يتظاهرون بالنزاهة والموضوعيّة.

وفي ذلك مهّدت فاطمة المرنيسيّ للبحث الجنيالوجيّ في نقد وتشريح التاريخ الإسلاميّ وبداية الأحاديث (المنسوبة إلى النبيّ محمّد) المعادية للنساء من خلال كتابها «الحريم السياسيّ». وذلك من خلال رصدها للدوافع المادّيّة، والاجتماعيّة، والنفسيّة للرّواة، والمرتبطة بشكل وثيق بالسلطة وموازين القوّة في ذلك الوقت، وتلك هي العوامل الّتي أكّد نيتشه على ضرورة ملاحظتها عند نقد التاريخ.

 

بدايات ظهور الأحاديث المعادية للنساء

رُوِيَ في «صحيح البخاري» حديث «لم يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة»، وأخِذَ هذا الحديث عن أبي بكرة الثقفيّ، وفي إطاره سنحاول دراسة القصّة جنيالوجيًّا، وتفكيك ظروفها، ودوافع روايتها النفسيّة والاجتماعيّة.

إنّ الحدث الّذي رُوِيَ بمناسبته الحديث كان موت كسرى ملك الفرس، وتولّي ابنته المنصب بعد موته. وإن تتبّعنا الخطّ الناظم لهذه الرواية في سياق ظروف روايتها التاريخيّة الاجتماعيّة والنفسيّة، سنجد هنالك ما يمكن مُحاكمته.

الإرث التاريخيّ الّذي يخلّفه لنا الأصل، ثمّ تُصنْعُ منه تلك الحقائق، على درجة من الخطورة الّتي ينبغي أن ننتبه لها دومًا...

رُوِيَ الحديث بعد واقعة الجمل، إثر الخلاف الشهير الّذي دار بين عليّ وعائشة، وكان أبو بكرة الثقفيّ من أولئك الّذين حرَّرهم الإسلام من العبوديّة، وبنى له مكانة اجتماعيّة مرموقة في مجتمع البصرة. كان أبو بكرة، في بداية الحدث، من الممتنعين عن التدخّل في خلاف عليّ وعائشة أو التصريح بالوقوف ضدّ طرف من الأطراف، لخوفه من أيّ حرب أهليّة تهدّد مكانته واستقراره الاجتماعيّ.

لكن، وبعد انتصار عليّ ودخوله البصرة، وبعد ربع قرن من تاريخ رواية الحديث المنسوب إلى أبي بكرة الثقفيّ، تذكّر الثقفيّ بشكل فُجائيّ ذلك الحديث الّذي قد يؤمّن له الحماية من عليّ المنتصر، فراوه من باب النفاق والخوف، وهُما، أي الخوف والنفاق، من تلك الأسباب البسيطة الّتي يُشير إليها نيتشه على أنّها مصدر للوقوع في الخطا:"إنّ الجبن والنفاق كلاهما عطاء بسيط من عطاءات الخطأ".

وثمّة من جهة أخرى ما يدعو إلى التشكيك في صحّة الحديث، وهي الصفات الّتي لا بدّ من انطباقها على الرواة، والّتي كان يحرص البخاريّ على الأخذ بها؛ ومنها الاستعداد العقليّ، والبعد عن الجهل، والنسق الخلقيّ، وعدم التأثّر بالعواطف. فهل انطبقت تلك الصفات على الثقفيّ؟

ثمّة في تاريخ الثقفيّ حادثة تنفي انطباق تلك الصفات عليه، وهو ما ورد عن ابن الأثير أنّ الثقفيّ كان قد شارك في شهادة زور تتعلّق بحادثة زنا اتُّهِمَ فيها المغيرة بن شعبة، وهو شخصيّة سياسيّة متمكّنة. وكان الثقفيّ قد جُلِدَ على إثر انجلاء الحقيقة، وذلك ما يدعو إلى إعادة التفكير في شخصيّته، وصفاته، ودوافعه.

 

انحرافات الأجيال السابقة

كذلك ثمّة توافق بين سياق رواية الحديث التاريخيّ وبين منابع السلطة الّتي تحدّث عنها نيتشه؛ فقد شكّل انتصار عليّ على عائشة حادثة تدلّ على قدسيّة النصّ، أي حديث:"لم يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، وهو النصّ الّذي استُخْدِمَ في النقاشات العربيّة كحجّة على عدم قدرة المرأة على التفكير أو تحمّل المسؤوليّة العامّة، وحاجتها الدائمة إلى وصيّ. وكذلك استُخْدِمَ النصّ لتفسير هزيمة عائشة بوصف النصّ نصًّا مقدّسًا. 

لكن، وبحسب ما يصف نيتشه:"يتوجّب أن يتّضح لنا أنّ وجود شيء ما، مثل وجود امتياز، أو طائفة، أو أسرة ملكيّة، أمر غير عادل، وأنّ هذا الشيء يستحقّ الزوال. وإذا ما نظرنا نقديًّا إلى ماضي هذا الشيء، فإنّنا سنقطعه بالسكّين من جذوره، ونضرب صفحًا عن كلّ أشياء التقديس، وهو لعمري التطوّر الخطير دومًا، وهو خطر يُحْدِقُ بالحياة نفسها. إنّ البشر والحقب الّتي تخدم الحياة عبر محاكمتها وتدميرها الماضي، هما في الآن نفسه خطر، ومعرّضات للخطر. ذلك أنّه في الوقت الّذي نمثّل فيه حصيلة للأجيال السابقة، فإنّ ذلك يعني أنّنا في الآن نفسه نتيجة لانحرافات هذه الأجيال، ورغباتها، وأخطائها، بل لجرائمها. ويصعب علينا التحرّر كلّيًّا من هذا الإرث، وحتّى إذا حاكمنا تلك الانحرافات واعتبرناها لاغيةً، فإنّنا لا نلغي عبر ذلك حقيقة أنّنا ننحدر منها، بل في أحسن الأحوال نصل إلى صراع بين طبيعتنا المتوارثة ومعرفتنا، ولربّما أيضًا إلى صراع تنشئة جديدة وصارمة. وما تلقّيناه عبر التربية والولادة، فنزرع في داخلنا عادة جديدة، وغريزة جديدة، وطبيعة ثانية، بشكل يدفع بالطبيعة الأولى إلى الانحدار".

في الوقت الّذي نمثّل فيه حصيلة للأجيال السابقة، فإنّ ذلك يعني أنّنا في الآن نفسه نتيجة لانحرافات هذه الأجيال، ورغباتها، وأخطائها، بل لجرائمها...

يصف نيتشه في نصّه هذا ما تمرّ به المرأة العربيّة اليوم في صراعها مع انحرافات ورغبات الأجيال السابقة في روايتها الدخيلة على النصّ المقدّس. حتّى باتت النساء يصدّقن تلك الروايات وغدت جزءًا من طبيعتهنّ الّتي يحاربن لأجلها؛ فمحاولة تفكيك ذلك الإرث وهزّه تُوَاجَهُ بالعداء من قِبَل النساء أكثر من الرجال، لأنّ ما تربّين عليه طوال الوقت كان حصيلة سنوات طويلة من التدجين، وبالخروج عنه أو تكذيبه سنكون خرجنا عن طاعة الإله، والدين، وطُرِدْنا من رحمة المجتمع. ونجد أنّ الكثير من الروايات من «صحيح البخاريّ» والواردة على لسان أبو بكرة الثقفيّ أو أبو هريرة، ورغم كلّ دوافعها الّتي تحتاج إلى دراسة جنيالوجيّة معمّقة والّتي توضّح إمكانيّة الخطأ فيها، إلّا أنّها باتت نصوصًا مقدّسة يصعب الاقتراب منها مثلها مثل القرآن. وبذلك فإنّنا حتّى وإن بيّنا تلك الانحرافات، فلن نتمكّن من إلغاء واقع تجذّرها في المجتمعات الإسلاميّة ومساهمتها في خلق الصورة المقنّنة عن المرأة والمهينة لها، والّتي تُحْكِمُ السيطرة عليها من كلّ الجوانب لتحقيق مصلحة المهيمن على الدوام.

 

 


مصادر

ميشيل فوكو. جنيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي (الدار البيضاء: دار توبيقال للنشر، 2008). 

 فاطمة المرنيسي. الحريم السياسيّ، ترجمة عبد الهادي عبّاس (دمشق : دار الحصاد، 2013).

جيل دولوز. نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج (بيروت: المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، 1993).

معن الطائي. السرديّات المضادّة بحث في طبيعة التحوّلات الثقافيّة (بيروت : المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2014).

عبد الله الغذامي. المرأة واللغة (بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 1996).

فريدرك نيتشه. محاسن التاريخ ومساوؤه، ترجمة رشيد بو طيّب (الدوحة: منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، 2019).

فريدرك نيتشه. ما وراء الخير والشر: تباشير فلسفة للمستقبل (بيروت: دار الفارابي، 2003).

محمد أندلسي. نيتشه وسياسة الفلسفة (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2006).

 


 

إسلام كمال

 

 

كاتبة فلسطينيّة وحاصلة على درجة الماجستير في «الفلسفة» من «معهد الدوحة للدراسات العليا». يصدر لها قريبًا كتاب «الجنسانيّة في الهزيمة والانتصار» عن «مركز دراسات ثقافات المتوسّط».