«سوداد، هاوية الغزالة»... يوتوبيا في زمن اللايقين

«سوداد، هاوية الغزالة» (2022)

 

لطالما اعتُبِرَت الأندلس في الذاكرة الجماعيّة العربيّة، فردوسًا قضَّ مضاجع الحنين في استحضار مأساة تاريخيّة تتعالى على الواقع، فتغدو أوديسّا رومانسيّة، تتضارب حولها المواقف، فثمّة أيديولوجيا تعبّر عن حالة خروج وهميّة شكّلت هروبًا من عبء الواقع باتّجاه مخيال عالق في ذهنيّة العربيّ، في ما يولّي وجهه عن مسؤوليّات الحاضر تجاه القضيّة الفلسطينيّة، وهو ما يؤدّي بنا، بقصد أو دون قصد، إلى تشريع الحنين الصهيونيّ المرتبط بالعودة إلى أرض الميعاد وفق الرواية التوراتيّة، الّتي استغلّتها الصهيونيّة لصياغة صيغة سياسيّة قوميّة لتحقيق الوعد بالعودة.

العرب من جانبهم، وبعد فترة حكمهم الطويلة لبلاد الأندلس، وخروجهم المذلّ منها، بقي شوقهم إليها مشتعلًا مضطرمًا، تعزفه الكمنجات الحزينة، فوق تلّة ’الزفرة الأخيرة‘، فلم يبقَ لهم إلّا في أدبيّاتهم كما في الآثار العمرانيّة لجغرافيا المكان، تاريخ بعضه مشرّف، وجزء طغت عليه المؤامرات وصراعات ملوك الطوائف. وعلى الرغم من ذلك، ظلّت تتراءى للبعض جنّة الفردوس في شبه الجزيرة الإيبيريّة ماضيًا، يحلمون باستعادتها، وفي فلسطين حاضرًا يحلمون بتحريرها والعودة إلى كلّ شبر فيها.

 

جدليّة المقارنة بين فلسطين والأندلس

مهما يكن، وبعيدًا عن جدليّة المقاربة بين الفردوسين، الأندلس وفلسطين، في سياق ما يُعرف بالثنائيّات الضدّيّة، كالوجود والعدم، الخيال والحقيقة، الماضي والحاضر، توحّدت ثيمة المنفى في الأدب العربيّ تعبيرًا عن الحاجة إلى قيمة الجغرافيا في الذاكرة، وهي الحاجة الّتي قاربتها في العصر الحديث، تجربة إدوارد سعيد، بما تُشكّل في ذاكرته من اقتلاع وتشتّت وإبعاد وحرمان وتهميش وإقصاء قسريّ، كما أكّد ذلك في قوله: "إنّه الشرخ المفروض الّذي لا التئام له بين كائن بشريّ ومكانه الأصليّ، بين الذات وموطنها الحقيقيّ؛ فلا يمكن ألبتّة التغلّب على ما يولّده من شجن".

إذا اعتبرنا أنّ المكان ليس مجرّد حيّز ذي أبعاد هندسيّة، كما يقول باشلار، فقد تفاعل فاروق وادي في كتاباته، مع المنافي ببُعدين: أوّلهما انتماؤه إلى المكان الأوّل، وثانيهما تشظّي الذاكرة...

وإذا اعتبرنا أنّ المكان ليس مجرّد حيّز ذي أبعاد هندسيّة، كما يقول باشلار، فقد تفاعل الكاتب الفلسطينيّ فاروق وادي (1949 - 2022) في كتاباته، مع المنافي ببُعدين: أوّلهما انتماؤه إلى المكان الأوّل، وثانيهما تشظّي الذاكرة الّتي اتّخذ منها مسرحًا لروايته «سوداد، هاوية الغزالة»، الصادرة عن «منشورات المتوسّط» (2022)، ليختار شخوصًا كان لحضورهم دلالات شَكّل المكان لهم فضاء حكائيًّا وعقدة؛ ممّا جعل للرواية نكهة مأساويّة تجلّت في دفع ياسين البطل إلى موته وحيدًا، فوق تراب وطنه الأوّل.

 

العنوان، مركز جذْب

تتقارب فلسطين مع الأندلس في وجه الشجن والألم والشتات؛ إذ يقف وادي عند ما يجوس في النفس من مشاعر، تداخلت لتجتمع في كلمة برتغاليّة نبتت من ثقافة المكان الّذي سكنه، محدّدًا بعض ملامح عمله الروائيّ، ابتداء من العنوان «سوداد»، وهي مفردة يمكنها أن تشكّل مركز جذب يدفع القارئ إلى البحث عن المعنى الرديف والدقيق للكلمة، وانتهاء باختراق وجدان القارئ وعقله، مسخّرًا الشعر والأدب للخوض في الحياة الاجتماعيّة ونقدها، والثورة على الراهن، في بُعد فكريّ يسطّر عددًا من الجوانب الّتي شكّل الوضع الاجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ حيّزًا دقيقًا لتفاصيله، كما ورد على لسان بطله: "إنّ العرب والمسلمين لديهم حنين أجوف إلى الأندلس... الفردوس المفقود، ولا بأس من أن أستثمره، رغم اعتقادي أنّ العرب هنا كانوا يشكّلون، بالتعبير الحديث، استعمارًا كولونياليًّا، لا تبرّره الحضارة الّتي أقاموها على هذه الأرض طوال ثمانية قرون، وأنّه إذا أقرّ بذلك الاستعمار فإنّه سيقرّ بالوجود الاستيطانيّ في فلسطين"[1]. من خلال هذا الاستثمار ورغم الحنين، تشكّلت وتشابكت قصص الحبّ والمنفى عبر طريق الآلام، مبلّلة بقلق وجوديّ في حقيقة الحياة.

ياسين، الّذي جسّد دور الفلسطينيّ الانتهازيّ - كما بعض العرب الّذين يرزحون تحت الاستعمار، في ما هم عاجزون عن تحرير أنفسهم وأراضيهم - عاش متنقّلًا عبر سلسلة من المنافي، بين رام الله، والكويت، وبيروت، ودمشق، وطرابلس، ومالاغا (الأندلس)... إلخ. باحثًا عن فردوسه المفقود؛ ممّا خلق لديه حالة ما انفكّت تلازمه، كما كلّ فلسطينيّ قضى عمرًا في المنافي منذ النكبة؛ فكان لفلسطين لديه حضورها المتفرّد، عبّر عنه لجيزيلا، الخليلة والفنّانة التشكيليّة الّتي التقى بها في مالاغا الأندلسيّة، وباح لها باقتضاب على وقع صوت مجروح ملوّع يغنّي مردّدًا كلمة ’سوداد‘... ’سوداد‘، "عن قريته الأولى الّتي سقطت في عام 48، وتشريده عنها مع عائلته، وعن رام الله الّتي عاش فيها شبابه، والقدس الّتي لا تبعد عنها كثيرًا، وتتضوّع شوارعها القديمة وطرقاتها وأزقّتها بروائح التاريخ والبهارات والبخور، وعن حلمه بالعودة هناك"[2]. وفي ظلّ الارتحال الدائم الّذي رافقه في منفاه، حال الاغتراب دون اندماجه في جغرافيا المكان، وانتهازيّته للوصول بحثًا عن أحلام لا تحدّها حدود، تبدّت في معاملاته وتنقّله من عمل إلى آخر، ومن امرأة إلى أخرى، بسهولة أكثر، ممّا فاقم في اغترابه.

كان اغتراب ياسين في جغرافيا الوطن هو الأصعب والأكثر قسوة، استشعره كعائد مع العائدين إلى فلسطين بعد «اتّفاقيّة أوسلو»، حين ذاق معنى أن يكون غريبًا في أرضه ومنبت جذوره، الّذي تجسّد في عدم قدرته على الاندماج والانسجام مع ثقافته الأولى؛ ليعود ويجد الوطن غير الوطن، متناقضًا مع يوتوبيا ماضويّة لفردوسه المفقود. تلك ندوب المنفى الّتي لا تندمل، والانفصام الّذي لا يلتئم، والضياع بلا تذكرة عودة.

 

المرأة صيدًا، واستعلاء الخطاب الذكوريّ

أثّث الكاتب فاروق وادي سرديّته على أسطورة تنطلق من ظروف فكريّة، تحاول أن تجسّد المعنى المضمر لما حاول مقاربته للواقع، جعل منها متّكَأ للربط بين الحلم والحقيقة، بين الأسطورة والواقع؛ أسطورة تخلّد ذكرى معجزة قديمة، تجسّدت في لوحة معلّقة على جدار مدخل كنيسة  «نوسا سينيورا دا نازاريه» في البرتغال، الّتي تأسّست في القرن الرابع عشر، فوق مغارة وُجد فيها تمثال صغير لمريم العذراء، جُلب من ناصرة فلسطين.

أثّث الكاتب فاروق وادي سرديّته على أسطورة تنطلق من ظروف فكريّة، تحاول أن تجسّد المعنى المضمر لما حاول مقاربته للواقع، جعل منها متّكَأ للربط بين الحلم والحقيقة، بين الأسطورة والواقع...

 وتفيد الأسطورة بأنّ فارسًا كان يطارد غزالًا على صهوة حصان، فوق قمّة تلّ، في صباح ضبابيّ من شهر أيلول (سبتمبر) عام 1182، عندما قفز الغزال من على حافّة قمّة التلّ إلى الفراغ، كان حصانه الناريّ على وشك أن يتبعه، فاستدعى الفارس العذراء الّتي جعلت الحصان يبتعد بجهد خارق للطبيعة، وأنقذت حياة الفارس. لكنّ اللافت في هذه الأسطورة، الّذي لم يذكره الكاتب في روايته، أنّ الغزالة المطاردة قيل لاحقًا بأنّها الشيطان، متخفّيًا بهيئة غزالة؛ ممّا استدعى مقاربة ربّما تكون غير منصفة بحقّ ’الغزالات‘ اللاتي تواتر ذكرهنّ في أحداث الرواية.

لقد ارتبط ذكر الغزال في الشعر والأدب عمومًا بالمرأة الجميلة والحبيبة، وهذا ما أتاح للكاتب وادي توظيفه بشكل رمزيّ، وفق ما يُطلق عليه بالأنساق المضمرة في النقد الثقافيّ، في مقاربة ما بين الغزالة في اللوحة الأيقونة، وغزالة الأمير القادم من عمق الصحراء، والغزالة جيزيلا خليلة ياسين، اللواتي قادهنّ القدر إلى مآلهنّ التراجيديّ، حيث حرصن على إرسال نظرتهنّ الأخيرة المشوّشة، المثخنة بمشاعر متضاربة إلى قاتلهنّ الذكر عسى أن يرقّ قلبه، وكأنّما ينتظرن أن يُفتح لهنّ باب القلب في جدار أصمّ، في ميل واضح لاعتبار المرأة صيدًا يطارده الذكرـ ويصطاد منه ما يشاء، يمارس استعلاءه الذكوريّ، ويجمع بين متعتيه الأثيرتين، الصيد والمرأة.

 

المرأة في المجتمع الذكوريّ 

وفي محاولة لتعقّب الخطاب الذكوريّ في هذا المنتج السرديّ حول المرأة في المجتمع برمّته، أكّد وادي استحالة أن نتحدّث عن نصّ مبدع دون مراعاة شراكتها للرجل، فسلّط الضوء على واقعها وما يُفرض عليها من خيارات، وما يصاحب تلك الخيارات من تحوّلات سلبيّة، تؤدّي بالتالي إلى تسليعها واستلابها واستغلالها في الفساد والإفساد، من خلال السلطة الّتي يتمتّع بها الرجل، في مجتمع بطريركيّ ذكوريّ مهيمن، يستغلّ موارده ليفرض عليها هيمنته بطريقة أو بأخرى، في إشارة إلى ما ورد على لسان السارد: "يعلم الصيّاد الأمير أنّ براعته لا تكمن في ذاته، ولكن، في تلك السلطة المكتسبة والمال والموروث، وأنّ طريدته سوف تقع في الشباك لا محالة، كما وقعت من قبلها العشرات من غزالات ظلّت تتباهى برقابها النافرة المتعالية"[3]. بل يذهب الأمر إلى ربط المرأة بالشيطان كما أسلفت الأسطورة، الّتي اختزلت المرأة كقرينة للشيطان.

 من هذا الباب اتُّهمت ياسمين، غزالة الأمير القادم من أرض الرمال الذهبيّة، بفعل الزنى، "لقد سقطت في رمال متحرّكة دنِسة جذبتها نحو غواياتها الآثمة، فتلوّثت بماء الشيطان!"[4]. كما تجلّت صورتها تلك أيضًا في الفنّ والثقافة، مختزَلة في الجسد والجمال وتسطيح فكر المرأة، وذلك بالتركيز على شكلها عوضًا عن فكرها وعقلها، وهو ما دفع بياسين بطل الرواية، إلى استغلال هذا الجسد، من خلال الإعلانات والترويج للغواية باسم الفنّ والثقافة، ممّا أدّى إلى تسليعها، وتشييئ حضورها في عصر الاستهلاك والرأسماليّة.

أكّد وادي استحالة أن نتحدّث عن نصّ مبدع دون مراعاة شراكتها للرجل، فسلّط الضوء على واقعها وما يُفرض عليها من خيارات (...) تؤدّي إلى تسليعها واستلابها واستغلالها في الفساد...

إضافة إلى ذلك، اضطهادها العرفيّ والقانونيّ، المنبثق من اضطهادها الأبويّ-الذكوريّ الماثل في القوانين الوضعيّة؛ فعندما حكمت المحكمة بعدم أحقّيّة جيزيلا في حماية نفسها وابنتها الّتي باتت تتخلّق في أحشائها، من فقدان الشقّة الّتي تسكنها، في أعقاب تخلّي ياسين عنها وتنكّره لهذا الجنين، أدّى ذلك إلى إقدامها على إحراق الشقّة بنيران قلبها الملوّع، وبالتالي إلى دخولها السجن، وإنجابها ابنتها ياسمين بين جدرانه، لتبقى سجينة ماضٍ بات حاضرًا لا يحمل هويّة أو جواز سفر.

على ناصية هذا التكثيف في رواية مغايرة في تألّقها السرديّ الصاخب، المتشظّي والمتداخل بيوتوبيات لأزمنة أخرى، حرّض فاروق وادي نصّه الأدبيّ على غزو الفكرة ومحاكمة التاريخ والجغرافيا، ليس فقط على ’أرض الحكايات‘ فلسطين، ولكن أيضًا في فضاءات تاريخيّة وجغرافيّة أخرى، كما هو فضاء الأندلس الّذي ربطه الوعي الجمعيّ العربيّ، بإدراك أو دون إدراك، بالجرح الفلسطينيّ. واستطاع وادي بموهبة فذّة وجماليّة متقنة، أن يطلق العنان لسطوة المكان، وما يفرضه على الشخصيّات من حضور، يعكس الكثير من الأفكار الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة، عبر لغة قادرة مجازيّة أحيانًا ومباشرة في أخرى، بإيقاع شعريّ موقَّع باقتباسات لشاعر برتغاليّ  يُدعى فرناندو بيسوا، تشي بما يجوس في خلد النصّ، توّج بها صفحات منجزٍ استثنائيّ، بمتانة لغويّة ومحمول تشعّبت رسائله في تشظٍّ زمنيّ، واستشراف يتدرّج في عالم من المتغيّرات.

 


إحالات

[1] فاروق وادي، سوداد: هاوية الغزالة (منشورات المتوسّط، 2022)، ص 186.

[2] مرجع سابق، ص 171.

[3] مرجع سابق، ص 69.

[4] مرجع سابق، ص 23.

 


 

فهيمة غنايم

 

 

 

محاضرة في «القاسمي للهندسة والعلوم – باقة الغربيّة»، وباحثة مهتمّة بالشأن الثقافيّ والسياسيّ الفلسطينيّ والعربيّ. تكتب في الأدب والثقافة والسياسة، وتنشر في عدّة منابر فلسطينيّة وعربيّة.