قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

غسّان كنفاني (1936 - 1972)

 

أحيانًا، يغرينا المران في السيميولوجيا إلى الغرق اللذيذ في رمزيّات الأدب ومعانيه الخبيئة، لا سيّما إذا كان في هذا الأدب من الغرابة ما يجعله خصبًا للإيحاء والترميز. لكنّ القراءة الرمزيّة تختزن الأدب في وسيطه، فينتشر معها الفضاء النصّيّ ضمن أبعاد محض لغويّة، تُكثّف الصفة الإبستمولوجيّة لتجربتنا الأدبيّة على حساب الصفات الحسّيّة.

يقيم الأدب الغرائبيّ بين مكوّناته علائق يحكمها منطق مختلف عن ذلك الّذي يحكم الواقع، وقراءة هذه العلائق عبر رمزيّاتها تحرف الاهتمام عن نسيج المتخيّل وعالمه، وتنشغل في وظيفته كإحالة قصديّة إلى المألوف؛ ممّا يهدم بنية النصّ الّتي يتشكّل عبرها فضاؤه، ويفكّكها إلى لبنات منفصلة مهمّتها حمل الدلائل. تجتمع بعد ذلك في سرديّات مختلفة تنبثق مرّة أخرى داخل فضاء المألوف ووفقًا لقوانينه. سرعان ما تصبح القراءة الرمزيّة مقاربة كافية ومريحة للغرابة، فهي تجنّبنا مواجهة الغرابة باعتبارها منظومة مرجعيّة قائمة بحدّ ذاتها، وتعيّن المألوف منظومةً مرجعيّة للغرابة. تتّخذ هذه العلاقة المرجعيّة أشكالًا يصبح معها عالم النصّ الغريب شيفرة، أو التباسًا أو حيلة، أو مخبأ للحقيقة، أو إشارة إلى الخطر؛ خطر الانكشاف أمام الجانب السلطويّ من منظومة المألوف، أو نوعًا من التحايل على سلطة هذه المنظومة.

سرعان ما تصبح القراءة الرمزيّة مقاربة كافية ومريحة للغرابة، فهي تجنّبنا مواجهة الغرابة باعتبارها منظومة مرجعيّة قائمة بحدّ ذاتها، وتعيّن المألوف منظومةً مرجعيّة للغرابة...

 تفرض هذه القراءة نفسها على النصوص الّتي تُحيل فيها الغرابة إلى دلالات مرتبطة بسياقات سلطويّة، مثل «مزرعة الحيوانات» لجورج أورويل، أو حكايات «كليلة ودمنة». ضمن هذا النوع تندرج أيضًا قراءتنا للنصّ المسرحيّ الّذي أطلق عليه غسّان كنفاني (1936 - 1972)  عنوان «القبّعة والنبيّ»، الّذي تدور أحداثه حول قفص اتّهام يتموضع تارة حول متّهم في قضيّة قتل ’شيء‘ قادم من الفضاء، وتارة حول من يبدو أنّهم محقّقون أو قضاة، في محاكمة يقاطعها ظهور السيّدة حبيبة المتّهم، ووالدتها، وما يُظنّ أنّه الشيء الآخر. سرعان ما يستدعي النصّ مجموعة من الرموز المتعلّقة بمقاومة السلطة السياسيّة، وسلطة العبث ورأس المال والانتهازيّة واغتيال الأمل... تتحقّق هذه الرمزيّات عبر شبكة خاصّة تتفاعل فيها الشخصيّات، والأحداث، والمشاعر، والحوارات، وعناصر السينوغرافيا. لن تخوض هذه الورقة في عمليّة البحث عن مدلولات هذه الدوالّ، لكنّها، وبشيء من اقتباس لحظيّ لمنطق الرمزيّة، ستتعامل مع الغرابة نفسها، لا باعتبارها دالًّا، بل مدلولًا، يتجمّد قبل أن يُرجئ المعنى إلى دالّ آخر؛ لتستطيع الخوض في عوالم تجربة التخلّي عن القراءة الرمزيّة للأدب الغرائبيّ، وما يمكن أن يظهر على إثره من قراءات أخرى.

 

إلحاح الدلالات النضاليّة

في حالة غسّان كنفاني، تبدو الدعوة إلى طرح الرموز والمعاني الوطنيّة، الحاضرة مسبقًا في كتاباته، خيانة لهويّته الأدبيّة النضاليّة الممتزجة. يعيقنا إصرارنا على إبراز وطنيّة غسان كنفاني عن التوغّل في ظاهراتيّة عوالم نصّ كهذا، كأنّنا لا نقرأ نصوص كنفاني بمقدار ما نقدح زنادها وننتظر وصول الرصاصة إلى صدر المحتلّ. خلال هذا الانتظار، يصبح الأدب الثائر هو أدب الأديب الثائر، لكن ليس على تقاليد الأدب الموضوعيّة أو الأسلوبيّة أو النقديّة، ولا على السلطة الّتي ترسّخ هذه التقاليد، إنّما على السلطة الّتي تمارس قمعها في عالم الدلالات الّتي يحيل إليها النصّ. غالبًا ما تتقاطع هاتان السلطتان لكن خارج النصّ لا داخله، حتّى لو تداخل هذان العالمان في تناصّ حتميّ. حين نقرأ غسّان كنفاني، نبحث عن الرصاصة الّتي يجب أن يطلقها النصّ، ونبحث أيضًا عن النصّ باعتباره رصاصة يجب إطلاقها.

بعد إخلاء سبيل المناضلة اليابانيّة فوساكو شيغينوبو، أخذت تجوب مواقعَ التواصل الاجتماعيّ صورة تجمعها مع غسّان كنفاني، مرفقة معظم الوقت بتعليقات كثيرة لكن متشابهة، تشير في معظمها إلى الصورة باعتبارها دلالة على هذه الهويّة المشتركة بين الأدب والنضال. في بحر هذه التعليقات ظهرت وجهة نظر بدا لي أنّها تعيد صياغة هذه الرمزيّة؛ من خلال نسف أحد طرفيها والإبقاء فقط على جانبها النضاليّ النقيّ من تشويشات الأدب. تعاملت وجهة النظر هذه مع الصورة كدليل رمزيّ على أنّ اغتيال غسّان كنفاني، بصفته تكثيفًا لما كان يشكّله من خطر على الاحتلال الإسرائيليّ، لم يتسبّب فيه أدبه، إنّما جاء فقط نتيجة نضاله على أرض الواقع، وحمله للبندقيّة الحقيقيّة. استبعدت وجهة النظر هذه عنصر الأدب من معادلة التهديد، الّذي ترمز إليه الصورة عبر ما تشير إليه من تحالف بين «الجيش الأحمر» و«الجبهة الشعبيّة». رغم مساهمة وجهة النظر هذه في تفريغ النضال من شحناته الأدبيّة، فهي لا تساهم في تفريغ الأدب من شحناته النضاليّة.

تُصادر هذه الشحنة النضاليّة من المعاني والدلالات حقّ النصّ في التغرّب؛ في الابتعاد؛ في التخفّف من مستلزماته الوظيفيّة والتحرّك بحرّيّة في مجالاته الخلّاقة، أو حتّى التنقّل كما يقتضي الأمر بين السياق المحلّيّ الخاصّ والسياق الإنسانيّ العامّ. يكتسب النصّ في هذه الحالة قيمته الأدبيّة من مقدار استجابته الرمزيّة لمتطلّبات المقاومة، ويحاكَم أدبيًّا وفق معايير وطنيّة. إلى حدّ تنقلب فيه هذه المحاكمة إلى نوع آخر من أنواع الغرابة، فنحن الآن لا نكتفي بمجرّد إفراغ النصّ من فضائه المتخيّل وشدّ أوتاده إلى الواقع، لكنّنا نحمل الواقع ونظامه الرمزيّ، ونغزو به فضاء النصّ المتخيّل، ونصبح داخله كائنات غريبة، هائمة في عوالمه بمنطق مختلف قادم من عالم آخر؛ أي أنّنا لحظةَ المواجهة الأدبيّة الّتي نجرّد النصّ فيها من غرابته يكون قد جرّدنا هو من واقعيّتنا، بهذا؛ تتألّف لحظة الاشتباك الرمزيّة مع الأدب الغرائبيّ من خسارتين تغذّيان بعضهما بعضًا في فعل ابتلاع داخليّ، مثل ثقب أسود ينمو ويتمدّد ولكن عبر أبعاد غير مُدرَكة في أعماق ذاته.

حين نقرأ غسّان كنفاني، نبحث عن الرصاصة الّتي يجب أن يطلقها النصّ، ونبحث أيضًا عن النصّ باعتباره رصاصة يجب إطلاقها...

قبل أيّام قليلة، سلّم أحد الأصدقاء في الهند رسالة الدكتوراه الّتي كان يعدّها عن الوقت في الأدب الفلسطينيّ، وختم صفحة الشكر والتقدير بجملة يقدّم فيها الامتنان للرفيق غسّان كنفاني الّذي قدّم له القضيّة الفلسطينيّة، عبر الأدب، كما لم يفعل كاتب آخر. إنّها لحظة مشرقة تسطع فيها شمس الأدب على مساحات النضال المترامية الأطراف، تلك البعيدة عن مركز الاشتباك الدمويّ ولكن المنبثقة عنه. لحظة تعدّل قليلًا على الدور النضاليّ الّذي يلعبه الأدب؛ فهو الآن لم يعُد مخزن رصاص في يد مقاوم فلسطينيّ، ولم يعُد مهمًّا البحث عن حضور الأدب في تلك الصورة الّتي تجمع كنفاني مع شيغينوبو، لكنّه أصبح محطّة تستقبل زوّار التضامن الدوليّ، مثل هذا الصديق الهنديّ الّذي أعانته الدلالات الوطنيّة الّتي تُتخم أدب كنفاني على مناصرة القضيّة الفلسطينيّة. لكنّ كلّ هذا قاصر عن الدفاع عن أهمّيّة التركيز على هذه الدلالات بالنسبة للأدب بحدّ ذاته.

 

التأويل بين يدي البيان

يمكننا أن نعود إلى علم ’البيان‘ في اللغة العربيّة؛ لنفهم واحدة من أبكر المحاولات الممنهجة لاحتواء غرابة الأدب وفكّ شيفرتها، ضمن مرجعيّات من الواقع. هذا ما نجده حاضرًا في كتاب «الأدب والغرابة» لعبد الفتّاح كيليطو، الّذي يحيك بخفّة وذكاء مساحة يستحوذ فيها البيان، باعتباره صنفًا من صنوف البلاغة في تقاليد التراث الأدبيّ العربيّ، على مقاربة الغرابة في الأدب.

اصطلاحًا، يشتقّ البيان لفظه من الكشف والإظهار؛ فهو ينشغل بكشف المألوف المخبأ في الغريب، وإظهار العلاقات الجديدة الّتي تنشأ بين عناصر المشهد لخلق تكوينات الغرابة. بناء على طبيعة هذه العلاقات؛ يصنّف البيان هذه التكوينات إلى مجاز واستعارة وتشبيه وكناية وتورية، أي أنّه يحاول طمأنتنا بأنّ القبّعة - الشيء الأسود - الّتي ظننّا أنّها ماتت في مسرحيّة كنفاني لأنّها لم تشرب الماء، ليست شيئًا يحيا حقًّا على الماء، لكنّ الكاتب قرّر فقط أن يغيّر العلاقة الّتي تربط عنصرين مألوفين هما القبّعة والماء، من علاقة بلل إلى علاقة حياة، وأنّه استعار هذه العلاقة من طريقة ارتباط الكائن الحيّ بالماء، ولكي يفعل ذلك عبث بمجموعة مسافات، فقد قرّب المسافة بين الماء والقماش أو المطّاط مثلًا، الّذي يكوّن الشيء الّذي يشبه القبّعة؛ فالقماش الّذي يمكن أن يبقى في الوضع المألوف بعيدًا عن الماء دون أن يتأثّر، يجب عليه في عالم المسرحيّة أن يكرّر اقترابه من الماء؛ اقترابًا يعدم المسافة تمامًا عبر فعل التلامس. في موضع آخر، تعبث المسرحيّة أيضًا بالعلاقة بين القبّعة والرأس، وتزيد المسافة بينهما، فهي تغرّب القبّعة عن الرأس؛ فالقبّعة في عالم المسرحيّة لا تأخذ قيمتها من اعتلائها الرأس، بل على النقيض، تصبح المشاهد الّتي تظهر فيها القبّعة الأخرى على رأس والدة السيّدة حدثًا مأساويًّا يولّد مجموعة أحداث أخرى، تهدف إلى تصحيح هذا الوضع الخاطئ، واستعادة مسافة الأمان بين القبّعة والرأس.

قد فعل الكاتب ذلك في الحالة الأولى، وهي حالة تأسيس لعلاقة جديدة بين الماء والقماش؛ ليصبح ذلك الشيء الشبيه بالقبّعة رمزًا إلى شيءٍ ما حيّ، ربّما هو المتّهم ذاته، وقد انقسمت هذه الذات أو تضاعفت، وذلك ليكشف الصراع الداخليّ الّذي يدور في نفس المتّهم عبر تقنيّة الديالوج الأكثر ديناميكيّة من المونولوج. هنا ينتقل محور الاهتمام من المشهد الغرائبيّ، الّذي يتحدّث فيه شيء قادم من الفضاء يشبه القبّعة ’الدالّ‘، إلى الأفكار الّتي تتنازع رأس الإنسان ’الدلالة‘. أمّا في الحالة الثانية، وهي حالة نسف لعلاقة قائمة بين القبّعة والرأس، فربّما ترمز إلى ضرورة التخلّص من الأغطية الّتي تعزل الرؤوس (مجاز مرسل في علاقة كلّيّة، يُقصد بها العقول)، وتحجب عنها شمس الحقيقة الّتي قد تكون حرارتها مؤذية، لكنّ نورها لازم لإضاءة العتمة. هنا أيضًا ينتقل محور الاهتمام من غرائبيّة التعاسة الّتي يظنّ المتّهم أنّ القبّعة تشعر بها على رأس والدة السيّدة ’الدالّ‘، إلى ضرورة التخلّص من الحجب الّتي تعيق العقل عن مواجهة الحقيقة ’الدلالة‘.

 

من غفلة المعرفة إلى نباهة الإدراك الحسّيّ

يخلّف هذا الانتقال وراءه الأبعاد الحسّيّة والانفعاليّة للغرابة، بعد أن يُعيد إرساءها على شواطئ المألوف، غير مبقٍ منها سوى المعنى. في معرض تحليلها لظاهرة التهافت على التأويل، تشير سوزان سونتاغ في هذه الظاهرة إلى "تضخّم الفكر على حساب الطاقة والقدرة الحسّيّة"، الّتي يولّدها المنطق الفريد الّذي تتمظهر وفقه الغرابة. يتحطّم هذا التمظهر عبر ما تدعوه "عمليّة إفقار (...) واستنفاد للعالم من أجل رسم عالم من ظلال ’المعاني‘". تتحدّث سونتاغ هنا عن عمليّة إطناب تتضاعف فيها الكلمات والأفكار، وتجرّ وراءها جيوشًا من الدلالات والمعاني الّتي يتثاقل في أثنائها الشعور، وتنتهي بـ "ضياع مطّرد للحدّة في تجربتنا المحسوسة (...) وتبليد ملكاتنا الحسّيّة"[1]. حين نستخدم التأويل لمقاربة الأدب الغرائبيّ فإنّنا نجرّده بادئ ذي بدء من غرائبيّته الّتي توقظ الحواسّ وتحفّزها هربًا إلى مألوف ما، لا يمكننا الانغماس فيه دون غفلة.

يخوض فيكتور شلوفسكي في وظيفة الأدب باعتباره أداة فنّيّة أو تقنيّة، مهمّتها نزع الألفة عن الأشياء في هذا العالم، وتغريبها في بيئتها؛ من أجل تجديد علاقتنا بها...

يحضر هذا الجرس الّذي تقرعه سونتاغ إلى أذهاننا ’نظريّة التغريب‘، الّتي يقارب عبرها الشكلانيّون الروس الظاهرة الأدبيّة. في مقالة تأسيسيّة بعنوان «الفنّ باعتباره أداة»، يخوض فيكتور شلوفسكي في وظيفة الأدب باعتباره أداة فنّيّة أو تقنيّة، مهمّتها نزع الألفة عن الأشياء في هذا العالم، وتغريبها في بيئتها؛ من أجل تجديد علاقتنا بها، وخلق لحظة طازجة من المواجهة معها؛ لحظة لا تساهم فيها المعرفة، وإنّما تتشكّل عبر التمرّغ معها في حقول جديدة من الشعور والإدراك[2].

يتعامل شلوفسكي مع الصورة الفنّيّة باعتبارها تقنيّة لتكثيف الانطباع؛ لإبراز الكثافة والثراء الحسّيّ في هذا العالم، على نقيض الإفقار الّذي يلازم فعل التأويل والاستدلال. لدى شلوفسكي، تتكوّن أهمّيّة الصور الأدبيّة والمجازات الّتي تترتّب ضمنها الأشياء، من الشكل نفسه الّذي تتّخذه هذه الصور والمجازات، لا من الدلالة الّتي يمكن عبرها استعادة الروابط القديمة بين هذه الأشياء. نلاحظ هنا أنّ الاعتماد على المعرفة لدى شلوفسكي هو ما يؤدّي إلى الإفقار لدى سونتاغ. إنّه ما يخلق الغفلة الّتي تميّز انغماسنا في ما نألف. تفعل الغرابة الّتي تتمظهر عبر الصورة الفنّيّة لدى شلوفسكي في هذا السياق إذًا فعل الأداة التالفة لدى هايدغر، الّتي تمثّل اللحظة الّتي نبدأ فيها بالانتباه إلى خصائص الأشياء، الّتي ننغمس في استخدامها والعيش معها بصورة تلقائيّة، إلى حين تتوقّف لسبب ما عن العمل بالطريقة المألوفة[3]، وهو وضع من أوضاع الغرابة المثيرة للحواسّ.

أمّا الكثافة الّتي يشير شلوفسكي إليها كصفة لهذا العالم المادّيّ، فتقع على نقيض الإطناب الّذي تحذّر منه سونتاغ. دون هذه اللحظة من الإدراك الحسّيّ الّذي تستثيره الغرائبيّة، نجد أنفسنا أمام سلسلة من التكرارات الّتي يتناوب عليها الشيء ودلالاته، ومن هنا يأتي الإطناب المستنزِف، الّذي يتّخذ صفة الكثرة، لكن لا يتّخذ صفة الثراء، ولا صفة الكثافة.

 

التصالح مع الظواهر: في عالم المسرحيّة

ماذا نفعل بكلّ ما سبق مع «القبّعة والنبيّ»؟

نفعل ما تفعله الشخصيّتان الرئيسيّتان في هذا النصّ: الشيء الّذي يُدعى قبّعة لأنّه يشبه القبّعة في عالم المتّهم، والمتّهم الّذي يُدعى نبيًّا لأنّه يحلم بهذا الشبه في عالم الشيء. إنّهما يتعارفان، يتلمّس كلّ منهما خصوصيّة عالم الآخر ويتجاوب معها. يحاولان، عبر هذا التفاعل القائم على منطق ضائع، أن يخلقا عالمًا، يقول المتّهم. لا، بل أن يخلقا عالمين، يقول الشيء.

"أنت لا تفهم! لا تستطيع أن تفهم ... إنّني ها هنا أفتح مصاريع عالمٍ يولد لأوّل مرّة. مليء بالدهشة. أكتشفه حبّة حبّة مثلما يكتشف الطفل أصابعه"[4].

الفرق بين القراءة الرمزيّة لهذه المسرحيّة، والقراءة الحسّيّة، يشبه الفرق بين الطريقة الّتي حاولت فيها السيّدة ووالدتها، وكلّ الجهات العلميّة والتجاريّة والعسكريّة والإعلاميّة... إلخ، أن تكتشف سرّ هذا الشيء وتستخدمه، مقابل الطريقة الّتي أراد المتّهم أن يتعامل معه بها؛ ففي الحالة الأولى تحاول تلك الجهات أن تُخضع غرابة الشيء القادم من عالم آخر إلى منطق العالم القائم، أن تشتريه وتبيعه وتجري عليه فحوصات مخبريّة، وتستعرضه، وتكتسب عبره الشهرة. ينطبق هذا أيضًا على والدة السيّدة الّتي عثرت على الشيء الآخر الّذي يشبه القبّعة، فاعتمرته على رأسها؛ أي أنّهم جميعًا نسبوا إلى هذا الشيء وظائف وخيالات وأحلام قادمة من واقعهم هم، لا من واقع الشيء. أمّا المتّهم فقد استجاب مع غرائبيّة هذا الشيء، وأراد أن يأخذه إلى أرض قاحلة، ويشرع في زراعته، فيتكاثر ويصبح شعبًا يغزو به العالم؛ ليخلق عالمًا جديدًا، يصبح فيه نبيّ القبّعات الّتي تُرتدى داخل الرؤوس لا خارجها.

في وصفه لعوالم الغرابة في الأدب العربيّ، يقول كيليطو: "ليس من الضروريّ أن ينتقل البطل إلى فضاء عجيب تسكنه الجنّ والعفاريت، المهمّ أن يجد نفسه في فضاء آخر لا يعرفه، أو لم يسمع عنه فقط، أو تغيّب عنه فترة طويلة، أو لم يكن يتصوّر أن يجتاز يومًا مدخله"[6]. هذا ما حصل مع الشيء القادم من الفضاء، حين وجد نفسه في عالم المتّهم، وهذا أيضًا ما حصل مع المتّهم الّذي اختُرق عالمه، لكنّه بدلًا من رأب هذا الصدع الّذي أحدثه الشيء والعودة إلى المألوف، أخذ يسعى إلى توسيعه والولوج منه إلى عالم آخر يكتمل فيه حضور الغرابة.

"فلا أنت تستطيع أن تعود إلى عالمك، ولا أنا أستطيع أن أعود إلى عالمي"[7]، يقول المتّهم.

تشير سونتاغ إلى أنّ الإصرار على التأويل نابع عن عداء صريح مع الظاهرة، مع الشكل الّذي تتمظهر به الأشياء، مع الأسلوب، مع البنية. ماذا لو تصالحنا مع عالم المسرحيّة، كما تصالحت معه شخصيّتها، في فعل ميتا-نصّيّ؟

 

غرائبيّة الأدب وغرائبيّة الواقع

"أنا لست أكثر غرابة منك (يضحك بعنف) أنا لست أكثر غرابة منك".

بإمكاننا الغرق كما نشاء في معاني هذه العوالم، وفي ما ترمز إليه؛ في الحكم الّتي يودعها غسّان كنفاني داخل النصّ، في الرسائل الّتي ستصلنا من كنفاني مكافأةً بمقدار اجتهادنا في فكّ شيفرة النصّ الرمزيّة. لكن، ما الّذي يحرمنا منه أيضًا كلّ هذا التأويل؟ بعد كتابته لمقال «الغرائبيّة»، أو «الغرابة الموحشة» كما يترجمها شاكر عبد الحميد[8]، فتح فرويد بابًا هائلًا يفضي إلى الأسس النفسيّة والتاريخيّة للشعور بالغرابة، وماهيّة الأوضاع الّتي تثير فيها الغرابة قلقًا، ريبةً، توجّسًا، فزعًا، أو أيّ شعور يشوّش الطمأنينة، ويعكّر شعور المرء مع محيطه بأنّه ’في بيته‘، كما يشير إيرنست يينتش في «علم نفس الغريب»[9]، المقالة الّتي أسّس عليها فرويد بحثه. هذا الشعور بالبيتيّة الّذي يصف هايدغر عبره كيفيّة وجودنا مع الأشياء في هذا العالم.

فتح فرويد بابًا هائلًا يفضي إلى الأسس النفسيّة والتاريخيّة للشعور بالغرابة، وماهيّة الأوضاع الّتي تثير فيها الغرابة قلقًا، ريبةً، توجّسًا، فزعًا، أو أيّ شعور يشوّش الطمأنينة، ويعكّر شعور المرء مع محيطه بأنّه ’في بيته‘...

يركّز يينتش على واحدة من أبرز لحظات الاستغراب المقلق، الّتي تحدث عندما ندرك صفات حيّة في شيء لا حياة فيه - وهو هو النوع الّذي تتأسّس عليه غرابة المسرحيّة من خلال الصفات الحيّة الّتي تبديها القبّعة - أو على العكس، عندما تظهر على الكائن الحيّ صفات من عالم الموتى أو الجماد. يوضّح فرويد أنّ الغريب الموحش هو ذلك الّذي ينشأ في المألوف ذاته، عبر آليّات مختلفة مثل التكرار أو معاودة الظهور، أو المبالغة في حدّة انفعالٍ ما أو درجته، يتكوّن هذا الشعور في مواقف تبدو جديدة لكنّها تذكّرنا بشيء قديم؛ شيء صهرته الحضارة في مكوّنات اللاوعي الإنسانيّ؛ شيء كان يجب أن يظلّ خفيًّا وسرّيًّا لكنّه ظهر، (يتكرّر في المسرحيّة مشهد إخفاء الشيء تحت قميص المتّهم)، "حضور خاصّ للماضي في الحاضر، وحضور خاصّ للآخر في الذات"[10]، مثل القضاة الّذين يتحوّلون إلى متّهمين، والمتّهم الّذي يقاضيهم.

 يوضّح فرويد أنّ الأدب يشكّل حالة خاصّة من الغرابة، فهي لا تنشأ في سياق المألوف كما هو الأمر مع الواقع، لكنّها تنشأ في سياق خاصّ بها، هو سياق الأدب نفسه، الّذي يؤسّس منطقه وقوانينه؛ فأدب الغرابة هو الغرابة بحدّ ذاتها، وكلّ ما فيه مألوف بالنسبة إليه. ممّا يعني أنّ مغادرة قلق الغريب في الواقع يعني عودةً إلى المألوف، في حين يعني انتزاع غرابة الأدب عن الأدب مغادَرةً من المألوف.

 

أصنام المسرح والتأويل في زمن العقلانيّة

في «الأورغانون»[11] الجديد، يصنّف فرانسيس بيكون المصادر الّتي قد تتسرّب منها المعارف الزائفة إلى العقول المنقادة لأنماط تفكير تلقائيّة، دون إخضاعها للتجربة، في فئات يطلق عليها ’أصنام العقل‘. كلٌّ منها يُفهم عبر استعارة مشتقّة من دلالات الكلمة الّتي يطلق اسمها على فئة الصنم المقصودة. في ’أصنام المسرح‘[12]، يستعير بيكون اندماجنا مع العالم المختلق على المسرح؛ ليشير إلى الانقياد وراء نوع من المعارف والفلسفات المستمدّة من العصور القديمة، الّتي تخلق على خشبة مسرحها عالمًا مثيرًا ولكنّه لا يستند إلى قواعد الواقع، مثل أفكار أرسطو الّذي يقتبس منه اسم كتابه في سياق نقد ومعارضة.

ربّما كان لزامًا على بيكون ألّا يعير بالًا في تلك اللحظة إلى التناقض الدلاليّ، الّذي يحمله تعبير ’أصنام المسرح‘ من أجل أن تحقّق الاستعارة وظيفتها؛ فالأصنام الّتي اختارها لتدلّ على الأفكار المتحجّرة والراسخة والمقدّسة دون استحقاق، تتعارض في محطّات عدّة مع ديناميكيّة المسرح وحيويّته وعوالمه الجديدة الّتي تنبثق لحظيًّا، تخلب ألبابنا لبضع ساعات، ثمّ تتبخّر في هواء الواقع كأن لم تكن. كان بيكون في تسميته لهذا الصنم انتقائيًّا في ما يتعلّق بالدلالة الّتي رغب في إبرازها من المستعار منه، أي المسرح، وفي انتقائيّته هذه، وقع هو في ما أطلق عليه في السياق ذاته اسم ’أصنام القبيلة‘، تلك الّتي ضمّنها أنماطَ التفكير الخاطئة الّتي تفرضها الطبيعة المشتركة بين جميع أفراد القبيلة البشريّة، بما يشمل الانتقاء القصديّ، وبناء سرديّات فكريّة من خلال تتبّع حالات الإثبات فقط؛ أي تلك الّتي تظهر فيها الصفة المرغوبة (الاستقراء التامّ)، الّتي كان قد عاب على أرسطو الوقوع في شراكها، بدلًا من الاستقراء الناقص، الّذي نرسو فيه على قواعد تأخذ بعين الاعتبار حالات الإثبات والنفي والتدرّج.

بعد خمسة قرون على تأسيس نظريّة بيكون، نرى كيف تواصل التأويلات الرمزيّة للأدب وضع أقدامها في عقيدة مشابهة لعقيدة المنهج العلميّ، تحاول عبرها تحرير التجربة الأدبيّة من الغرابة الّتي تتجاوز منطق الواقع، وعلاقاته، وقوانينه. في هذه النقطة، تتقاطع دوائر الرمزيّة مع دوائر العقلانيّة الّتي تقصي وتهاجم كلّ سلوك، أو فعل، أو شعور، لا يمكن موضعته ضمن أنماط الواقع الّتي خلقتها الرأسماليّة، ومنها تجربة الإدراك الحسّيّ الّتي تمرّن الخيال بأبعاده الجسديّة على تجاوز هذه الأنماط الواقعيّة، واشتقاق إمكانيّات مختلفة لما يمكن أن يكونه العالم، دون التعامل معه كصنم.

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ لمناسبة مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


إحالات

[1] سوزان سونتاغ. ضدّ التأويل ومقالات أخرى. ترجمة نهلة بيضون )بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 1966) ص15-31.

[2]  Viktor Shklovsky. Art, As Device, (tr.) Alexandra Berlina. Poetics Today, 36:3, Duke University Press: 2015.

[3] Martin Heidegger. Being and Time, (tr.) Joan Stambough. NY: State University of New York, 2010.

[4] غسّان كنفاني، القبّعة والنبيّ (عكّا: الأسوار، 1980) ص 53.

[5] عبد الفتاح كيليطو، الأدب والغرابة (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2006) ط2، ص 11-12.

[6] غسّان كنفاني، القبّعة والنبيّ (عكّا: الأسوار، 1980) ص 83.

[7] شاكر عبد الحميد، الغرابة: المفهوم وتجلّياته في الأدب (الكويت: عالم المعرفة، 2012) ص 23.

[8] Collins, J., Jervis, J. ‘On the Psychology of the Uncanny’ (1906): Ernst Jentsch. In: Collins, J., Jervis, J. (eds) Uncanny Modernity. Palgrave Macmillan, London: 2008.

[9] شاكر عبد الحميد، الغرابة: المفهوم وتجلّياته في الأدب، ص 23.

[10] فرانسيس بيكون، الأورغانون الجديد أو الوسيلة الجديدة لاكتشاف المعرفة، ترجمة منذر محمود محمد (دمشق: دار الفرقد. 2016) ص 106-120.

[11] في ترجمة دكتور عادل مصطفى، نجدها ’أوهام العقل‘، ممّا لا يبقي للتناقض الدلاليّ المشار إليه في هذه الفقرة مكانًا، بل على العكس، تتواءَم هذه الترجمة أكثر مع فحوى استعارة بيكون، رغم أنّ الكلمة الأصليّة الّتي يستخدمها بيكون هي ’Idols‘، ممّا يجعل ’الأصنام‘ ترجمةً أقرب حرفيًّا للعنوان الوارد في الأصل من ’الأوهام‘.

 


 

ملك عفّونة

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة ومترجمة ومحرّرة. عضوة هيئة تدريسيّة في «دائرة الفلسفة والدراسات الثقافيّة» في «جامعة بير زيت»، وحاصلة على درجة الماجستير في «الفلسفة والأدب» من «جامعة ساسكس» البريطانيّة.