«بدلة إنكليزيّة وبقرة يهوديّة»... الغالب في وعي المغلوب

«بدلة إنكليزيّة وبقرة يهوديّة» (2022)

 

إنّ المكان في السرد ليس مجرّد فضاء جغرافيّ للحدث وأبطاله، لكنّه يشكّل، بمعنًى من المعاني، نقطة الالتقاء بين الزمن وشخوصه من جهة، ومحور الدلالة المشيرة إلى علاقات الناس بتاريخهم من جهة ثانية. لذا، نلحظ أنّ عنصر المكان في المدوّنة الفلسطينيّة، أدّى دورًا مركزيًّا في المخيال الأدبيّ، منذ البدايات الأولى لشيوع فنّ الرواية في المنطقة العربيّة منتصف القرن الماضي، في محاولة جادّة لاستعادته أدبيًّا، أو لنقل للعودة إليه ذهنيًّا؛ فكان أن قرأنا عشرات الأعمال الروائيّة، المتّكئة بالأساس على هذا العنصر المهمّ بكلّ دلالاته على المستويين العربيّ والفلسطينيّ، غير أنّ طريقة المعالجة الأدبيّة كانت ولا تزال حدّ التباين الأبرز بين كلّ عمل وآخر، تحديدًا في سياق العلاقة المتبادلة بين المكان وشخوصه، والزمن وأسئلته الاجتماعيّة والثقافيّة.

هذه المعالجات المتباينة، إنّما تحيلنا بالضرورة إلى لغة الخطاب وغرضها التداوليّ، الّذي عادة ما يطمح إلى تمرير مضامين ورسائل من قِبَل الكاتب الضمنيّ إلى المتلقّي الضمنيّ، بغية إقامة ما يشبه العلاقة الجدليّة بين أفكار وتصوّرات الكاتب، وآليّات التلقّي لدى القرّاء أفرادًا وجماعات، على نحو يشي بملامح هويّة المجتمع المراد الإشارة إليه، وهو ما يميّز الخطاب الروائيّ، القائم على محاكاة الواقع للكشف عن عديد ظواهره وأمراضه، انطلاقًا من وظيفة الأدب ومسؤوليّاته المجتمعيّة. بهذا المعنى يمكننا أن نعاين اللغة والخطاب لدى الروائيّة الفلسطينيّة سعاد العامري، في روايتها الأخيرة «بدلة إنكليزيّة وبقرة يهوديّة»[1]، الصادرة ترجمتها عن «منشورات المتوسّط» (2022)، وهي تتناول بجرأة بالغة حال البلاد وأهلها قبل عام النكبة، على قاعدة أنّ الأدب مرآة الحقيقة الّتي يمكننا التحديق بها دون خجل أو قناع، وإن بدت بعض ملامحنا في الصورة مليئة بالندوب الشخصيّة الّتي تتكفّل بالكشف عن ماهيّة عوالم الفلسطينيّ، في بُعْدِه البشريّ الحامل للخير والشرّ داخله.

المكان في السرد ليس مجرّد فضاء جغرافيّ للحدث وأبطاله، لكنّه يشكّل، (...) نقطة الالتقاء بين الزمن وشخوصه (...) ومحور الدلالة المشيرة إلى علاقات الناس بتاريخهم...

إلّا أنّ هذه الندوب الشخصيّة لم تخطئ الكاتبة نفسها، وهي تُخْضِع عنوان روايتها لمقولة التفوّق الغربيّ، وفق رؤية ابن خلدون حول ولع المغلوب بالغالب، فالبدلة لدى العامري إنجليزيّة، تفيد فكرة الاقتداء، الّتي جسّدها في العمل بطلها ’صبحي العربيّ‘، في مجتمع طبقيّ متنوّع الثقافات والأديان، في ما تحيلنا يهوديّة البقرة، إلى المنطوق العقائديّ لدى المستعمر اليهوديّ وخطابه المرتبط بهذه البلاد، وهو مجاز استخدمته الكاتبة - في ظنّي - لتلبّي شروط الحوار المقبول ذهنيًّا مع الآخر المستعمر في مركزه الغربيّ، خاصّة حين نعلم أنّ الرواية كُتِبَت في طبعتها الأولى والأصليّة باللغة الإنجليزيّة، قبل عامين من صدورها باللغة العربيّة.

لكنّ السؤال: هل بالغت العامري في جرعة المثاقفة الّتي صاغت بها نمط عملها؟ وهل تخدم مثل هذه الصورة المرسلة، قضيّتنا الوطنيّة في شيء؟ هذه الأسئلة وغيرها تدفعنا إلى التوقّف طويلًا أمام عدد من الملاحظات، على الرغم ممّا قدّمته الكاتبة من حبكة سرديّة متمكّنة، استطاعت أن تنتزع مساحات الوقت لصالحها، فضلًا على نجاح الترجمة الّتي أدّت دورًا أساسيًّا في تقديم العمل، وكأنّ العربيّة هي لغته الأصليّة.

 

المجتمع اليافاويّ 

هذه الأسئلة نفسها تذكّرنا بما كتبته الكاتبة المصريّة رضوى عاشور ذات يوم: "إنّ التفاعل شرط حياة الثقافات ونموّها في الزمان، لكن شتّان بين الجسد العفيّ يأخذ حاجته محكومًا بشروطه، والجسد الواهن متشيّئًا يُمْلى عليه فيزيد وهنًا على وهن"[2].

يمكن تقسيم الملاحظات على النصّ إلى قسمين؛ الأوّل يشير إلى صورة المجتمع اليافاويّ المقدّمة في هذه الرواية، والثاني مرتبط بالموقف السياسيّ للكاتبة من بعض محطّات النضال الفلسطينيّ؛ فأمّا صورة المجتمع اليافاويّ، وعلى الرغم من ظهوره مجتمعًا طبقيًّا، متنوّعًا ومنفتحًا، إلّا أنّ صورة العربيّ، بدت في النصّ صورة لمجتمع متخبّط ومأزوم وتائه عن تحديد هويّته الجامعة أو موروثه الحضاريّ، يحيا حياة منفصمة، لا إرادة فيها، ولا وعي أو تأمّل، صورة قائمة على بنية لغويّة تحتوي على نسق ثقافيّ مضمر، يشير إلى مكوّن اجتماعيّ لا يحتكم إلى الضوابط الأخلاقيّة، ولا يقيم وزنًا لمفاهيم القيم الاجتماعيّة، بل هو أقرب ما يكون إلى مجتمع بوهيميّ منحلّ، ينهض على خطاب رغبويّ في سياقه العامّ، مع تلميحات واضحة لتباين الاختلاف الواقع بين مجتمع الريف ومجتمع المدينة.

إلّا أنّ الكاتبة، نَحَت منحى المغالاة في تقديم صورة المجتمع الفلسطينيّ متخلّفًا ومحشورًا بين ثنائيّة المقدّس والمدنّس، الطهر والعهر، المدنيّة والريفيّة، وفق تصوّرات ورؤًى لا تتّفق مع وظيفة الأدب في معالجة الظواهر، قدر اتّفاقها مع محاولة تأكيد تفكّك هذا المجتمع من الداخل. إذ لا تقتصر وظيفة الأدب على نقل الواقع كما هو وحسب؛ فكاتب الأدب ليس مصوّرًا فوتوغرافيًّا لما يرصده، بل هو مشارك في طرح الرؤى والتصوّرات لما يجب أن يكون عليه مجتمعه دون السقوط في شرك الوعظ والإرشاد. لنا في قول أرسطو حول نظريّة المحاكاة أسوة حسنة، إذ يرى "أنّ الأديب حين يقيم فنّه على المحاكاة فإنّه لا يكتفي بالنقل فقط، بل يتصرّف في هذا المنقول ويحاكي ما يمكن أن يكون أو ما ينبغي أن يكون بالضرورة أو بالاحتمال"[3].

غير أنّ وضع الكاتبة للمجتمع اليافاويّ في خانة الثنائيّات الضدّيّة المشار إليها آنفًا، يدخلها في تناقض واضح وصريح مع مقولة الانفتاح والتعدّديّة الثقافيّة والعقائديّة، الّتي مرّرتها وهي تشير إلى حال الطبقيّة الّتي سادت هذا المجتمع، حيث الأجور المختلفة في المدينة، وفق توزيعها الجغرافيّ والاجتماعيّ المنقسم على ثلاث مناطق محدّدة، "كانت المدينة مقسّمة جغرافيًّا واجتماعيًّا إلى ثلاث مناطق، وكذلك كانت أجور العمل"[4].

 

سقوط المرأة من الجنّة اليهوديّة إلى جهنّم المسلمة

تلك التصوّرات والرؤى بدت في السرد مُقْحَمة بلغة مجّانيّة، كأنّها وردت لتؤكّد هيمنة ثقافة المنتصر السائدة، على حساب ثقافة المهزوم المستهدفة، ممّا أنتج صورة مشوّهة للمرأة اليافاويّة في شخصيّة الأرملة الشابّة ‘أمّ زهرة‘، المشغولة طيلة الوقت برغباتها المكبوتة حتّى مع الأطفال، في مقابل أنسنة المرأة اليهوديّة الشيوعيّة ’رفقة‘، الّتي تبنّت الطفلة الفلسطينيّة المشرّدة ’شمس‘ وأختيها، بعد ضياعهنّ من والديهنّ، وتدخّل «دائرة الأوقاف العربيّة المسلمة» معلنة رفضها تربية الأطفال من قِبَل أمّ يهوديّة، لتنقلهنّ إلى حضانة أمّ عربيّة هي ’مريم‘ الخرساء الطرشاء، الّتي تعمل في جمع القمامة والخردة، وتعيش حياة مقرفة مع الحيوانات في بيت من خراب، فتشعر شمس بأنّها وأختيها "قد سقطن من الجنّة اليهوديّة إلى جهنّم المسلمة"[5]، حسب تعبير الساردة.

وضع الكاتبة للمجتمع اليافاويّ في خانة الثنائيّات الضدّيّة (...) يدخلها في تناقض واضح وصريح مع مقولة الانفتاح والتعدّديّة الثقافيّة والعقائديّة، الّتي (...) تشير إلى حال الطبقيّة الّتي سادت هذا المجتمع اليافاويّ...

فضلًا على تقديم صورة لشخصيّة عربيّة مثليّة، وهي شخصيّة هاني الّتي لم يكن لحضورها أيّ معانٍ واضحة، ما يدعو إلى السؤال: ما ضرورة ظهور مثل هذه الشخصيّات (الأرملة أمّ زهرة، وهاني) تحديدًا؟ علمًا أنّ حضورها من عدمه ليس مؤثّرًا في الأحداث؛ فأمّا عن الأرملة فيأتي صوت الساردة ليقول: "لم ينسَ، ولن ينسى صبحي الصبيّ، طوال حياته، كيف أخذته أمّ زهرة من يده قبل بضعة أشهر، ودفعته إلى جدار المطبخ، وضغطت بجسدها الفائر على جسده، وقبّلته قبلة فرنسيّة، ثمّ لمست أعضاءه. ركض خارجًا من شقّتها، ونزل درجات البناية مسرعًا باتّجاه الشارع وهو يحاول أن يغطّي انتصابه بكفّيه، ويخفيه تحت قميصه الفضفاض"[6]. في ما ننتبه لشخصيّة هاني "المثليّة، كما شخصيّة العامل في حمّام أبو سبع زوام"، حين بدأ هاني يندب حظّه: "أقسم بالله، تمنّيت إنّك واحد بيدوّر له على صيده وعامل حاله تايه في حارتنا. إنت عارف، كتير من الرجال الأغنيا بيشتهوا ولاد متلنا. يا خسارة، كان ممكن تكون لقطة منيحة"[7].

لعلّ مساحة الحوارات المهتمّة بنسق الفحولة والجنس في الفصل الأوّل من الرواية، وهو الفصل الأطول بـ 132 صفحة من أصل 310 صفحات موزّعة على فصول أربعة، تؤكّد هذا النسق الّذي قدّم صورة فجّة عن المجتمع اليافاويّ، فحين نشير إلى الفصل الأوّل، فإنّنا نشير بالضرورة إلى فصل التأسيس الّذي قام عليه المعمار السرديّ في فصوله التالية، وهو ما يعني أنّ الكاتبة عملت بوعي، أو دون وعي، على رسم ملامح المكان وناسه من وجهة نظر سلبيّة، وإن بدا صوتها متخفّيًا وراء قناع السارد أو الساردة مرّة، وفي صوت شخوصها مرّات أخرى، فهي الصوت العليم بكلّ شيء، وهي مَنْ يمتلك حقّ التجوّل بنا داخل عوالم شخوصها؛ فهذا على سبيل المثال لا الحصر، ملخّص حوار امتدّ على مساحة خمس صفحات:

- اليهود أشطر منّا في كل إشي، حتّى في الشرّ... "كلمة بذيئة" أجاب حبيب وهو يقهقه بصوت عالٍ... خده عند أبو شلهوب، عنده أحسن شرّ... في البلد، وكمان أحسن أسعار.

- والله جرّبتهم كلّهم، بسّ ما لقيت وحدة متل شوشانا. شرم... أبو شلهوب بيكونوا مستعجلات.

- هاد إنت، يا حبيب، اللّي تِك تُك وخلص، مش النسوان المسخّمات.

- يا رجل، خد منّي، كلّ الخطايا والشرور أجتنا من الإنجليز واليهود، بما فيها الشرا...

- إنت أكيد بتمزح، واضح إنّك ما بتعرف تاريخك ولا تاريخ مدينتك، الدعارة طول عمرها موجودة هون من أوّل الدنيا، قبل ما ييجوا اليهود وحتّى قبل ما ييجوا الفلسطينيّين على هاي البلاد. "مملكة الدعارة كانت أوّل مملكة في فلسطين".

- قصدك إمبراطوريّة الدعارة.

- أيوه إمبراطوريّة الدعارة سبقت الإمبراطوريّة الرومانيّة، اسأل أبوك ورح يقولك إنّه أوّل بيوت دعارة مرخّصة كانت في البلدة القديمة في يافا.

- بتعرف، اسمع يا ابني... أرخص شرمو... في البلد همّه "عرايس الليل"... إنت بسّ إمشي في الزواريب الضيّقة في البلدة القديمة في الليل، وراح يطلعولك من كلّ زاوية، وإنت بتنقّي ببلاش[8].

 

إن توقّفنا قليلًا أمام كثافة النعوت وبذاءتها في هذا المقطع، بصيغ المفرد والجمع، وبشكل مقحم ومزعج، فضلًا على وصف حواري البلدة القديمة في يافا، بأنّها زواريب ’عرايس الليل‘، أظنّ أنّنا سنلمح شبهة تجنٍّ واضحة على أهل هذه البلدة القديمة وهذه الحقبة التاريخيّة، بالإضافة إلى الإسقاط التاريخيّ، وربّما التوراتيّ المشير إلى أنّ فلسطين هي أوّل مملكة أو إمبراطوريّة للدعارة، وهي رواية زائفة ومحرّفة.

هذا الملمح تحديدًا يستدعي مقولة الفيلسوف الفرنسيّ أندريه مالرو؛ ليؤكّد لنا أنّ إطلاق الأحكام النهائيّة، إنّما يعني السقوط في شرك المطلق على حساب النسبيّ، ما يشير إلى سقطة كانت الكاتبة في غنًى عنها، لا لشيء إلّا لأنّ "المطلق هو أسوأ شياطين الإنسان، وهو هلاكه التامّ، إذ إنّ الإنسان لا يمكنه أن يعيش إلّا في النسبيّ"[9].

 

الموقف السياسيّ والوعي النظريّ                                        

أمّا الموقف السياسيّ؛ فعلى الرغم من ظهور شخصيّات بمقولة وطنيّة واضحة، كما هي شخصيّات ’حبيب‘ و’الجدّة‘، إلّا أنّ سعاد العامري مارست حقّها في النقد السياسيّ لبعض محطّات النضال في التاريخ الفلسطينيّ، وهو حقّ لا جدال فيه، بيد أنّه نَقْد سقط في الوعي النظريّ للتجربة الثوريّة، وفق واقعها المعقّد لا مستقبلها المنتظر؛ نقْد اتّكأ على عموميّات الفعل، فألغى من حيث يدري أو لا يدري كلّ الاجتهادات المبذولة، دون التفات للنسبيّ والممكن في حينه، فنجدها تنعت الثورة بالفوضى؛ لتقرّر عبثيّة المحاولة مرّة على لسان شخوصها، ومرّات بصوت السارد أو الساردة، كأن نسمع منها على لسان الساردة: إنّ "شقيقة صبحي؛ حنان، الّتي وُلِدَت في أثناء ثورة 1936، حصلت على لقب ’فوضى‘، لأنّها كانت أبعد ما تكون عن الترتيب من جهة، ومن جهة أخرى؛ لأنّ الفوضى كانت واحدة من سمات ثورة 1936"[10].

مارست  العامري حقّها في النقد السياسيّ لبعض محطّات النضال في التاريخ الفلسطينيّ (...)  نقْد سقط في الوعي النظريّ للتجربة الثوريّة، وفق واقعها المعقّد لا مستقبلها المنتظر...

 في مكان آخر، وأيضًا بصوت الساردة: "هذه الدعوات إلى إضراب مفتوح أيقظت الخوف والذكريات السيّئة لثورة 1936"[11]. في إشارة ثالثة نلاحظها تمسّ بمكانة قادة المقاومة، وهي تشير إلى اللحظات الأخيرة من استشهاد القائد عبد القادر الحسيني وهي تقول: "كان قد أصيب في المعركة، عندما استجدى من عدوّه شربة ماء، تلقّى رصاصة في رأسه عوضًا عنها"[12]. في هذا القول تبنٍّ للرواية الصهيونيّة الّتي أرادت أن تشوّه صورة هذا القائد بفكرة الاستجداء؛ غير أنّها أكّدت مفهوم ابن خلدون حول "ولع المغلوب بالغالب"؛ فكانت البدلة الإنجليزيّة بالنسبة إلى بطلها صبحي جواز سفره إلى عالم آخر لم يعهده من قبل في مدينته، وفق السارد – أو الساردة - حيث "شعر كأنّه رجل إنجليزيّ، بطوله الفارع وكبريائه... شعر صبحي بأنّ البدلة الإنجليزيّة كانت أقرب ما تكون إلى جواز سفر إنجليزيّ، أتاح له الدخول إلى أماكن محرّمة عليه في مدينته"[13].

إنّ هذا الاقتداء والتماهي اللذين لخّصهما ابن خلدون، وأكّدتهما الكاتبة بما طرحته من أفكار وتصوّرات في هذا العمل، إنّما يحيلنا إلى مقولة جان بول سارتر في تصديره لكتاب فرانز فانون «معذّبو الأرض»: "إنّ لكلّ إنسان أن يقود أفكاره كما يشاء، ولكن شريطة أن يفكّر"[14]؛ وهو ما يطرح علينا سؤالًا: هل فكّرت العامري في محمول مضامين روايتها هذه؟ وإذ إنّنا لا نملك أيّ إجابة محتملة لمثل هذا السؤال، يمكننا أن نستدعي سارتر مرّة أخرى وهو يتحدّث عن كتاب «معذّبو الأرض»: "إنّ دعوانا الإنسانيّة مكشوفة العورات، غير جميلة، إنّها لم تكن إلّا أيديولوجيا كاذبة، لقد كانت تسويغًا مزوّقًا للنهب والسلب"[15].

هنا بالضبط يكمن ملمح الخلل الوظيفيّ في هذه الرواية، حيث تنال مثل هذه المضامين ممّا أسماه الفرنسيّ غوستاف لوبون بـ ’روح الشعوب والجماهير‘؛ إذ يؤدّي هذا الانصياع للاقتداء والتماهي من قِبَل الكاتب إلى التورّط في سؤال الهويّة وإشكاليّاتها، بين ثقافة وافدة وأخرى موروثة، وسؤال الهويّة لا يتجلّى إلّا بتجلّي الأزمة، والأزمة القائمة منذ مئة عام، ولا تزال تكمن في الاستعمار فكرةً تدفع إلى الاستلاب في الممارسة، وهذه وتلك لا يتمظهران إلّا في سياق العلاقة المرتبكة والملتبسة مع ما يُعْرَف بالحرّيّات وتعبيراتها الغربيّة الرؤيويّة المستمدّة من فكرة المثاقفة بين الشرق والغرب، ما يسوّغ نهب الأرض وسلب مقدّراتها، ويدفعنا إلى التوقّف طويلًا أمام الأنساق المضمرة في مثل هذه السرديّة، ومحمولها الثقافيّ المتّكئ على ما يُعْرَف في العلوم الاجتماعيّة بـ ’سوق الأفكار‘، وخطورة تناولها أدبيًّا على نحو يُعَظِّم من فعل الغالب وسلوكه بكلّ صفاته، في وعي المغلوب بكلّ نعوته.

 


إحالات

[1] سعاد العامري، بدلة إنكليزيّة وبقرة يهوديّة، ترجمة: هلا الشروف (ميلان: منشورات المتوسّط، 2022).  

[2] رضوى عاشور، صيّادو الذاكرة (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ، 2001)، ص 93.

[3] انظر أحمد هيهات، فائدة الإبداع بين أفلاطون وأرسطو، ديوان العرب: https://cutt.us/IRy9e.

[4] سعاد العامري، ص 23.

[5] مرجع سابق، ص 251. 

[6] مرجع سابق، ص 69. 

[7] مرجع سابق، ص 70. 

[8] مرجع سابق، ص 92-94. 

[9] بول غايار، مالرو (دمشق: وزارة الثقافة، 1994)، ص 78. 

[10] سعاد العامري، ص 18. 

[11] مرجع سابق، ص 49. 

[12] مرجع سابق، ص 151. 

[13] مرجع سابق، ص 65 - 67. 

[14] فرانز فانون، معذّبو الأرض (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2017)، ص 32. 

[15] مرجع سابق، ص 33. 

 


         

أحمد زكارنة

 

 

كاتب وإعلاميّ فلسطينيّ، يعمل مذيعًا في «الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون الفلسطينيّة»، صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «ما لم أكنه» بالإضافة إلى كتاب «وعي الهزيمة». يكتب المقالة في الشأنين الأدبيّ والسياسيّ في عدد من المنابر العربيّة.