بين أرشفته وتخييله... عن موقع التاريخ من الرواية

نجيب محفوظ (1911 - 2006)

 

تعدّ الرواية من أهمّ الفنون الأدبيّة على المستويين العربيّ والعالميّ في وقتنا هذا، ورغم أنّه حديث نسبيًّا إلّا أنّه شهد انتشارًا واسعًا، حتّى أصبح عصرنا عصر الرواية بامتياز؛ نظرًا إلى الإنتاجات الكثيفة عالميًّا منذ القرن الثامن عشر حتّى عربيًّا منذ مطلع القرن التاسع عشر.

ويمكن اعتبار التاريخ من الروافد الأساسيّة الّتي نهل منها الروائيّون واعتمدوا عليها في كتابتهم، هذا ما يفسّر العلاقة الوطيدة بين الأدب والتاريخ بشكل عامّ، والرواية والتاريخ بشكل خاصّ؛ لنشهد ظهور أحد أهمّ أنواع الرواية، وهي الرواية التاريخيّة الّتي لاقت رواجًا كبيرًا أرجعه البعض إلى أنّها تتعلّق بالماضي وتصله بالحاضر. بالرغم من تعدّد التعريفات، إلّا أنّ معظم النقّاد اتّفقوا على أنّها الرواية الّتي تنبني أساسًا على مادّة تاريخيّة معيّنة واعتمادها على التاريخ كمادّة أوّليّة.

يُعتبر التاريخ عصًا تتّكئ عليها الرواية التاريخيّة؛ إذ تستقي مادّتها التاريخيّة منه من أحداث وشخصيّات؛ لذا يعتبر البعض أنّ التزام الأمانة في نقل هذه الأحداث هو عصب هذا العمل...

 شهدت الرواية التاريخيّة تحوّلات كثيرة على مستوى الشكل والمضمون منذ ظهورها. وليس الهدف من بحثنا معالجة مسألة أدبيّة تاريخيّة صرفة؛ أي تطوّر هذا الفنّ أو خصائصه، بل سنحاول التطرّق إلى واحد من النقاشات الجدليّة حول طبيعة العلاقة بين الرواية والتاريخ؛ فبين من يرى أنّ التعاطي مع الرواية التاريخيّة، كمصدر تاريخيّ، على اعتبار أن تنقل التاريخ وتحاكيه، وبين من يعتبرها عملًا فنّيًّا أدبيًّا وإن كانت تستلهم من التاريخ، فإنّ للروائيّ حقّ التصرّف في الأحداث والشخصيّات بما يتوافق مع سرديّته، وليس من صلب عمله نقل التاريخ نقلًا حرفيًّا فهذه مهمّة المؤرّخ وحده. اعتمادًا على آراء النقّاد والباحثين، وبالعودة إلى أهمّ النظريّات والكتابات في هذا المجال، وباستعراض الموقفين سنحاول الإجابة عن هذين السؤالين: أتصنع الرواية التاريخيّة التاريخ أم تعكسه؟ وإن كان الأدب مرآة للواقع حسب أرسطو، فهل هو مرآة للتاريخ أيضًا؟

 

بين الرواية والتاريخ

يُعتبر التاريخ عصًا تتّكئ عليها الرواية التاريخيّة؛ إذ تستقي مادّتها التاريخيّة منه من أحداث وشخصيّات؛ لذا يعتبر البعض أنّ التزام الأمانة في نقل هذه الأحداث هو عصب هذا العمل؛ إذ لا يمكن الروائيّ أن يحيد عن التاريخ باعتباره مرجعيّة له، وفي هذا السياق قام عدد من النقّاد بمجموعة من الدراسات، ووضعوا عددًا من التعريفات، من أبرزها ما قاله جورج لوكاتش الّذي نبّه على ضرورة "أن تكون الرواية أمينة للتاريخ، بالرغم من بطلها المبتدع وحبكتها المتخيّلة"[1]، كما يضيف في نفس السياق أنّ الرواية على عكس الدراما التاريخيّة  "يجب أن تكون موثوقة تاريخيًّا تمامًا"[2].

قد يكون للظروف المصاحبة لظهور الرواية التاريخيّة أثر في هذه الدراسات؛ إذ نشأت الرواية التاريخيّة في أوروبّا في زمن سقوط نابليون وانتشار الفكر الثوريّ وظهور الاتّجاه القوميّ، وهو ما دفع الناس إلى الاهتمام بالتاريخ أكثر، ومحاولة إيجاد طرق جديدة لتوثيقه. كما يمكن اعتبار الرواية التاريخيّة العربيّة في بداياتها نموذجًا للرواية التاريخيّة الّتي تعتبر الخروج على النصّ التاريخيّ خطيئة، وقد أطلق عليها البعض اسم الرواية التاريخيّة التقليديّة، في حين اختار لها الدكتور حلمي القاعود اسم الرواية التعليميّة الّتي "لا تتوافر فيها الأسس والمفاهيم الفنّيّة لبناء الرواية بشكل كامل"[3]. عطفًا على التعريف السابق، يضيف الكاتب أنّ جورجي زيدان ممّن اعتبرهم من روّاد هذا اللون ومن الأوائل الّذين كتبوه، أعلن صراحة أنّ الغاية من وراء قَصصه التاريخيّ هي تعليم التاريخ من خلال أسلوب جذّاب حتّى يتغلّب على جفاف المادّة[4]، وهو ما يدعمه الدكتور عبد الحميد القطّ الّذي يرى أنّ جورجي زيدان "يتوخّى الموضوعيّة والصدق التاريخيّ؛ ممّا يحيل صفحاته في كثير من الأحيان إلى ما يشبه صفحات كتب التاريخ ..."[5].

إلّا أنّ هذا الرأي لاقى معارضة من عدد من الكتّاب الّذين رأوا أنّ كتابات جورجي زيدان تفتقد الموضوعيّة، ولم يلتزم في كلّ ما كتبه بالحقيقة التاريخيّة، بل تعرّض أغلب الحقائق، حسبهم، للتغيير والتحريف، ومنهم إبراهيم السعافين الّذي يقول: "إنّ جورجي زيدان يعمد إلى تغليب فكرته على الحقيقة التاريخيّة؛ إذ يظلّ وفيًّا للحقيقة التاريخيّة حتّى تصطدم مع فكرته الأساسيّة؛ فلا يجد حرجًا في مخالفة التاريخ ليحقّق تلك الفكرة"[6]. ليس من صلب موضوعنا النقاش حول جورجي زيدان وكتاباته، لكن لتوضيح التناقض الّذي قد يقع فيه البعض في حكمهم على بعض الروايات التاريخيّة، في وصفها مصادر تاريخيّة مقدّسة لا تقبل النقض. ويتّضح من هذا العرض البسيط لهذا الرأي وجود نوع من التناقض؛ لوكاتش في تعريفه للرواية التاريخيّة يقرّ بوجود بطل مبتدع وحكاية متخيّلة، وهذا ما يمكن اعتباره من صميم الرواية عملًا فنّيًّا، وإلّا فكيف يمكن الروائيّ أن يكون أمينًا على التاريخ باستخدام التخيّل وإن كان تاريخيًّا. في هذا الصدد يقول الدكتور عبدالله إبراهيم: "التخيّل التاريخيّ لا يحيل على حقائق الماضي، ولا يقرّرها، ولا يروّجها، إنّما يستوحيها بوصفها ركائز مفسّرة لأحداثه، وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المعزّز بالخيال والتاريخ المدعّم بالوقائع ..."[7].

 

عن التاريخ والتخيّل التاريخيّ

على الجانب الآخر يدافع البعض عن الرواية التاريخيّة بوصفها عملًا له كلّ الحرّيّة في التصرّف في المادّة التاريخيّة، فعبدالله إبراهيم يرى أنّه "لا تفترض الكتابة عن التاريخ بالضرورة تمجيد الماضي ووضعه في علبة المقدّس"[8]. في سياق داعم لهذه الفكرة يذهب ميلان كونديرا إلى "أنّ التاريخ لا يهمّ الروائيّ بوصفه موضوعًا للوصف والتفسير والتشهير؛ لأنّ الروائيّ ليس خادمًا للمؤرّخين"[9]، وكأنّ الكاتب يكتب هنا تاريخه الخاصّ من خلال روايته وصناعة أحداث جديدة، عن طريق أساليب كالحشو وإدخال شخصيّات جديدة مثلًا، وفي هذا الصدد يوضّح عبدالله إبراهيم مرّة أخرى أنّه "لا يراد بالرواية التاريخيّة أداء وظيفة التاريخ الدقيق، كما يقول جورجي زيدان ... فالعمدة في روايتنا على التاريخ أن نأتي بحوادث الرواية تشويقًا للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخيّة على حالها، ندمج فيها قصّة غراميّة تشوّق المطالع إلى استتمام قراءتها"[10].

لوكاتش في تعريفه للرواية التاريخيّة يقرّ بوجود بطل مبتدع وحكاية متخيّلة، وهذا ما يمكن اعتباره من صميم الرواية عملًا فنّيًّا، وإلّا فكيف يمكن الروائيّ أن يكون أمينًا على التاريخ باستخدام التخيّل وإن كان تاريخيًّا...

لعلّ الحديث من هذا المنطلق يعيدنا للتصنيف الّذي قدّمه حلمي القاعود، وكنّا قد أشرنا إلى مفهوم الرواية التعليميّة، فإضافة إلى هذا جاء بمفهوم جديد هو رواية الاستدعاء التاريخيّ، واعتبرها القاعود آخر مرحلة في تطوّر الرواية التاريخيّة عربيًّا، ويعرّفها بأنّها "الرواية الّتي تعتمد على اتّخاذ التاريخ وسيلة لمعالجة قضايا معاصرة، دون التزام صارم بوقائع التاريخ ... إنّ الكاتب يتخيّل أنّ شخوصه وأبطاله يعيشون في عمق التاريخ، دون أن يكون لهم وجود تاريخيّ حقيقيّ"[11]؛ فالكاتب حسبه يفرّ من صرامة الأحداث والشخصيّات، ويصنع تاريخًا جديدًا بتوسّعه في خلق شخصيّات ثانويّة مثلًا، وفقًا لأسس بناء الرواية. ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ إتقان هذا النوع لم ينجح فيه جميع الكتّاب؛ فمنهم من أوغل في السرد والتخيّل، حتّى بات التاريخ مجرّد تفصيل في الرواية، أمّا أبرز الّذين أبدعوا حسب عدد من النقّاد فهو نجيب محفوظ، الّذي قال عنه القاعود في كتابه إنّ التاريخ يكاد يكون اللعبة الأدبيّة المفضّلة عنده[12]، ومن كتبه ثلاثيّته الشهيرة «بين القصرين»، «قصر الشوق»، «السكّريّة»، الّتي تناولت تاريخ مصر الحديثة وأبرز قضاياه، وقبل ذلك عاد محفوظ لتاريخ مصر الفرعونيّ، واكتشف فيه موادّ دسمة لكتاباته «عبث الأقدار» – «رادوبيس» - «كفاح طيبة»، وكأنّ نجيب محفوظ يستدعي أحداثًا من الماضي للتعبير عن مآسي الإنسان وانشغالاته في الحاضر.

هنا يتجلّى توظيف المادّة التاريخيّة توظيفًا فنّيًّا، كما نجد هنا بعضًا من الكتّاب انتقلوا من مرحلة استدعاء الأحداث التاريخيّة واستخدامها فنّيًّا، إلى مرحلة مساءلة التاريخ والتشكيك فيه، وأحيانًا تضخيم أحداث بالمقارنة بأخرى. من بين هؤلاء يمكن أن نذكر الكاتب الجزائريّ واسيني الأعرج، الّذي تعوّد على سرد تاريخ جديد هذه المرّة على لسان المهمّشين في التاريخ، أو الهوامش، إضافة إلى استدعاء شخصيّات معروفة أيضًا، وهو الحال في روايته «الأمير»، الّتي عرّضته لمساءلات تاريخيّة بتهمة العبث بقدسيّة التاريخ وشخوصه.

 

خاتمة

ليس من المجدي الحديث عن الرواية التاريخيّة، ومعالجتها بنفس الطريقة الّتي تمّت بها معالجتها في القرن التاسع عشر أو الثامن عشر؛ فقد شهد هذا الفنّ تطوّرات كثيرة، جعلته يستحدث مفاهيم جديدة وتعريفات أكثر شموليّة ساهمت في إبعاده قليلًا عن الانزلاقات الّتي سبّبتها التعريفات السابقة؛ فبين المادّة التاريخيّة وفنّيّات السرد وطرق التخييل، يجد الباحثون في موضوع الرواية التاريخيّة أنفسهم في إشكال؛ حاول الدكتور عبدالله إبراهيم مثلًا التحوّل من اعتماد مصطلح ’الرواية التاريخيّة‘ إلى ’التخييل التاريخيّ‘؛ فهذا الإحلال حسبه سوف يدفع بالكتابة السرديّة التاريخيّة إلى تخطّي مشكلة الأنواع الأدبيّة.

 تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ تقاطع المؤرّخ والروائيّ في نقطة العودة للماضي لا يمثّل إشكاليّة؛ فلكلٍّ هدفه فيبقى هدف المؤرّخ معرفة الحقيقة، أمّا الروائيّ فغايته ملامسة الجماليّات وكيفيّة تأثيرها في نفوس القرّاء، رغم صعوبة تتبّع خيوط السرد في هذا النوع.

 


إحالات

[1] جورج لوكاتش، الرواية التاريخيّة، ترجمة صالح جواد الكاظم (بغداد، دار الشؤون الثقافيّة العامّة، ط2، 1986) ص215.

[2] المصدر نفسه، ص213.

[3] حلمي محمّد القاعود، الرواية التاريخيّة في أدبنا الحديث دراسة تطبيقيّة (دسوق، العلم والإيمان للنشر والتوزيع، ط2، 2010) ص17. 

[4] المصدر نفسه، ص15.

[5] عبد الحميد القطّ، بناء الرواية في الأدب المصريّ الحديث (القاهرة، دار المعارف، 1982) ص34.

[6] إبراهيم السعافين، تحوّلات السرد (عمّان، دار الشروق، ط1، 1996) ص65.

[7] عبدالله إبراهيم، التخيّل التاريخيّ السرد والإمبراطوريّة والتجربة الاستعماريّة (عمّان، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ط1، 2011) ص5.

[8] لمصدر نفسه، ص11.

[9] ميلان كونديرا، الستارة، ترجمة معن عاقل (دمشق، ورد للطباعة والنشر، 2006) ص60.

[10] عبدالله إبراهيم، التخيّل التاريخيّ السرد والإمبراطوريّة والتجربة الاستعماريّة، ص12.

[11] حلمي محمّد القاعود، الرواية التاريخيّة في أدبنا الحديث دراسة تطبيقيّة، ص347.

[12] المصدر نفسه، ص351.

 


 

خيّرة مطاي

 

 

 

أستاذة وباحثة جزائريّة، حاصلة على ماجستير في «الأدب المقارن» من «معهد الدوحة للدراسات العليا».