«جمعة مشمشيّة»: أمّ الفحم الراهنة بين الرثاء ومقاومته

مدينة أمّ الفحم | تصوير: معتزّ توفيق إغباريّة.

 

الفردوس المفقود: مرثيّة لسيرة مدينة

"رشقات سريعة تُسْمَع من بندقيّة أوتوماتيكيّة يصعب تحديد موقعها... ما معنى أن تعود إلى بيت الطفولة فتجد أغرابًا يقيمون فيه؟ لن تستعيد تجاربك فيه. لن يكون هو هو، سيكون شيئًا آخر".

ربّما هذه السطور في رواية أحمد إغبارية «جمعة مشمشيّة» (2022)، الّتي تُقال على لسان ’طارق‘، الشخصيّة الرئيسيّة، عندما يخرج من السجن الّذي دخله إثر فِرْية، هي الجملة المفتاحيّة لهذا العمل. ’طارق‘ اليافع، المطبوع على الحرّيّة والبحث والتمرّد، والّذي قضى عقوبة "عقابًا على أحلامه الّتي لم تَرُق الكثيرين"، يعود رجلًا بعد عقد ونصف إلى أمّ الفحم غير المعهودة، وقد مرّت بتحوّلات حاسمة خلال العقود الأخيرة غيّرت وجهها الّذي عرفه، وردمت من تحتها بلدة فلسطينيّة أصلانيّة مثل كثير من البلدات الفلسطينيّة الّتي باتت تُسَمّى ’مدينة‘ في العرف المؤسّسيّ، تغلّب فيها الطابع المادّيّ والطقسيّ والشعبيّ عبر جيلين، متمثّلًا بـ ‘غبيشي‘ و’شهبندر‘، على الطابع الأصلانيّ والروحيّ والمثقّف متمثّلًا بـ ’طارق‘ و’حمدان‘، وهيمنت عليها عصابات الإجرام، وأرهقت سماءها الطوّافة العسكريّة.

هذه الرواية تقوم على فعلين متناقضين أساسيّين: فعل الرثاء وفعل مقاومته. يسير فيها القارئ بين الحلم والحقيقة، بين الفنتازيا والماضي (...) وفي مركزها أمّ الفحم بأحيائها، وزواريبها المنسيّة...

هذه الرواية تقوم على فعلين متناقضين أساسيّين: فعل الرثاء وفعل مقاومته. يسير فيها القارئ بين الحلم والحقيقة، بين الفنتازيا والماضي، بين الأحلام والكوابيس، بين الطفولة والمستقبل، بين الراهن والمرتهَن، وفي مركزها أمّ الفحم، بأحيائها، وزواريبها المنسيّة، وشوارعها، وواجهاتها الحاضرة بين وجهها الغائب والمشتهى، ووجهها المفتعل والطامس لما سبقه. تأتي هذه "السيرة الذاتيّة المتخيّلة" - كما يصنّفها الكاتب - لتحاول نزع الأقنعة بطريقة ملحميّة؛ فتلهث فيها خلف الراوي كي تعثر عليه، أو تمسك بأطراف منه، فيزداد لهاثك وأنت تقفز خلف طارق بين «خربة الغُطسي» وأساطيرها، وحبلات «مسجد لغباريّة» والجامع القديم وحكاياته، لتسقط في بئره، ويُعاد تدويرك مع ذلك الفتى الفحماويّ.

تُدْهِشُ سرعة السرد، والمشاهد المتلاحقة، والصور المكثّفة السينمائيّة كأنّها ليست مكتوبة، بل مصوّرة بكاميرا مثبّتة بالقلب والذاكرة. بين هذه وذاك، يستثمر الكاتب إشارات السرد الاستباقيّة، ويتجاور زمن السرد ويتقاطع طباعيًّا بين الخطّ المائل والخطّ المستوي، ليدلّل على طبقات الصوت والزمن، كأنّ الكاتب يعادل بهما طبقات البلدة ونسيجها الاجتماعيّ، ليسحبك نحو ثلاثة أزمنة سرديّة، ثالثها يعيدك إلى الفترة العثمانيّة، وأوّلها يستبقيك في الراهن الّذي أصبح رهينًا لسلاح أوتوماتيكيّ رابض في قلب البلدة، وطوّافة عسكريّة ترقب الحركة، وأصوات رخاميّة باردة استبدلت الصوت الروحانيّ الأصيل.

هذا الخليط السرديّ الّذي يتفنّن الكاتب في تكثيفه، واقتناص مشاهده، ووصفه الملتحم بالطبيعة الريفيّة، حيث أشجار فلسطين وحواكيرها ومشمشها وآبارها، يجعلك تحاول أن تمسك بما لا يمكن الإمساك به، كما يقول: "لا أصابع في كفّي لكي أقبض على زمان أدبر وانقضى".

 

تحوّلات المكان 

تتعالق الأزمنة الثلاثة بإعادة تدوير لذات الحكاية بشخوص مختلفين، هم امتداد للأجيال من ذات المكان، حيث تتوازى رحلة القوافل التاريخيّة عبر وادي عارة قبل مئة عام، وكانت غايات أفرادها خليطًا من الأهداف التجاريّة والثقافيّة الدينيّة الّتي تحمل قصص الناس، برحلة طارق الراهنة في قراءة مخالفة لعودته بالحافلة من سجنه عبر ذات الطريق، وشتّان ما بين العبورين؛ إذ نشهد فور دخوله البلدة تحوّلات المكان، وكأنّنا أمام مرثيّة لبلدة اعتلتها مدينة أخرى، فشوّهت ذاكرة المكان:

"دوّار يليه دوّار يليه دوّار! ضوضاء عاتية، أزيز رصاص، مبانٍ مرصوصة، تتنطّح وتحملق إلى الناس بازدراء. من أين زحف كلّ هذا الحديد واستقرّ هنا؟ عمائر نيويوركيّة بألوان غريبة على امتداد الطريق... أسلاك طويلة ومتشابكة ليس يُفْهَم مغزاها... خليط هجين من كلّ شيء... طوّافتان مسرعتان".

نلمس في الرواية نقدًا لتغيّر وجه البلدة المعماريّ الأصلانيّ، مرتبطًا بتحوّلها الهويّاتيّ المحكوم بحداثة مصطنعة وذائقة فجّة، واستنساخ ثقافيّ مشوّه؛ فبعض البيوت خلعت ثيابها، ولبست زيًّا هجينًا فيه طبقات، كأنّما من عصور مختلفة. الحديثة تعلو وتركب فوق القديمة، وتكاد تبتلعها في مشهد سرياليّ منفّر. العقود والقناطر القديمة ما عادت تمتلك الحضور ذاته، أمّا ما تبقّى منها فآيل للسقوط. في ما اختفت الشوارع الترابيّة ومعها الأشجار والمنعطفات الّتي كانت تراعي وجود الشجرة، فتلتفّ من حولها دون أن تزعج ملكوتها، لأنّ الشجرة كائن مقدّس.

الرواية تحفر عميقًا ورمزيًّا بالتحوّلات المتعالقة بها في البُعْد السياسيّ والمجتمعيّ، وتحوّلات أخرى في بُعْد الممارسة الدينيّة من الروحانيّة إلى الطقسيّة...

هذه التحوّلات ليست معماريّة شكليّة فرضتها الحاجة، والظروف السياسيّة والاقتصاديّة، والتحوّلات من مجتمع ريفيّ إلى مجتمع ’مدينيّ‘ فحسب، بل إنّ الرواية تحفر عميقًا ورمزيًّا بالتحوّلات المتعالقة بها في البُعْد السياسيّ والمجتمعيّ، وتحوّلات أخرى في بُعْد الممارسة الدينيّة من الروحانيّة إلى الطقسيّة:

"أين مدخل الجامع القديم؟ الجامع أصبح جَدَثًا، وفيه دفنت صلواتي وابتهالاتي. الجامع العريق أعرفه، أعرف زواياه وقوائمه، أعرف أعمدته وعقوده، أعرف نكهة الإيمان فيه الّتي لا تكاد تلتبس على حواسّ القلب (...) أين هذا الصوت من صوت الشيخ خليل؟ (...) في الحقيقة، لستُ أرى هذا المسجد العملاق الشاهق والشاخص أمامي، ما أراه هنا هو أطلال روحي. هذا ليس مجرّد بناء قديم قد جرى دفنه".

 

الأسماء في مقاومة المحو

للوهلة الأولى يبدو التيّار الرثائيّ والناقد التيّار الرئيس في الرواية، لكنّنا نحفر تحته لنجد أنّ الرواية تقوم على ثلاثة أفعال مقاوِمة للرثائيّة: أوّلًا من خلال تثبيت الذاكرة والنبش فيها، عبر ذاكرة طارق وطفولته الّتي تتوازى بذاكرة المكان فلا انسلاخ بينهما؛ فالأسماء الجغرافيّة في علم المكان تعبّر عن نظرة المجتمع وقيمه، وتعيد إنتاج علاقات القوّة في الحيّز، وتجسّد المواقف السياسيّة والأيديولوجيّة في خلق الوعي بجوهر المكان وهويّته.

الفعل الأدبيّ يصبح أداة في مناهضة الواقع القسريّ، وفي مخالفة المرجع الرسميّ، من خلال الإبقاء على الاسم في الوعي الفلسطينيّ، وهو وعي له كيانه وسرديّته. لذا؛ فالرواية زاخرة بأسماء الشوارع والأزقّة والأماكن والخرب والآبار والجوامع، هذا التثبيت الطبونيميّ يأتي متشابكًا مع سرديّة تلك الأماكن في الذاكرة والموروث، وهو فعل مقاومة ضدّ التحوّلات الطامسة لأمّ الفحم، هو سيرة تذكيريّة لمدينة أخرى تكاد تختفي هويّتها تحت وجه الحداثة والأسماء الأجنبيّة للمحالّ التجاريّة، والعمارات الرابضة فوق القلوب.

 

تعرية الديستوبيا

في المقابل، تستند الرواية على فعل مقاوم ثانٍ عبر كشف الأقنعة وتعريتها؛ إذ يوظّف الكاتب ثقافته الفلسفيّة العميقة، ويدمجها بسرديّات ميثولوجيّة محلّيّة عبر تقنيّة التناصّ المقلوب، وهو بهذا يسعى إلى إبراز المشهد الديستوبيّ وفضحه، الّذي يكون السعي فيه إلى إقصاء هويّاتيّ مجتمعيّ وسياسيّ وفكريّ لما يمثّله ’طارق‘ و’حمدان‘ في مشهديّة البلدة/ المدينة.

 

رواية «جمعة مشمشيّة» (2022)

 

«مقام سيّدنا إسكندر» أصبح مأوى عرصان، وأسطورة ناطور الماء جبرين وناطور الحديد تصبح معادِلة لقصّة أمّ الفحم في صراعها الصامت مع مستوطنة «مي عامي»، والقصّة الدينيّة في «سورة الكهف» بين النبيّ الخضر والغلام تأتي من أجل تقشير النفاق والفساد في المؤسّسة التربويّة، حيث تتشابك الشخوص الروائيّة بشخوص التناصّ، ’حمدان‘ و’طارق‘ و’جبرين ناطور الماء‘ مقابل ’ناطور الحديد‘، و’شهبندر‘ الّذي يأكل لحم الناس، و’غبيشي‘، ومدير المدرسة، و’الأستاذ سعيد‘، و’الشيخ أبو خضير‘. يتجلّى عبر هذا التوظيف المقلوب للتناصّ الصراع الراهن بين الأصالة والمسخ، في جميع المستويات، في البلدة/ المدينة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948 عمومًا.

 

الهدم موتيف تطهيريّ

موضعة الكاتب لنهاية هذا الصراع تأتي عبر مخاض مزدوج التقنيّة، لضرورة ازدواجيّة السياق السرديّ والسياق التأليفيّ؛ ففي مستوى النهاية الأوّل يوظّف الكاتب تقنيّة الحلم الّذي يشبه الحقيقة، حيث يتشابك بقصّة النبيّ يوسف والبئر، دخول ’طارق‘ في بئر الجامع يوصله إلى «خربة الغطسيّ»، حيث لحظة السقوط هي لحظة التنوير؛ فتتفجّر المياه الّتي انحبست عن عيون أمّ الفحم الناشفة: عين التينة وعين الذروة وعين الشعرة وعين خالد وعين جرار. لا تعود الحياة فقط إلى البلدة/ المدينة، بل تتسلّل إلى مخبأ عسكريّ سرّيّ تعطبه، وتعود المياه المسروقة عبر أنبوب نحو «مي عامي» إلى الخربة، تندفع المياه في حيّ البير لتستشرف عودة البساتين إلى الحياة؛ فيظهر مشهد من الفانتازيا يرقص فيه العجائز، ويستردّون عافيتهم وفرحهم كالأطفال، مع استرداد المكان لروحه، وتستعيد النساء زغاريدها وجرار الماء فوق رؤوسها.

استخدام الماء في الحلم، كموتيف مقاوم تطهيريّ وتفجيريّ للراهن، يؤسّس لفعل المقاومة الثالث، وهو الهدم من أجل الاستحضار والبناء؛ فعودة المياه لمجاريها تفجّر البنك رمز التسلّط المادّيّ، وتفجّر عمارة شهبندر الدبّور رمز الانتهازيّة والعمالة الأبديّ.

هذه العودة الّتي تعطب المخابئ العسكريّة السرّيّة تحت جذر البلدة/ المدينة، تستنفر الطوّافات العسكريّة بما ترمز إليه في البُعْد السياسيّ والعسكريّ للمؤسّسة الاستعماريّة.

 

الوصيّة فعل مقاومة مستمرّ

في المقابل، في المستوى الحقيقيّ المتوازي للحلم تنتهي الرواية، من خلال تقنيّة النهاية الدائريّة الجزئيّة عبر موتيف الوصيّة، وهو فعل مقاومة صامت لكنّه ينمو في شكل لولبيّ ومستمرّ وأبديّ، ويقابل فعل الماء المتفجّر والصاخب في الحلم، حيث يوصي ’حمدان‘ لـ ’طارق‘ بـ «خربة الغطسي» مُلْكًا وأمانة.

إعادة تدوير الحكاية عبر الأجيال المتعالقة فكريًّا، وفعل المقاومة عبر الوصيّة، هو ما تبقّى للبلدات/ المدن الفلسطينيّة أمام أزيز الطائرة العسكريّة الاستعماريّة، المستبدل به سلاح العصابات الّذي لا يتوقّف، وأمام أمثال ’غبيشي‘، وهم كثر.

استخدام الماء في الحلم، كموتيف مقاوم تطهيريّ وتفجيريّ للراهن، يؤسّس لفعل المقاومة الثالث، وهو الهدم من أجل الاستحضار والبناء...

المخاطر لا تزال محدّقة بالبلدة/ المدينة الفلسطينيّة، لكنّ الجمعة لا تزال ’مشمشيّة‘ كما يقول ’آدم‘، الّذي يلتحم بـ ’شهرزاد‘ كشاهدين على السيرة في سياق الحلم وسياق الحقيقة، يلتحمان في فعل مقاومة أبديّ هو فعل الحبّ الّذي يجمع بين رمزين تذكيريّين: ’شهرزاد‘ رمز السرد المستمرّ للحكاية، و’آدم‘ رمز الصمود في إعمار الأرض رغم الفقدان، حين يقدّمان طوعًا حفنة من مشمشهما الأصفر الّذي طال انتظاره، وفرصة أخيرة لا تفوّت لشمس بلد لن تغيب مهما أرادوا لها ذلك، إذ تقول الوصيّة:

"الدور دورك الآن، أوصيك بالبستان بما يحوي. لكلّ شجرة فيه ملامح وهويّة، لكلّ حجر وظيفة ومعنى. المياه المتدفّقة من خربة الغطسي تأتيك بقصص وأسرار، أصغِ إليها. اعزق تراب البستان بالمعول في ما بصرك إلى الأعالي، إلى خربة الغطسي. حوار باطن يدور بين البستان والخربة. كن طرفًا مبدعًا فيه. ثمّة مناجاة سرّيّة بينهما لا يفكّ رموزها إلّا حاذق ومرهف مثلك. حين يراك الحمام سيعرفك وسيرافقك...".

 


 

عايدة فحماوي - وتد

 

 

 

أكاديميّة فلسطينيّة وباحثة في الأدب الفلسطينيّ والأدب الحديث.