بتلر وتمثّلات الجسد في الاستعمار والسلطة

جوديث بتلر

 

تقوم الثقافة الإنسانيّة بمجملها حول الجسد كفكرة ومادّة، من حيث اعتباره الأساس الّذي تتمحور حوله، تتمثّل من خلاله الثقافة الإنسانيّة وتاريخها؛ فالفنّ الإنسانيّ يدور حول الجسد، والدين يمتلك الجسد ويُصدّر رسائله من خلاله، كما يقوم الاقتصاد أيضًا على الجسد باعتباره آلة إنتاج واستهلاك في آن واحد.

 لكن، في حقبة التاريخ الفلسفيّ الأفلاطونيّ، اعتُمِدَ توجّه يحقّر الجسد مقابل العقل – الروح؛ إذ فُصل الإنسان إلى روح وجسد باعتبارهما وحدتين مختلفتين ميتافيزيقيًّا، وبُني الفكر الأوروبّيّ على هذه الثنائيّة. أُعطيت الأولويّة للروح كإناء المعرفة والخلود مقابل الجسد المتّجه إلى الفناء. استمرّ هذا التوجّه حتّى مجيء الفيلسوف الألمانيّ فريدريك نيتشه، الّذي تعامل مع الجسد بصفته العقل الأكبر، ومهّد لفكرة المصالحة بين الروح والجسد. هكذا أصبح الجسد بنية تستدعي التحليل والفهم من خلال الفضاء الاجتماعيّ اليوميّ، وبدأ التفسير والتأويل الفلسفيّ والاجتماعيّ ينطلقان من الجسد بدلًا عن الميتافيزيقا الروحيّة. أصبح الجسد هنا فكرة حداثيّة، وأُطِّر كبنية بيولوجيّة قادرة على التعبير عن رغباتها، يمكن تأهيلها لتحمّل المسؤوليّة والتحكّم بها من خلال أنظمة سلطويّة في الوقت نفسه.  

درس العديد من المنظّرين وعلى رأسهم ميشيل فوكو الجسد باعتباره البنية الأوّليّة الّتي تشكّل المجتمع، الّتي دُجّنت من خلالها المجتمعات داخل الخطابات السياسيّة، والاقتصاديّة، والسلطويّة. حاول فوكو تحليل موقعيّة الجسد داخل الخطاب السلطويّ السياسيّ، وفي فضاء مؤسّسات السلطة المختلفة كالمستشفى، والسجن، والمدارس، والمصانع. وعن طريق تحليل علاقة الأجساد بالمؤسّسات السلطويّة المختلفة، استطاع فوكو تصدير أحد أهمّ التنظيرات الّتي اعتمدتها المفكّرات النسويّات – من أبرزهنّ جوديث بتلر - في تفكيك منظومة النوع الاجتماعيّ والجنسانيّة، كأحد الخطابات السلطويّة المهيمنة على الجسد؛ حيث أسّس بنية الجسد كالمكان الأساسيّ الّذي يظهر فيه الخطاب، مركّزًا عند تحليل الجسد في الخطاب على محورين: الطبّ المؤسّساتيّ، والجنس. 

 

الجسد كبنية منهجيّة 

من خلال إعادة دراسة التاريخ الاستعماريّ والإمبرياليّ، بدأت الدراسات المتعلّقة بالجنسانيّة والاستعمار خلال العقدين الأخيرين، وانقسمت إلى محورين أساسيّين: الأوّل تعلّق بالمرأة الأوروبّيّة داخل المستعمرات، والثاني شمل المرأة الأصلانيّة وتبعات الاستعمار على موقعيّتها محلّيًّا وداخل السياق الاستعماريّ. توسّعت دراسات الجنسانيّة والاستعمار في ما بعد؛ لتشمل تقاطعات مفصليّة أثّرت تأثيرًا مباشرًا في فهم الجنس داخل هذه السياقات، وشُملت محاور العرق والنوع الاجتماعيّ والدين والطبقة، مؤثّرات أساسيّة لها دور مهمّ في تشكيل علاقات القوى بين الجنس والسياق الاستعماريّ. نقطة الانطلاق كانت من خلال إعادة تأريخ المرأة الأوروبّيّة في السياق الكولونياليّ؛ من خلال ’مشروع إنعاش‘ أعاد موضعة النساء وإنتاجهنّ المعرفيّ داخل التاريخ الاستعماريّ، نساءً أدّين دورًا فاعلًا في الأنشطة الإمبرياليّة، وفي الحفاظ على القيم الثقافيّة والأخلاقيّة للإمبراطوريّة.

النساء الأوروبّيّات استخدمن الدور الإمبرياليّ وسيلةً لتحقيق مطالبهنّ بالإصلاح الاجتماعيّ في بريطانيا بخاصّة؛ فظهور الحركات الاجتماعيّة والحركة النسويّة ومطالب التصويت جرى شرعنتها كمطالب مستقلّة عن الإمبراطوريّة المتوسّعة وهيكليّتها...

بالرغم من أنّ إعادة الموضعة لم تُظهر أيّ تأثير مباشر، من قِبَل النساء الأوروبّيّات، في طبيعة الحكم الاستعماريّ وهيكليّته، إلّا أنّ النساء الأوروبّيّات استخدمن الدور الإمبرياليّ وسيلةً لتحقيق مطالبهنّ بالإصلاح الاجتماعيّ في بريطانيا بخاصّة؛ فظهور الحركات الاجتماعيّة والحركة النسويّة ومطالب التصويت جرى شرعنتها كمطالب مستقلّة عن الإمبراطوريّة المتوسّعة وهيكليّتها[1]. بينما عمل مؤرّخو الاستعمار والنوع الاجتماعيّ على إظهار الارتباط الوثيق بين هذه الحركات النسويّة المنبثقة في المدن المتروبوليّة، والتسلسل الهرميّ العرقيّ والطبقيّ للحكم الإمبراطوريّ؛ فاستخدمت النساء الأوروبّيّات موقعهنّ ونشاطهنّ داخل المستعمرات وسيلةً لتأكيد أهمّيّة حصولهنّ على حقوقهنّ كمواطنات بريطانيّات وأوروبّيّات. ساعدت هذه المطالب على تكوين أيديولوجيّات جندريّة فصلت النساء بناء على أسس عرقيّة وإثنيّة، وهمّشت أصوات النساء الأصلانيّات محدّدةً من قدرتهنّ على تحقيق مكاسب سياسيّة واجتماعيّة تحت الاستعمار وبعده. بالرغم من وجود صوت موحّد من جميع النساء بالنضال من أجل حقوقهنّ، إلّا أنّ الحركات النسويّة الإمبرياليّة عملت على فصل نفسها أيديولوجيًّا، والعمل ضدّ النساء الأصلانيّات.

هكذا؛ فإنّ النظر إلى تشابكات النوع الاجتماعيّ من خلال السياق الإمبراطوريّ، أظهر طبقات عديدة من الاختلافات الّتي ساعدت على دحض النظريّة القائمة على حصر الاختلافات التكوينيّة بين الجنسين، الّتي تدّعي أنّ الفروقات الوحيدة بما يتعلّق بالجنس قائمة على ثنائيّة الذكر والأنثى؛ فمن خلال تمفصل علاقات النوع الاجتماعيّ الإمبرياليّة، وتداخل العرق معها، أخذت المرأة البيضاء موقعًا سلطويًّا، مستعارًا من الرجل الأبيض الّذي يشغل قمّة الهرم العرقيّ والطبقيّ في هذا السياق؛ فأصبحت متمتّعة بهيمنة على كلٍّ من الرجل والمرأة المستعمَرين. بينما لم تساوِ هذه الهرميّة بين الرجل والمرأة الملوّنين، بل شغلت المرأة الملوّنة أسفل التكوين الهرميّ؛ فهي خاضعة للهيمنة المحلّيّة، والهيمنة الاستعماريّة، من قِبَل المرأة والرجل الإمبرياليّين والرجل الملوّن.

بالنظر إلى المرأة البيضاء الّتي تحمل موقعًا سلطويًّا في هذه المعادلة؛ فهي أيضًا تقبع في موقع غامض؛ فهي خاضعة من خلال هيمنة الرجل الأبيض عليها، ومستعمِرة من خلال هيمنتها على الملوّنين[2]. عليه؛ لا يمكن فهم الإمبرياليّة دون التطرّق إلى الجنس وتقاطعه مع العرق؛ فالمرأة البيضاء كانت من العرق المتفوّق لكن من الجنس الأضعف.

 

بتلر والأدائيّة الجندريّة

كانت النتاجات التنظيريّة النسويّة في فترة السبعينات، هي الّتي مهّدت لظهور اهتمام بالجندر مفهومًا نظريًّا، وأوجدت القاعدة لمحاولة فهم العلاقة المترسّخة بين الجنس البيولوجيّ والجندر كبناء اجتماعيّ. نظرت آن أوكلي في كتابها «الجنس والجندر والمجتمع» إلى الجندر نظامًا منبثقًا عن الثقافة، ومتغيّرًا اجتماعيًّا حسب المكان والزمان، كما أوضحت أنّ العلاقة بين الجنس البيولوجيّ والجندر هي علاقة مصطنعة ولا تتوازى مع الطبيعة[3]. تطوّرت النتاجات بعد ذلك لتتجاوز ثنائيّة الجنس/ الجندر، وبدأت بعض المنظّرات بالتركيز على الثنائيّة الموجودة داخل الجندر نفسه، الّتي تقسمه إلى نوعين اجتماعيّين فقط، وترفض الأجساد الّتي لا تتواءم مع البنية الاجتماعيّة المقرّرة لكلّ نوع. ساعد هذا التوجّه في التركيز على موقعيّة النساء داخل النظام الجندريّ والاجتماعيّ، والقدرة على تتبّع مساهمتهنّ في الأنظمة القمعيّة الّتي تضطهدهنّ. توسّعت الدراسات بعد ذلك لتشمل مصطلح ’تفعيل الجندر‘[4]، الّذي بدأ بالنظر إلى الطرق الّتي يتبنّى فيها كلٌّ من الرجل والمرأة نوعهما الاجتماعيّ كجزء محوريّ من هويّتهما الاجتماعيّة. هكذا توسّع مفهوم ’الجندر‘ ليشمل دراسته بصفته نظامًا يُعنى بالرجل والمرأة، والعمليّات الّتي تجري لإنتاج هويّة منفصلة لكلٍّ منهما. شَكّل كلّ هذه الدراسات القاعدة الرئيسيّة الّتي انطلقت منها جوديث بتلر في كتابها «مشكلة الجندر»، الّذي نظرت فيه في ثلاثة محاور؛ الجنس/ الجندر نظامًا إقصائيًّا وقمعيًّا، والتجسيد الجندريّ، والأدائيّة الجندريّة.

بما أنّ ’الجندر‘ يُعتبر من أقدم الأنظمة المُعَدّة للسيطرة على المجتمع، وهو ما يكون من خلاله إنتاج علاقات قوًى تتيح لجماعات معيّنة فرض سلطويّة وفوقيّة وممارستها على الباقي، وتخلق أنواعًا غير متساوية من الهويّات. تبدأ بتلر مجادلتها بالنظر إلى الأنظمة الّتي تصنع الهويّات المختلفة، وتقرّ بأنّ الأنظمة الّتي تصنع الهويّة الجندريّة وترسّخها، هي الأنظمة ذاتها الّتي تصنع الهويّات الأخرى؛ فالسلطة تعمل على محاولة ضبط الأجساد من جميع النواحي[5]، ويشكّل ’الجندر‘ أحد أهمّ هذه الأنظمة وأقواها، الّتي تتحدّد من خلالها عمليّة الظهور العلنيّ للجسد في الفضاء العموميّ. تبني بتلر على تأطير فوكو وبوفوار للجندر كنظام غير حقيقيّ، وتؤكّد أنّ قوّته تنبع من كونه جزءًا من خطاب السلطة. إلّا أنّ بتلر تختلف في تفكيكها لفاعليّة الجسد في الخطاب الجندريّ؛ فبعكس بوفوار الّتي غالبًا ما تُظهر الجسد كحقيقة صامتة[6]، وبعكس فوكو الّذي يرى الجسد بنية سلبيّة داخل تقاطعات القوّة والسلطة والمعرفة، فإنّ بتلر تجزم بأنّ الجسد لديه المقدرة على تجاوز محاولات الخطاب لالتقاطه وتحديده[7].

من هذه النقطة، تتّجه بتلر إلى النظر في التوجّه الأدائيّ لثنائيّة الجنس/ الجندر، وعمليّة التجسيد الجندريّ، الّتي تناقشها من خلال ممارسات الأجساد اللا معياريّة. وتعزو اهتمامها بهذه الجزئيّة بعد طرح غايل روبن لفكرة أنّ باستطاعة الممارسات الجنسيّة اللامعياريّة أن تؤثّر في هيكليّة الجندر، وتزعزه كنظام قائم؛ فمن خلال دراسة أجرتها روبن تحت عنوان «الاتّجار بالنساء: ملاحظات حول الاقتصاد السياسيّ للجنس»، الّتي درست من خلالها الارتباط الاقتصاديّ والأسريّ والنفسيّ بالمرأة، ووضّحت من خلاله كون نظام الجندر/ الجنس عبارة عن مجموعة من الآليّات الثقافيّة الّتي تُحوَّل من خلالها ’الموادّ الخامّ‘ المرتبطة بالجنس إلى المظهر الخارجيّ للجندر[8]. بالإضافة إلى دراسة ويست كانديس المتعلّقة بتفعيل الجندر، والعلاقة بين التمثيل الجندريّ والخطاب لتصل إلى مفهوم الجندريّة الأدائيّة؛ إذ تبنّت بتلر أنّ الجندر عبارة عن سلوك يُؤدّى يوميًّا باستخدام الرموز واللغة والإشارات؛ لتحيل الجندر إلى مجرّد فكرة غير متّصلة بالواقع إلّا من خلال الآليّات الثقافيّة القهريّة الّتي تعمل على إظهاره.

تبنّت بتلر أنّ الجندر عبارة عن سلوك يُؤدّى يوميًّا باستخدام الرموز واللغة والإشارات؛ لتحيل الجندر إلى مجرّد فكرة غير متّصلة بالواقع إلّا من خلال الآليّات الثقافيّة القهريّة الّتي تعمل على إظهاره...

ثمّ توضّح بتلر أنّ الجندر هو عبارة عن مجموعة من الأفعال القصديّة الّتي يجري تبنّيها وتكرارها اليوميّ كطريقة للاندماج في المحيط المجتمعيّ. وتستخدم مصطلح الأدائيّة من منحًى جندريّ بطريقتين: الأولى لتبيان التكرار الممنهج للفعل، بحيث يعمل هذا التكرار على ترسيخ معانٍ محدّدة لما يكرَّر. والثانية هي بكون فكرة الأداء المتكرّر دليلًا على عدم وجود نسخة أصليّة للفعل لتعمل مرجعيّة. بالتالي؛ ترى أنّ فكرة الأدائيّة الجندريّة تُمكّن الأجساد من تغيير تصرّفاتهم والتعديل عليها غالبًا؛ من خلال تأدية أفعال مختلفة. لأنّ ما وُسم بالتصرّفات الجندريّة الحقيقيّة، ليس في الحقيقة مرجعيّة صحيحة أو حقيقيّة، وهكذا تجادل بتلر بأنّ عدم وجود نظام جندريّ حقيقيّ وثابت، يلغي إمكانيّة معاقبة الأجساد الّتي تنحرف عن المعايير الاجتماعيّة الوهميّة أو إقصائها؛ فبالنسبة إلى بتلر يُفهَم الجنس من خلال الجندر، ويُحدَّد الجندر من خلال منظومة لغويّة تظهر على ’سطح الجسد‘ على شكل تعبيرات اجتماعيّة محدّدة مسبقًا، وهذا ما تطلق عليه مفهوم ’الأدائيّة‘.

 

الأدائيّة بوصفها استعارة عكسيّة

تجادل بتلر أيضًا بأنّ ’الأدائيّة‘ تدور حول نوع من الاستعارة العكسيّة؛ فهنالك دائمًا نوع من الترقّب للأجساد المجندرة؛ ممّا يجبرها على إنتاج أداء معيّن كجزء حقيقيّ من ذاتها. بهذا؛ ترى أنّ ’الأدائيّة‘ لا يمكن أن تكون فعلًا مفردًا، بل هي طقس متكرّر، يكون تحقيقه عبر النظر إليه من خلال الجسد، وفي مدّة زمنيّة وثقافيّة محدّدة[9]. هكذا؛ فإنّ الجندر نظامًا أدائيًّا هو عبارة عن مجموعة من الطقوس الّتي نمارسها ونُبرزها على سطح الجسد، للدلالة على باطنيّة الجندر وتَأصّله داخل الأجساد. بالتالي؛ تؤطّر بتلر الجسد كمسرح، وقد تكون هذه الجزئيّة واحدة من الأسباب الّتي جعلت تنظيرات بتلر تُعتمد في الدراسات الثقافيّة لسياق ما بعد الاستعمار، وأن يكون استخدامها في المسرح والأدب السينمائيّ[10]. إلّا أنّ دراسات الاستعمار والتأريخ يستثنيان بتلر وفوكو بخاصّة لقصور تقاطع تنظيرهما مع محور العرق كمُشكل أساسيّ لتشابكات الجندر. حيث تُهمل بتلر بالأساس طريقة التكرار الاستعماريّة، الّتي فرضت الجندر سلوكًا تكراريًّا كان من خلاله تضمين الجسد المستعمر في أطر عرقيّة وجنسيّة وثقافيّة. 

تبعًا لذلك؛ فإنّ أحد أهمّ مزالق كلٍّ من فوكو وبتلر كان في إقصاء السرديّة الاستعماريّة والإمبرياليّة من تأطيرهما للجسد؛ حيث حلّلت بتلر ثنائيّة الجنس/ الجندر بدون النظر في تقاطعهما مع العرق، بينما عمل فوكو على تحديد مصطلح ’الجنسانيّة‘ وتفكيكه، نتاجًا أوروبّيًّا خالصًا ومجرّدًا من أيّ آثار استعماريّة فيه، ولم ينظر إلى السلطة الاستعماريّة كجزء ساهم بشكل كبير في تشكيل الجسد والسيطرة عليه؛ من خلال مؤسّسات سلطويّة جديدة مثل المنظومة العرقيّة. هكذا؛ فإنّ الارتباط العرقيّ، وإنتاج الجنسانيّة نظامًا داخل المستعمرات، لم يتمّ جسره في هذه التنظيرات[11]؛ فمثلًا نظر فوكو إلى الطبّ المؤسّساتيّ كأحد أهمّ الأنظمة الّتي كان من خلالها تقنين الجسد وإخضاعه، بينما أقصى دور التجارب العمليّة العنصريّة الّتي أسّست لفهم الجنس؛ من خلال إخضاع الجماعات الأصليّة لعمليّات تشريح، وتجارب مخبريّة قسريّة. لذا؛ تظهر أهمّيّة دراسة الجنس تحت السياق الاستعماريّ لتعميق فهم المعيار السلطويّ، الّذي يكون من خلاله انتهاك تفكيك الجسد وإعادته، وهذا ما قامت به كلٌّ من آن مكلينوك وستولر؛ من خلال دراستهما للسياق الجنسانيّ تحت الأنظمة الإمبراطوريّة في المستعمرات من جهة، والتقاطع مع البنى العرقيّة من جهة أخرى.

أمّا السياق الآخر الّذي تعمل بتلر من خلاله، فهو التجسيد المضادّ للأدائيّة الجندريّة، وهي ما تصفها كمواقع ثابتة للنفاذيّة أو عدم النفاذيّة الجسمانيّة. من خلال هذه الجزئيّة، تحاول بتلر تفكيك أنواع الخطابات الّتي تسعى إلى نزع الشرعيّة وإقصاء الممارسات الجنسيّة والجندريّة للأقلّيّات، وتنظر إلى إعادة ترسيم حدود الجسد بفاعليّة، باستخدام خطوط ثقافيّة جديدة غير تلك المهيمنة[12]. فهي تناقش أنّ النفاذيّة/ عدم النفاذيّة هي جزء من الممارسات الجنسيّة الّتي تقع في سياق اشتهاء المماثل، وهي سياقات مهمّة وتشكّل خطرًا على نظام الجندر؛ لأنّ هذه الممارسات تشكّل الهوامش الجسديّة غير الحصينة في المجتمع، وهو ما تحاول أنظمة القمع ضبطه والسيطرة عليه. وتطلق بتلر مصطلح ’النفاذيّة غير المنظّمة‘ على الممارسات الخارجة عن معيار النوع الاجتماعيّ، وتصرّح بأنّ هذه الممارسات، بكونها عكس الأداء المتكرّر، لها دور مهمّ في تفكيك علاقات القوى المفروضة من خلال الجندر. نفاذيّة الأجساد ومقدرتها على التجسّد، بشكل مغاير للنظام الجندريّ الراسخ، تدعم نظريّة بتلر بوجود شكل من فعاليّة الجسد خلال الخطاب وأمام السلطة.

بالرغم من أنّ بتلر تفتح آفاقًا جديدة لفهم الجسد وعلاقته بالخطاب، وحدود نفاذيّته، إلّا أنّ القدرة على تأويل تنظيراتها في السياق الاستعماريّ تبقى منقوصة؛ لعدم استخدامها العرق مفهومًا لا يمكن تجزئته وعزله عن الجسد...

تتساءل بتلر في توطئة كتاب «مشكلة الجندر»، إن كان انهيار الثنائيّات الجندريّة على سبيل المثال "بشعًا بهذا القدر، ومخيفًا بهذا القدر، حتّى نعتقد أنّه من المستحيل نهائيًّا، وأنّه يمنعنا تجريبيًّا أو استكشافيًّا من بذل أيّ جهد للتفكير في الجندر"[13]، وتنظر في تحليلاتها للممارسات الجنسيّة غير السويّة، حيث تحاول أن تستشفّ كيف تفتح هذه الممارسات بالذات آفاقًا للتساؤل عن ماهيّة المرأة والرجل[14]. وترى من خلال هذه الممارسات أنّ الجندر لم يعُد راسخًا كالنظام المعياريّ الوحيد، وأنّ ثمّة أزمة واضحة متعلّقة بالسياق الجندريّ. تنوّه بتلر بضرورة الانتباه إلى المقولات الّتي نرى من خلالها التجسيد الأدائيّ للجندر، وتتساءل إن كان التأرجح بين هذه المقولات هو الّذي يشكّل تجربة الجسد، حيث ترى من خلال تحليل النفاذيّة غير المنظّمة للمتشبّهين ومثليّي الجنس التغيّر المباشر الّذي يظهر على المقولات الجندريّة. في نفس الوقت، فإنّ الهدف الأساسيّ لبتلر ليس الاحتفاء بهذه الظاهرة كموقف تدميريّ للمنظومة الجندريّة، ولكن أن تبيّن أنّ المعرفة المطبَّعة عن الجندر تعمل باستمرار كإحاطة وقائيّة وعنيفة بالواقع المعيش؛ فمحاولة السيطرة على الجسد من أجل إنشاء معايير اجتماعيّة ثابتة، وتحويل القيم من بدائيّة إلى قيم مقبولة اجتماعيًّا، حوّلت التاريخ إلى أداة فهرسة قاسية، وصنّفت الجسد كوسيلة ينبغي تدميرها وتغيير شكلها؛ من أجل إنشاء ثقافة ’متقدّمة‘[15].

 

خلاصة

تتّفق كلٌّ من بتلر وآن ستولر وآن مكلينتوك، على أنّ رفض الأجساد، سواء بسبب نوعها الاجتماعيّ أو جنسانيّتها أو عرقها، هو عبارة عن عمليّة إقصاء، تعمل على إنشاء آخر أو مجموعة مختلفة من الآخرين؛ إذ يمكن لعمليّة الرفض أن تؤسّس وتوطّد ثقافيًّا لهويّات مهيمنة مقابل هويّات مهمّشة؛ ففي السياق الاستعماريّ وُطِّدت هويّة العرق المتفوّق المغاير جنسانيًّا؛ ممّا أدّى إلى خلق المرأة الأصلانيّة البربريّة والمنحلّة أخلاقيًّا، والرجل الأصلانيّ المخصيّ المجرّد من رجولته في سياقات معيّنة، والمهوَّس جنسيًّا في سياقات أخرى.

وعلى غرار مكلينتوك وستولر، تناقش بتلر عمليّة ضبط الجندر والجنسانيّة كطريقة محوريّة لتأمين الجنسانيّة الغيريّة والحفاظ عليها، إلّا أنّ تحليلها يقتصر على كون اللامساواة الجنسيّة تأخذ شكل الجندر فقط، ولا تستدعي في نقاشها العرق الّذي يؤدّي دورًا محوريًّا في إرساء دعائم اللامساواة الجنسيّة؛ بينما يظهر الاختلاف في تأطير بتلر عن كلٍّ من ستولر ومكلينتوك؛ حيث تدرس كلتاهما ثنائيّة الجندر/ الجنس، من خلال منظومات هائلة الحجم كالاستعمار والإمبرياليّة، بينما تحاول بتلر تحديد نطاق هذه الثنائيّة؛ من خلال الجسد وعلاقته المباشرة بالسلطة؛ إذ تصبح حدود الجسد في حدّ ذاتها تمثيلًا لحدود الفضاء الاجتماعيّ المحيط، وتبدأ بفهم حدود الجسد على أنّها حدود الهيمنة الاجتماعيّة ككلّ[16].

بالرغم من أنّ بتلر تفتح آفاقًا جديدة لفهم الجسد وعلاقته بالخطاب، وحدود نفاذيّته، إلّا أنّ القدرة على تأويل تنظيراتها في السياق الاستعماريّ تبقى منقوصة؛ لعدم استخدامها العرق مفهومًا لا يمكن تجزئته وعزله عن الجسد؛ وهو ما كان التنويه له بعد غير عقد من نشر مشكلة الجندر، في التوطئة الثانية للكتاب. وبالنظر إلى جميع المحاور الّتي دُرست علاقتها بالجسد، يظهر حجم العبء التاريخيّ الّذي يحمله الجسد، وهو ما يستدعي هؤلاء المنظّرات لتفكيك الأنظمة المؤثّرة في الجسد؛ للوصول إلى أيّ حدّ يمكن الجسد أن يتحمّل هذا العبء، ومحاولة اكتشاف متى، وكيف، يمكن أن يتوقّف.

 


إحالات

[1] Ghosh, Durba. 2004. “Gender and Colonialism: Expansion or Marginalization?” The Historical Journal 47 (3). Cambridge University Press: 737–55. doi:10.1017/s0018246x04003930. P.11

[2] McClintock, Anne, 1954-. Imperial Leather : Race, Gender, and Sexuality in the Colonial Contest. New York: Routledge, 1995. P. 6.

[3] Oakley, Ann. 1972. Sex, Gender and Society. London: Maurice Temple Smith Ltd.

[4] West, Candace, and Don H. Zimmerman. "Doing Gender." Gender and Society 1, no. 2 (1987): 125-51. Accessed February 4, 2021. http://www.jstor.org/stable/189945.

[5]Feminist Perspectives on the Body,” Stanford Encyclopedia of Philosophy, https://plato.stanford.edu/entries/feminist-body/ (accessed Feb. 4, 2021).

[6] Kolmar, Wendy K., and Frances Bartkowski. 2010. Feminist theory: a reader. Boston: McGraw-Hill Higher Education.

[7]Feminist Perspectives on the Body,” Stanford Encyclopedia of Philosophy, https://plato.stanford.edu/entries/feminist-body/ (accessed Feb. 4, 2021).

[8] Ferguson, Ann. "‘Butler, Sex/Gender, and a Postmodern Gender Theory." Feminist Interventions in Ethics and Politics: Feminist Ethics and Social Theory edited by Barbara S. Andrew, Jean Keller, and Lisa H. Schwartzman. Lanham, Md.: Rowman and Littlefield (2005): 59-73.

[9] Butler, Judith. 1999. Gender trouble: feminism and the subversion of identity. New York: Routledge.

[10] جرى تحليل معظم شخوص مسرحيّات شكسبير من خلال نظريّة بتلر الأدائيّة، لا سيّما مسرحيّة «الليلة الثانية عشرة»، الّتي عكس فيها شكسبير النوع الاجتماعيّ لجميع شخصيّات المسرحيّة.

[11] Stoler, Ann Laura. 1995. Race and the education of desire: Foucault's History of sexuality and the colonial order of things. Durham: Duke University Press.

[12] Kolmar, Wendy K., and Frances Bartkowski. 2010. Feminist theory: a reader. Boston: McGraw-Hill Higher Education. P. 389.

[13] Butler, Judith. P. 9.

[14] Ibid, 12.

[15] Kolmar, Wendy K., and Frances Bartkowski. 2010. Feminist theory: a reader. Boston: McGraw-Hill Higher Education. P.386.

[16] Kolmar, Wendy K., and Frances Bartkowski. 2010. Feminist theory: a reader. Boston: McGraw-Hill Higher Education. P. 388.

 

 


 

منتهى عابد

 

 

 

مرشّحة دكتوراه في «جامعة بير زيت»، تعمل على إعداد أطروحتها بعنوان: «انتفاضات الجندر: التعبئة الطلّابيّة في كوريّا الجنوبيّة وفلسطين». حاصة على الماجستير في النوع الاجتماعيّ والجنس من «جامعة سواس» في لندن.