سيغدو حلم العودة حــقـيـقـة..

-

سيغدو حلم العودة حــقـيـقـة..
الحاجة ندى الماضي (ام ماهر)، فلسطينية، في الخامسة والسبعين من عمرها، ولدت في قرية إجزم (في القسم الغربي من جبل الكرمل)، والدها نايف الماضي، يذكره الفلسطينيون الذين سكنوا اجزم حتى العام 48، عام النكبة... والماضي كان مختار اجزم لفترةٍ طويلة، واشتهر بغناه، كان مالكًا لأكثر من ثلث أراضي القرية، والتقى بالتجار الكبار أمثاله، ليبيعهم الحبوب، واستأجر من يرعى مصالحه في الزراعة ويعاونه في طلبات البيت.

وتؤكد ندى الماضي أن الوالد كان محبًا وكريمًا، وفتح بيته للقريب والغريب، كانوا يأتون لاستشارته في قضاياهم ومشاركته همومهم، ولم يبخل عليهم بالمشورة والمساعدة، حتى النساء اللواتي اختلفن مع أزواجهن أو تعرضن للأسى والضرب كُنَ يأتمنه على اسرارهن، فيسدي النصائح التي تعمر البيوت وتعيد الحق الى صاحبه.

تقول أم ماهر: «عشتُ طفولتي في بيتٍ يشبه القصور، وفي أمسيةٍ من أماسي الشتاء، ترك أهل القرية ديوان والدي، على غير عادتهم، قبل الحادية عشرة مساءً، وإذا بالركن الخاص بوالدي ينفجر، لنسمع دويًا هائلاً... يومها أدركنا أن لا أمان في البيت، فقال والدي «الناس انسعرت»، وعند الصباح حملني والدي وسارت عائلتي نحو الأراضي اللبنانية حتى وصلنا الى برج البراجنة، حيثُ أقمنا هناك سنتين، وعدنا في العام 1938، وفي جعبتي أجمل ذكريات الطفولة».

دبّ الحماس في صدر أم ماهر، فصارت تروي حكاياها التي لم يقوَ الزمن على محوها من ذاكرتها: «بتذكريني بأيام العز... خسارة، لو شفتي البيوت اللي كانت عند أهلي، هدوها اليهود... بس على علمي ضل بيت واحد لأخوي الكبير، قصر ولحد اليوم بتروح الناس تتفرج عليه».

سمعتُ تنهيدة قوية، وهي تعود الى سيرة والدها: «الله يرحم ترابو، كانت الناس تحلف بإسمه، زلمة شهم ومحبوب، وأول واحد علّم اولاده»...

ومرة أخرى تستعرض شريط ذكرياتها: «قرر والدي احضار مدرّس ليعلمنا أصول القراءة والكتابة، لا أذكر كم من الوقت أمضينا في التعلّم، ما أذكره أننا حُشرنا في غرفة واحدة، ستة عشرَ طالبًا، إضافة لأبناء الأجيريْن عند والدي. وقتها لم نكن نعرف المدارس الحكومية، كان معلمي «قاعد نايم عنا»، صرتُ مولعة بالمطالعة، ولم يبخل عليّ أخي الكبير المحامي «محمود»، بتقليب مكتبته، ومطالعة الروايات واحدة تلو الأخرى، صغيرة كنتُ عندما قرأت «الف ليلة وليلة» و»في بيتنا رجل» و»بائعة الخبز» و»غادة كربلاء»، والقرآن الكريم».

تتابع الماضي «كان والدي يتشارك مع سعيد المحسن في زراعة أرضنا بالقمح أو الخيار، وكانَ يقسّم الأرباح مناصفة، أما نحن البنات فقد حُرّم علينا لقاء الغرباء باستثناء أبناء سعيد المحسن الذين لم يتخطوا السادسة عشرة من العمر».

تحدثت بمرارة: «للأسف لم يسلم أبي من أذية أبناء قومه، بعض الحاقدين على أصحاب الأموال، كانوا أشد قسوة وأكثر بطشًا بممتلكات والدي.. كنت متضايقة كثيرا من هؤلاء، ومرات أكثر من اليهود، لأن اليهود اسمهم غرباء، مش مثل اخوكي، من لحمك ومن دمك، من بلدك»...

خفضت من صوتها وقالت: «الله يرحم أيام زمان، كنا مستورين لحد ما اجو اليهود، ووصلو لعين غزال جنبنا، وصار مفروغ منه انه نطلع من البيت... يا بنت الحلال، صاروا اليهود يطخو كل واحد بطلع ع الشارع، هربنا بالليل والفراش محمّل على ظهور الخيل، بتنا للصبح على ظهر التلة بعدين وصلنا دالية الكرمل».
تصف أم ماهر ايام الهجيج: «وصلنا الى الدالية ووجدنا مئات العوائل ممن هُجروا من قراهم، جاؤوا من جبع وعين غزال والمزيار والطيرة والطنطورة... في ساحة القرية حمل الجائع منهم في يده رغيف خبزٍ «حاف» يأكله بنهم، وتجمهروا، يتشاورن كيف سيتدبرون أمرهم، كالأفلام رأيتهم يقفون في طوابير، أمهات يحملن أطفالهن، ورجالاً يحملون ما استطاعوا من أكياس وحاجياتٍ خفيفة الوزن».

«صورٌ تنفطرُ لها القلوب: أطفال حفاة، نساءٌ ورجال بلا مأوى، وعجائز غلبتهن آلام الوقوف فبكين... سكنت عائلتي في بيت مختار البلدة لبضعة أيام، أما النازحون الخائفون فهرعوا الى الباصات، عندما قيل لهم انها تابعة «للأمم المتحدة».

(تخفض صوتها متحدثة الى نفسها) قال "أمم متحدة وصليب أحمر، كذب- هاي باصات اسرائيل"، و"بُشرت" العائلات بالانتقال الى الدول العربية... آهٍ وألفُ آه لوجع القلوب ولبكاء الرجال، أمهاتٌ لا تقوى على حملَ أطفالهن، وشبابٌ تتبرع بحملِ ما تبقى مِن الأطفال والحاجيات... ورجال وضعوا مفاتيح بيوتهم في جيوبهم على أمل العودة قريبًا، قيل لهم: «ستأكلون الأرز وتعيشون في أمان لبعض الوقت ثم تعودون الى بيوتكم»، قادتهم الباصات أبعد من جنين... وقُذف بهم في بقعةٍ مفتوحة قرب جنين ورُحّلوا الى البلاد العربية... بينما أفلحت قلةٌ من الرجال بالتسلل ليلاً الى الديار، ليصف بعضهم محاسن «الأمم المتحدة وصليبها الأحمر»، الذي وزّع الحلوى على الأطفال مناصفة، وأجلس النساء باحترام... فيما عادت الباصات الى مركز الدالية بعد خمسة عشر يومًا لتنقل البقية الباقية من المهجرين من ديارهم، وبين المسافرين رجلٌ في الخمسينات من عمره، ساعد زوجته في الصعود وحملَ حقيبة فيها ما اتسع من الحاجيات ووضعها في الباص، ثم عادَ ليأخذ الفرشة خاصته، فأوقفه مسؤولٌ يهودي كبير: «ممنوع... بروخ لخالك»... عجزَ الرجل عن انتزاع فرشته التي تحوي مدخراته وشاهد كغيره من المتفرجين كيفَ أحرقَ المسؤول ما تركه الفلسطينيون مِن بضاعة، وتحولت الفرشة بما فيها من أموال الى رماد، سالت دمعةٌ حارقة من عيني الرجل الخمسيني وغابَ بين الجموع»...

«أخرجَ أبي مفتاح بيته من جيبه، وفتح الباب على مصراعيه لندخل جميعًا ونرتمي بين زوايا البيت، لكنّ المهاجمين اليهود عادوا من جديد، وأطلقوا نيران بنادقهم من فوق رؤوسنا، خفنا وعدنا للمرة الثانية الى قرية الدالية، وهذه المرة قضينا نحو سنتين... ووصلنا أنّ الفارين من جنين والعائدين إلى ديارهم، اصطفوا صفًا واحدًا وأداروا ظهورهم بأمر اليهود لتنطلق نيران الرشاشات فترديهم قتلى... بمن فيهم سجناء «عتليت» فكان ختام أسرهم القتل بلا ذنبٍ اقترفوه».

توفي الوالد نايف الماضي، بعد فترةٍ وجيزة قضاها برفقة صديقه طاهر القرمان الذي دعاه للسكن في إبطن، فسار وعائلته إلى هناك، وجاورتهم عائلة مكونة من شابين ووالدتهما، فأعجب العازب بندى الصبية الرشيقة ابنة السابعة عشرَ ربيعًا، وتزوجها في العام 1951 وبعد ثلاثة أشهر انتقل بها الى شفاعمرو حيثُ يعمل في مكتب الشؤون الاجتماعية التابع للحكم العسكري.

لم تبقَ عائلة محتاجة إلا وطرقت بابَ أحمد الصفدي، زوجُ ندى، فكانت حرم الصفدي لا تردُ زائرًا، ولا تغلق بابًا في وجه سائلٍ أو ضيف.

حدثتني „ام ماهر” عن اقامتها في شفاعمرو، وحياة الفقر التي أجبرت النساء من عدة قرى: شعب ودير حنا وعرابة وسخنين، لزيارة مكتب الشؤون الاجتماعية، وما كانَ وصول سيدة من كفر مندا حافية القدمين إلى بيتي، إلا احتياجًا...

وتذكر زوجة الصفدي بعض ما كُنّ روينه لها نساء البلدة، فمنهن من قتل زوجها أمام عينيها، وبقي أطفالها كالصيصان يتمسحون بجنباتها، ومنهن مَن أصبحت تشتهي لقمة العيش، بعدما كانت معززة مكرمة في بيت أهلها، وفيهن من تمنت لقاء شقيقها الذي عذبته الغربة”.

تذكرّت قصة المعلبات: „تكرمّت” هيئة الأمم المتحدة على الشعب العربي بمعلبات اللحمة التي استلمها الحاكم العسكري اليهودي، فوزع معظمها على اليهود، وما تبقى منها سُمح لزوجي بتوزيعها على المحتاجين، وحرصًا على المراقبة، كانت سيارة الجيش الاسرائيلي ترافق الصفدي الى القرى العربية، فوزعت بالتساوي بين المحتاجين وحصل اهل شفاعمرو على ما تيسَر منها...

أما مديرة الشؤون الاجتماعية „جفيرت شال” فلم تسلم من دعاء ام ماهر: „الله يحرقها بنار جهنم، يقلها جوزي لازم الولد يفوت ع المستشفى وضعه صعب، تقولو „فش تكتسيف(ميزانية)”، يقلها ما بنفع، كانت الناس هديك الأيام زي غزة اليوم، عايشة فقر ومرض وظلم”.

تقول ام ماهر: „ذات ليلة كنت اقلّب أوراق والدي، وعثرت على ورقة سجّل فيها والدي، رحمه الله هذه الملاحظة: „صبحي .... له أجرة شهر كامل، 17 دينار”، وصبحي كان أجيرًا عند والدي، اختفت اخباره منذ العام 48، وقيل إنه استقر في إحدى الدول العربية، قلتُ في نفسي: „ورثني أبي 45 دونماً، وأتركُ دينه في رقبتي؟!، وإن سئلت يوم القيامة عن الأمانة فماذا سأجيب ربُ الكون؟!!!”.

„وبعد الكثير من الاستفسارات تحقق لي معرفة مكان لجوء „صبحي”، وحصلت ابنتي „لبنى” على رقم هاتف قد يدلنا عليه، وفعلاً تحقق لي الحديث معه، أجابني: نعم أنا صبحي، قلتُ له: لك أجرة شهر وهي أمانة في عنقي، فقال لي: أنا سامحتُ المرحوم نايف الماضي، فقلتُ له: أما أنا فلن أسامح، وسأرد الأمانة... فشكرني، ثم أوصلتُ المبلغ عن طريق ابنتي „زلفة” الى شقيقة صبحي في الأردن، والأخيرة أوصلتها الى شقيقها المقيم في العراق”.

سكتت أم ماهر، وهي التي بردت نارها بعد أن ردت الأمانة الى صاحبها، وعادت لترسم حزنًا على وجهها عند سؤالي: „هل تعتقدين أنّ الغائب سيعود الى دياره؟!

أجابتني : „معلوم راح يرجعوا، والله ولا بلاد ولا أرض بتعوض الغايب عن بيته، جلهم يحتفظون بمفاتيح البيوت، والكبار منهم يموتون وفي أعماق جوارحهم يسكن حلم العودة”..

وتتابع: „بدي اقلك اشي بيني وبينك، اسرائيل بتضلش، اطلّعي تقولك „من كتر ظلمه واعتداؤه قرب فناؤه”... عزا كل العمايل اللي عملوها في غزة لحد اليوم ما بتحرّم”.

عادت ذاكرة أم ماهر لتنتعش من جديد وهي تحدثني عن زيارتها الأخيرة الى غزة برفقة „لبنى”، حيثُ تقيم الابنة الصغرى „زلفة” ولخصت حكايتها بقولها: „في نقطة التفتيش (محسوم ايرز) أردنا انهاء المعاملات للدخول الى غزة، معظمها من داخل الخط الأخضر، جئنا لزيارة فلذات أكبادنا في غزة، وبيننا القليل من الغزاويات اللواتي أردن زيارة أهلهن، تجمعنا في „كيبوتس زيكيم” حيثُ لا مقاعد هناك، فجلسنا على التراب، بانتظار دورنا، وأحضر الموظفون صناديق التفاح فأكلوا حتى شبعوا، وتركوا للأطفال القليلُ مما تبقى، وكالدجاج الجائع أكل الأولاد بنهم، ومضى النهار ولم نتحرك من مكاننا، ثم طلبوا منا أن نعود في اليوم التالي، فصرخ الجميع: كيف ذلك؟! جئنا من بلاد الله البعيدة من بئر السبع، من حيفا، وعندما „لم تكن الحياة فيمن تنادي”، بتنا في مكانٍ قريب حتى الصباح، عدنا الى نقطة التفتيش لنخرج منها أواخر النهار، ودخلنا الى غزة”.

ودعتني أم ماهر بالحديث عن الظلم الذي زاد عن حده فباتَ لا يُحتمل، وتركتها عندما انهت كلامها „قريبًا سيغدو حلم العودة حقيقة وسيعود الغائبون الى الديار”... غادرتُ بيتها ولم تغادرني ذكرياتها...

التعليقات