ماذا بعد فلسطينيًّا... أين يبدأ العنف وينتهي؟

شبّان يعتدون على فعاليّة لمسرح «عشتار» في رام الله، 8 تمّوز (يوليو) 2022.

 

في وسط الكمّ الكبير مؤخّرًا من حوادث العنف المبنيّة على أساس جندريّ والخطابات المتّصلة بها، لم يعد التساؤل عن موقعنا منها رفاهية أو خيارًا، خاصّة وأنّ الأمر لم يعد محدّدًا بتعريف ووصف يسهّل علينا موضعة كلّ طرف في العلاقة مع تلك الأجساد والذوات الّتي يقع عليها العنف، على مسافة منّا تضمن درجة من درجات الانفصال عنها، أو حتّى التعامل مع وجودها وما وقع عليها باعتباره أمرًا اختياريًّا؛ فما يحدث من وقائع قتل واعتداء وعنف إنّما يقع على مقربة منّا جميعًا، بما يكاد يتماسّ مع أجسادنا، بشكل يؤكّد موقع كلّ فرد منّا في بنية سياق العنف، بشكل واعٍ أو غير واعٍ.  

فمثلًا، كنت قد نشرت مادّة سابقة تتناول التماهي بين منظومات الدين والدولة والثقافة في موقعها من الجسد، وكيف أنّ بنية السلطة – وأفرادها - في تلك المنظومات، تتماهى مع بعضها في موقفها المعنِّف للجسد عمومًا، والأنثويّ منه تحديدًا، وكيفيّة إنتاج ذكر ألفا، بما يضمن استمراريّة اقتصاد العنف وسياساته. علّق أحدهم على المادّة معتبرًا إيّاها دعوةً لانفلات الجسد من عقاله، وأنّ الجسد وبالذات المؤنّث - وبالتالي المثليّ بما هو يحمل أيضًا ديناميّات الاختلاف ’الهويّاتيّ‘ - المنفلت، والانفلات شكل من أشكال الغيريّة، يشكّل تهديدًا للأخلاق والوطن، ولفلسطين تحديدًا.

مساحات الثقافة والمعرفة والسياسة والدين هي مساحات تشكيل وإنتاج للجسد - المعقلن والمسيّس والمثقّف - بقدر ما يشكّلها هو، أي أنّ الجسد هو العتبة الأولى الّتي تمرّ من خلالها المظاهر الخطابيّة لتلك المساحات...

 نصيغ هنا ذلك التعليق بطريقة تساؤل: هل ضبط الجسد ضروريّ لضبط الوطن، والمعرفة، والثقافة وغيرها؟ بداية، لا جديد في قول نعم، ثمّة علاقة بين الجسد والفضاءات الرمزيّة والخطابيّة المكانيّة له، ومساحات التفاوض معها، والعكس صحيح؛ فمساحات الثقافة والمعرفة والسياسة والدين هي مساحات تشكيل وإنتاج للجسد - المعقلن والمسيّس والمثقّف - بقدر ما يشكّلها هو، أي أنّ الجسد هو العتبة الأولى الّتي تمرّ من خلالها - قمعًا، تفاوضًا أو حتّى تواطؤًا - المظاهر الخطابيّة لتلك المساحات، وسرديّتها المخياليّة الجمعيّة والفرديّة. إذن، فنحن – بأجسادنا - جزء من تلك البنية، فاعلون ومنفعلون مع آليّات الضبط الاجتماعيّ تلك. أي أنّنا جزء من تلك العلاقة بما هي أثر ومؤثّر متبادل، لكنّ موقعيّتنا هي أيضًا جزء من فاعليّتنا في، أو مع، أو ضدّ سياسات الضبط تلك. لعلّ هذا ما يفرّق بين ’القمع‘ و’الاحترام‘، ومن الجدير بالذكر أنّ البحث عن عكس لكلمة ’قمع‘ يوضّح موقعنا اللغويّ؛ فنحن نعايش القمع بأجسادنا من خلال مؤسّسات الدولة، واللغة متى تَدَوْلَنَتْ كان لها نفس الأثر على أجسادنا.

 

المعرفة ’الإبستمولوجيا‘

ثمّة حاجة لاستدعاء بعض نماذج تدرّج العنف من الرمزيّ والتأويليّ الخفيّ وصولًا إلى العنف المادّيّ الظاهر، والجسد ممتدّ بينهما، وأوّل هذه النماذج هو نموذج المعرفة ’الإبستمولوجيا‘. إنّ فصل الموقعيّة أو ما يعرف بالإنجليزيّة بالـ Positionality، أي موقع الذات من أو داخل الظاهرة موضع التأمّل والتحليل، عن موقع إنتاج المعنى والوجود المجتمعيّ والمعرفيّ، يمثّل إحدى أدوات القمع المعرفيّ الممارس علينا بوصفنا مستعمَرين، وذلك ليس بالنقد الجديد لمباني العنف الإبستيميّ، أي المعرفيّ. فمثلًا، لا يمكن لنا إدراج النظريّات الكويريّة وتأمّلها ضمن سياق معرفيّ بحثيّ وإبستيميّ إن فُكِّرَ فيها بوصفها تعالج التوجّهات الجنسيّة الفرديّة بمعناها الجسديّ والرغائبيّ حصرًا. 

يمكن تتبّع هذه الفرضيّة إلى جذورها السيكولوجيّة وما تسقطه من تعميم اعتباطيّ عن الكويريّة والجندر والنسويّة وعلاقتهم بالإنجاز والأداء الاجتماعيّ، والبحثيّ، والمعرفيّ، بالاستعانة بمداخلة نانسي تشودرو في كتابها «إعادة إنتاج الأمومة» الّتي تقول فيه إنّ الاتّصال الحميميّ بين الأمّ وابنتها في مراحل الطفولة والتنشئة يصبغ نفسيّة الابنة بميل  جنسانيّ ينزع نحو الرغبة في تكوين وإنشاء علاقة انتمائيّة يكون فيها الحبّ هو القيمة الأولى. في المقابل، يبتعد الابن عن مصدر الحبّ الأوّل، أي الأمّ، ليتعلّم كيف يصبح رجلًا. يستبدل الأب هنا الأمّ، بطبيعته النازعة عادة نحو الأداء والإنجاز، ممّا يُنشئ جنسانيّة مماثلة تنزع نحو الأداء وتنظر من خلال الجسد إلى  العمليّة الجنسيّة بوصفها مهمّة ينبغي إنجازها، أي أنّ الجسد في هذا التصوّر لا يشكّل عدا أداة إتمام العمليّة لا أكثر. إنّ التفكير بالجسد بوصفه وسيطًا بينيًّا لفهم العالم، يجعل الاشتباك مع الأخير يمرّ من خلال الجسد، وذلك ما يجعل من نظرتنا لعلاقتنا الجسديّة مع ذواتنا ومع الآخر جزءًا مؤثِّرًا ومتأثّرًا في علاقتنا مع العالم وموقعنا منه أو فيه، وعليه فإنّ اختيارنا لشكل العلاقة مع الجسد يتضمّن مقولة تجاه أشكال وجودنا في العالم وفاعليّتها.

بمعنى آخر، نقول إنّ الجسد ليس فقط كيانًا مادّيًّا يحمل فيزيولوجيّة معنى الحياة وعضويّته فقط، إنّما هو وسيط نصّي وتفاوضيّ لنا مع العالم، يمكننا من خلاله إنتاج عدد من المعارف والعلوم. قد لا يتّسع هنا المجال لشرح تلك العلاقة، لكنّنا نشير إلى نماذج منها النظريّة الكويريّة في الترجمة والخطاب، ودراسات الحدود والحركة، النظريّة الكويريّة في العمارة والفنون، التحليل المثليّ للدراسات العمرانيّة، النظريّة النسويّة الحيّزيّة Territorial، وغيرهم من نماذج معرفيّة إذا ما موضعت في السياق الاستعماريّ يمكنها أن توظّف كأدوات لقراءات مضادّة له، وقادرة على إحداث عصيان معرفيّ Epistemic Disobedience انطلاقًا من موقع الجسد وتوجّهاته، لذا، من الجهل القول بأنّ الجسد وتوجّهاته الجندريّة والجنسيّة هي فقط أمور تتعلّق بالرغبة الجنسيّة فحسب؛ فحتّى ’الرغبة‘ لا يمكن اعتبارها موضوعًا بيولوجيًّا فحسب، استنادًا إلى مساهمات دولوز وفرويد وميلاني كلاين وكرستلي بيندلي وغيرهم.

 

السياسة والنضال التحرري

هل تزايد أنماط الشخصيّات المثليّة في نماذج تلفزيونيّة وفنّيّة، يقتضي بالضرورة القول إنّها باتت "أيديولوجيا شموليّة تريد صياغة المجتمع وفق معاييرها"؟ وهل انفتاح مساحات في الإعلام، والترفيه، والقانون، والتعليم، والسياسة، لخطابات عن المثليّة أو الكويريّة هو نوع من فرض لمعركة ما؟

من الجهل القول بأنّ الجسد وتوجّهاته الجندريّة والجنسيّة هي فقط أمور تتعلّق بالرغبة الجنسيّة فحسب؛ فحتّى ’الرغبة‘ لا يمكن اعتبارها موضوعًا بيولوجيًّا فحسب...

إنّ انفتاح تلك المساحات لخطاب ما لا يعني إغلاقها على خطابات أخرى، بل إنّ ذلك يزيد من مسؤوليّة الخطاب الأوّل، إلّا أنّ إغلاق المساحات لخطاب ما سيعني إلغاءً لتعدّديّة النسيج السياسيّ والإعلاميّ والفنّيّ والمعرفيّ، والعودة إلى شكل من الثنائيّات القمعيّة والتفاسير الأحاديّة للظواهر بما يضمن بقاء مركزيّات خطابيّة مهيمنة وأشكال تعبير ذكوريّة أبويّة لم تعد قادرة على تفسير الظواهر فقط، لكنّها تضمن أيضًا موقع سلطة ’القيم الرجوليّة‘ – أي توزيع الأدوار الاجتماعيّة على أساس جنسيّ – وذلك يعني إعادتنا إلى تفاسير لا تزال تعمل على تفسير وترميز العالم من خلال مركزيّة ذكوريّة وطرفيّة أنثويّة (آخريّة).

بكلمات أخرى، يدّعي أصحاب هذا التوجّه أنّ المثليّة أضحت ’توجّهًا عالميًّا‘، لكن، هل هي كذلك فعلًا؟ لنتأمّل نموذجًا شارحًا يتمثّل في منع عقوبة الإعدام؛ فثمّة عدد كبير من دول العالم تمنع عقوبة الإعدام، لكن، هل بات منعها يشكّل توجّهًا عالميًّا بالمعنى الّذي يخترق المجتمع المحلّيّ حدّ القدرة على التغيير في تركيبته الثقافيّة والخطابيّة؟

إنّ القليل من البحث في الأمر قد يكشف عن المسافة والفرق بين أيّ توجّه عالميّ وإمكانيّات تأثيره في الواقع المحلّيّ، وما إذا كان الواقع المحلّيّ يواجه أشكال عولمة ذاك التوجّه. لكنْ، ولضرورات تتعلّق بحماية "قيم الذكورة والرجولة"، وإنتاج خطاب تعبويّ وشعبويّ في آن، قُدِّمت النشاطيّة الكويريّة Queer Activism في السياق الفلسطينيّ باعتبارها جزءًا من بنية التوجّه العالمي الساقط علينا من أعلى، دون النظر إلى موقعه Postionality الصاعد في مواجهة  العلاقات الهيراركيّة للنظام الاستعماريّ بما هو جزء من الحداثة والهيمنة الغربيّة، وهو ما يعيد إنتاج الثنائيّات الحداثيّة الّتي بنيت عليها أبويّة الحداثة والهيمنة الغربيّة وبطريركيّتها.

إنّ بعض النقد الموجّه للخطابات الكويريّة المحلّيّة ينطلق من افتراض أنّها تتحرّك في ’فلك هيمنة عالميّة‘ تغذّيها، وأنّ كلّ تقدّم تحرزه على الأرض يعني تقدّمًا في السياق العالميّ، من موقع جنون ارتياب (بحسب باتريشيا وايت) تجاه مكوّنات الحداثة الغربيّة، على الأقلّ في مرحلة أولى منه؛ فالنقد الموجّه للعلاقة بين الخطابات الكويريّة والهيمنة الغربيّة، وإن كان يأتي من موقع نقد للهيمنة الغربيّة نتّفق معه، لكنّه يستخدم أدواتها – ليس التمويل فحسب كما اتّضح – على مستوى الخطاب ليعيد إنتاجها مرّة أخرى؛ إذ يؤسّس لهذا الربط باعتباطيّة تتجاهل سياق الخطابات المثليّة والكويريّة وموقعها من التاريخ العربيّ والإسلاميّ، ليتطابق، أي النقد، مع الهيمنة الغربيّة على مستوى الأداء من خلال طمسه وتغييبه للبنى الاجتماعيّة والتاريخيّة لشعوب المنطقة، وبذلك لا يقمع فقط الثقافة الّتي تُغيَّبُ لتُفْرَض غيرها، بل أيضًا أدوات النضال الممكن من خلالها استعادة تلك الثقافة.

لنتأمّل هنا نموذجين من النماذج الّتي يقدّمها الخطاب الغربيّ عن النسويّة في السياق العربيّ الإسلاميّ، وهما هيرسي علي وملالا يوسف، اللّتان مرّتا بتجارب عنف محلّيّة، الأولى في الصومال والثانية في أفغانستان. كلتاهما ناضلتا – حقًا - لأجل حقوق مشروعة للنساء، لكن كلتاهما أيضًا تعرّضتا للاستلاب من قبل الهيمنة الحداثيّة الغربيّة الّتي أعادت تصدير الخطاب الاستشراقيّ الرأسماليّ الذكوريّ من خلال إسقاط نفس نماذج الأداء Performative الغربيّة في ما يتعلّق بنضالات النساء العربيّات أو المسلمات وحقوقهنّ.

 لكن، هل يلغي ذلك موقع النضال النسويّ العربيّ والإسلاميّ، أو يحلّ بديلًا عنه؟ كلّا، لكنّه يضع تلك النماذج في سياق إمّا مع أو ضدّ. الأمر نفسه ينطبق على الخطابات الكويريّة الفلسطينيّة؛ فهي إمّا تشكّل جزءًا من ’نحن‘ بما تحمله هذه الـ ’نحن‘ من ذكوريّة تحدّد مساحات التفاوض داخلها لافتراضها أنّها تمثّل فلسطين والنضال التحرّريّ والمجتمع والأسرة، إضافة إلى ’الفطرة السليمة‘، أو هي ضدّ هذه الـ ’نحن‘ باعتبارها خطابات تشكّل امتدادًا للهيمنة الغربيّة.

إنّ إلغاء النضال النسويّ، والخطابات الكويريّة، بحجّة موقف نقديّ للنماذج الخطابيّة الّتي تشكّل امتدادًا للهيمنة الغربيّة، وتعميم شكل واحد اعتباطيّ على تلك الخطابات، إنّما يلغي تاريخًا كبيرًا وأساسيًّا من أشكال النضال ضدّ الهيمنة الغربيّة وبناها الاستعماريّة؛ فالحداثة الغربيّة الّتي نهضت على التغييب والطمس، يُعاد إنتاج سياساتها من خلال تغييب وطمس الخطابات الكويريّة الفلسطينيّة بحجّة مواجهة الهيمنة والحداثة الغربيّة.

هنا يمكن قراءة شيطنة الخطابات الكويريّة الفلسطينيّة بوصفها خطابًا يتقاطع مع الخطاب الصهيونيّ الاستعماريّ الّذي يقدّم الصهيونيّة بوصفها النموذج المرغوب في المنطقة للمجموعات الكويريّة، وتلك نتيجة ممكنة بالنظر إلى كون الخطاب الّذي يمارس الشيطنة متذرّعًا بالهيمنة الغربيّة، يمارسها مستخدمًا أدواتها بشكل كامل.

 

الفطرة، والأسرة، والمجتمع

ترى ساندرا بِم الباحثة في علم نفس الجندر والجنسانيّة، أنّ المركزيّة الذكوريّة (Androcenterism) أنْتَجَتْ بالتفاعل مع أُطر  اجتماعيّة أخرى موازية لها وهي التقاطب الجندريّ (Gender Polarization) والأصوليّة البيولوجيّة  (Biological Essentialism)، تعصّبًا جنسيًّا مركزيًّا لصالح الذكر، أدّى إلى هندسة كامل النتاج الإنسانيّ كالثقافة، واللغة، والسياسة، والدين، والاجتماع، والفنون، والعلوم الطبيعيّة، وفضاءاتها كافّة، بشكل متحيّز للذكورة.

يمكن قراءة شيطنة الخطابات الكويريّة الفلسطينيّة بوصفها خطابًا يتقاطع مع الخطاب الصهيونيّ الاستعماريّ الّذي يقدّم الصهيونيّة بوصفها النموذج المرغوب في المنطقة للمجموعات الكويريّة...

هل تهدّد المثليّة الأسرة الفلسطينيّة، بما هي مؤسّسة؟ لا تقدّم الخطابات الذكوريّة المتبنّيّة لهذا الرأي غير خطاب مقتضب مبسّط وسطحيّ لا يحمل أيّ وجهة نظر يمكن البناء عليها، متجاهلًا ما تواجهه الأسرة الفلسطينيّة، بصفتها مؤسّسة، من مخاطر تهدّد وجودها الحقيقيّ في سياق المنظومة الاستعماريّة الصهيونيّة. لكن، لا بدّ من التساؤل في سياق النقاش الفلسطينيّ الفلسطينيّ؛ ألا تهدّد قيم الذكورة والأبويّة الأسرة بصفتها مؤسّسة؟ ألا يهدّد العنف ضدّ النساء قيم العائلة ومبانيها، بدرجة أكبر ممّا تفعل الخطابات الكويريّة لو كانت أصلًا تشكّل تهديدًا؟ ولا نتحدّث هنا عن العنف بشكله المادّيّ فقط، إنّما العنف على مستوى المخيال والرمز والاستعارة، وصولًا إلى العنف المادّي المباشر.

لنتخيّل مؤسّسة الأسرة وهي قادرة على توليد حوارات داخليّة بين مختلف أفرادها واستيعاب تلك الاختلافات، وليس التعامل مع هذه الاختلافات بوصفها تهديدًا أو عنصرًا غريبًا على القيم المحلّيّة، أو أنّها متواطئة مع الاحتلال أو حتّى هي نتاج أمراض نفسيّة وعضويّة. لنتخيّل مؤسّسة قادرة على ربط الطفولة بعالم البالغين دون قمع ولا تغييب أو رقابة، ولا فرض تأويل معيّن لمفاهيم الأطفال وتصوّراتهم عن عالم البالغين، أو العكس. أعتقد أنّ الأسرة حينها ستكون قادرة على تكوين فضاءات اجتماعيّة قادرة على توليد حوارات حول السياسيّ، والقبليّ، والعشائريّ، والدولانيّ، والحداثيّ، وكلّ مباني الأبويّة والذكوريّة، وبالطبع، قادرة على مواجهة البنية الاستعماريّة. لكنّ الخطابات الكويريّة ليست حلًّا لأيّ أزمة، ولا هي أزمة في ذاتها، بل الأمر يتعلّق بكيفيّة التعامل معها بوصفها جزءًا من تعدّديّة داخل الأنا.

 

ما بين الموقف والرأي

ثمّة خلط بين الموقف والرأي لغايات تتعلّق بإنتاج خطاب تعبويّ شعبويّ حول الآخر الكويريّ، حتّى وإن كان فلسطينيًّا. هل محاسبة اللاعب السنغاليّ إدريسا غاي، لاعب فريق «باريس سان جيرمان» الفرنسيّ، لعدم إعلانه – أو صمته – عن دعم المثليّين أمر يجب أن تدفع ثمنه الخطابات الكويريّة المحلّيّة؟ وإن كان موقع النظر إلى القضيّة من موقع المواجهة مع الهيمنة الغربيّة، ستكون الإجابة نعم، وهو موقع ذو شجون خطابيّة على منصّات التواصل الاجتماعيّ أيضًا.

لكنّ المتابع للخطابات الكويريّة الفلسطينيّة يدرك أنّها قد وقعت من قبل ضحيّة تعميمات خطابيّة غربيّة تحاول دائمًا ابتلاعها واستيعابها لتكون جزءًا من خطابات كويريّة عالميّة وصهيونيّة. بكلمات أخرى، هل على كلّ مثليّ أن يكون داعمًا للتحقيق مع إدريسا غاي وتغريمه من موقع هويّته الجنسانيّة؟ هنا تصبح المثليّة – وفقًا لادّعاءات المحرّضين على الخطابات الكويريّة المحلّيّة – هي الهويّة الوحيدة المفروضة على ذاتيّة البشر جميعًا، وهو الأمر الّذي يرفضه المحرّضون على الخطابات الكويريّة المحلّيّة.

لكنّ التحقيق مع إدريسا غاي فعل يتطلّب سلطة ما، سلطة لا تملكها الخطابات المثليّة – لكن تملكها جهات تنظيميّة أخرى ذات علاقة – ويجب التفكير في ذلك التحقيق بوصفه استخدامًا للسلطة بغرض فرض رأي ما، دون توريط أصحاب هذا الرأي في هذا الموقف. ثمّة ضرورة لمواجهة القمع الصادر عن أيّ خطابات كويريّة أو نسويّة أو يربط نفسه بها، لكن أيضًا ثمّة ضرورة لمواجهة القمع الصادر عن أيّ خطابات أو مجموعات مهيمنة أو أقلّيّة، والقبول بتعدّد الآراء لا أحاديّة الموقف.

المتابع للخطابات الكويريّة الفلسطينيّة يدرك أنّها قد وقعت من قبل ضحيّة تعميمات خطابيّة غربيّة تحاول دائمًا ابتلاعها واستيعابها لتكون جزءًا من خطابات كويريّة عالميّة وصهيونيّة...

هل سبق للنشاطيّة الكويريّة المحلّيّة أن منعت – وبالمنع نعني موقفًا – أو دعت – وبالدعوة نعني الرأي -  لمنع مجرّد البحث العلمي مثلًا في آثار نشأة طفل في أسرة من زوجين ’مثليّين‘؟ يقول البعض: "يكفي أن تنظر بتجرّد إلى مآلات هذه الأفكار هناك لكي تصاب بالدوار"، في إشارة إلى دول ومجتمعات ’المركز الغربيّ". كيف يمكن قراءة الدعم الّذي تلقّاه اللاعب إدريسا غاي من المجتمع الفرنسيّ - وهو مجتمع في دول المركز الغربيّ أيضًا - في مواجهة دعوات معاقبته؟ أهو دعم فقط مضادّ للمثليّة والكويريّة، على الرغم من صدوره عن المركز الغربيّ؟  

في سؤال ما بعد فلسطينيًّا

لنا أن نتسائل: ماذا بعد؟ أما آن لهذا العنف الثقافيّ والفكريّ النزق، أن يتأمّل نفسه مليًّا ولو قليلًا؟ ألا يمكننا أن نتحمّل مسؤوليّة ما يحدث؟ بعد الاعتداء على مسيرة «مهرجان عشتار لمسرح الشباب»، بأقاويل لها علاقة بالموقف النقديّ للسلطة، وأخرى تشير إلى بارانويا المثليّة والاختلاف بسبب استخدام دمية ذات ألوان قوس قزح، وبعد الإيغال في قتل النساء وتطوير أشكال قتل أهانت خيالات أعتى المجرمين، أن يصل الأمر بالبعض إلى الإساءات والسباب والتخوين وحتّى تهديد مَنْ رفض مضمون أفلام سينمائيّة مثل «أميرة» (2021) وغيره، فقط لأنّه لم ينادي بمنعه، أن يحتفل البعض بمقالات تعبويّة ضدّ المختلفين معه وتبدأ حفلات السباب الجماعيّ انتصارًا لمقالات ورؤى تحريريّة شعبويّة وتعبويّة ركيكة لم تفكّر حتّى في إدانة أيّ حادثة عنف أو قتل أو اغتصاب، بقدر ما فكّرت في هذا الشكل من التعبئة الركيكة.

ربّما كان من الأجدر فتح فضاءات المعرفة والنقد والتفكير لنظريّات جديدة ومغايرة تمنحنا موقع مواجهة ضدّ كلّ أشكال الإبادة المعرفيّة Epistemicide الّتي تقع علينا وتتورّط فيها مؤسّساتنا البحثيّة والجامعيّة، ونقد المؤسّسات الثقافيّة الّتي تقاعست عن خلق مساحات ثقافيّة آمنة، والإشارة إلى أنّ الثقافة هي خيمتنا الأخيرة – وليس ربّ الأسرة فقط – والتشكيك في الادّعاء القائل بأنّ المواجهة اليوميّة مع الاستعمار الصهيونيّ وبناه تشكّل مبرّرًا لكلّ هذا العنف، لوضع حدّ للترسيم الأحاديّ للأولويّات على حساب بعضنا البعض. ثمّة ضرورة هنا لنسأل: ماذا بعد، وإلى أين؟ في النهاية، أستعير عبارة صديق: "أعرف أنّه عيد، لكنّ بلادنا ليست بخير، أبدًا".

 


 

عبد الله البيّاري

 

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ ومدير «مكتبة الأرشيف» في عمّان ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيّة، له مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.