في ذكرى الاجتياح: عرب ٤٨ يعود إلى مخيم جنين… آثار الجريمة في كل مكان

مر اثنا عشر عاما على اجتياح مخيم جنين، ورغم كل النقاط السوداء في الحاضر الفلسطيني والعربي، وعلى الرغم من كل مشاهد الهوان، فما زال هناك وميض ونقاط مضيئة تثير مشاعر الفخر.

في ذكرى الاجتياح: عرب ٤٨ يعود إلى مخيم جنين… آثار الجريمة في كل مكان

اثنا عشر عاما على اجتياح مخيم جنين (12\4\2002)، رغم كل النقاط السوداء في الحاضر الفلسطيني والعربي، وعلى الرغم من كل مشاهد الهوان، فما زال هناك وميض ونقاط مضيئة تثير مشاعر الفخر.

هناك في جنين -المدينة والمخيم- إحدى أبرز تلك النقاط، حيث وقف العشرات من رجال المقاومة الفلسطينية صامدين في وجه قصف إسرائيلي وحشي بالطائرات والدبابات استمر عشرة أيام وأكثر. وكبد رجال مخيم جنين إسرائيل أكبر خسارة في تاريخها العسكري مقارنة بمساحة المخيم وعدد رجال المقاومة. فمن أجل احتلال المخيم الذي تقل مساحته عن الكيلومتر المربع الواحد دفعت إسرائيل 23 قتيلا و143 جريحا، فضلا عن تدمير وإصابة أكثر من 30 دبابة ومجنزرة وناقلة جنود. وفي مقابل ذلك دفعت المقاومة 60 شهيدا، لتؤكد جنين بحق أنها عاصمة الشهداء والاستشهاديين.

بنان أبو الهيجا: رغم عمق الوجع لكن هناك شرفاء كثر بيننا..

في الذكرى الثانية عشرة للاجتياح دخلنا المخيم هذا الأسبوع لنتقصى بعض ملامح الصور من ذاكرة الاجتياح وحكايات االصمود.. ترجلنا وسرنا بين أزقة المخيم ودهاليزه وسط فضول وترقب المارة، والمترقبين على النوافذ بعيون فاحصة ومتشككة، لاسيما ونحن أمام منزل الأسير جمال أبو الهيجا أحد قيادات المقاومة، والمحكوم منذ اجتياح المخيم عام 2002 بأكثر من 9 مؤبدات، وهو والد الشهيد حمزة الذي لم تجف دماؤه بعد.

قرعنا الأبواب الحديدية الموصدة بإحكام بتحسبات أمنية، ولاحت الملصقات على الأبواب للشهيد حمزة الذي اغتيل قبل أقل من شهر، وملصقات أخرى لشهداء اغتيلوا مؤخرا بنفس المنزل لتسأل عن أهلها..

ثلاث فتيات بدا أنهن طالبات عادوا للتو من مدارسهم أو جامعاتهم فتحوا لنا الأبواب بنظرات فاحصة لا تخفي الريبة والتشكك. وعلمنا أنهن أصدقاء العائلة ودخلوا أثناء العودة من تعليمهم للاطمئنان على العائلة الثكلى.. وردا على سؤالنا طلبن منا الانتظار قليلا قبل استقبالنا.

مضت خمس دقائق قبل يعودوا إلينا ويأذنوا لنا بالدخول. صعدنا الدور الثاني من المنزل وسط هدوء المعابد وصمت القبور، وبدا لنا أن المكان هو أقرب إلى موقع استحكام منه إلى منزل للسكن. و يكسر الصمت المدوي صوت طفل عرفنا أنه ابن الأسير عبد السلام.

استقبلتنا المحامية بنان التي خاضت تجربة الاعتقال، وهي ابنة الأسير والمقاوم جمال أبو الهيجا بالترحاب والابتسامة العريضة، وكأن شهادة شقيقها باتت عرسا فلسطينيا مألوفا لدى أبناء المخيم ولدى العائلة.

سألناها عن الأشقاء وعن الوالدة، فروت لنا بعضا من فصول الحكاية النازفة بنبرة طفولية مفعمة بالهدوء والقناعة والإيمان. وقالت: إن والدتي وزوجة الأسير شقيقي عبد السلام ذهبتا لحضور جلسة محاكمته بالمحكمة العسكرية في سالم رغم أن والدتي تعاني مرضا خطيرا، وهي بانتظار إجراء عملية جراحية لاستئصال ورم سرطاني بالرأس، علما أنها كانت قد اعتقلت تسعة شهور اعتقالا إداريا.

سألناها عن أحوال العائلة، فقالت: "جميعهم بالسجون بعد أن استشهد حمزة الشهر الماضي، وبقي أخي عاصم المطارد من السلطة الفلسطينية. لكننا صامدون ومؤمنون".  وأشارت بنان الى أن إخوانها المعتقلين قد التقوا بوالدهم بعد 12 عاما في نفس السجن في "ايشل" في النقب.

وفي عودة إلى ذاكرة الاجتياح، قالت بنان: شارك إخوتي في زمن الاجتياح، رغم صغر سنهم، مع أبي في المقاومة، كما أن أبي طالبهم بأن يشاركوا كسائر أقرانهم من أبناء المخيم إلا أنه منع الشهيد حمزة لصغر سنه آنذاك من المشاركة، وفي حينه بكى حمزة لمنعه من الانضمام إلى المقاومين، بيد أنه أصر على أن يكبر مقاوما، ليصبح شهيدا في الثاني والعشرين آذار/ نيسان الفائت من هذا العام، حيث اغتيل من قبل جيش الاحتلال بعد أن كان مطاردا مدة سنتين من أجهزة السلطة الفلسطينية.

وفي مشهد مؤثر وصفت بنان زيارتها لوالدها في المستشفى بعد الاجتياح، بينما كانت ذراعه مبتورة بسبب رصاص الدمدم إضافة إلى إصابة أخرى في القلب.

وفي كلمة أخيرة قالت بنان: "إن الخيانة هي الوجع الأكبر، وأكرر أنه يجب أن يوجه رصاصة واحدة للعدو وتسع رصاصات للخائن.. لكن كان هناك ولا زال الشرفاء كثر بيننا".

وصفي كبها: المخيم يستعيد عافيته بعد سنوات عجاف

استعرض وصفي كبها وزير الأسرى السابق بدوره أهم الدروس والاستخلاصات من الاجتياح. وقال: "مخيم جنين كان ولازال صورة مشرقة من الوحدة الوطنية غير المسبوقة في تاريخ الثورة الفلسطينية وحتى ظهور الحركات الإسلامية، حيث استطاع الشباب وبعيدا عن القيادات أن يذيبوا الألوان الفصائلية، وأن يتوحدوا في خندق المقاومة والدفاع عن الهوية والكرامة والوجود الفلسطيني".

وأضاف: "هؤلاء الشباب استطاعوا أن يثبتوا للعالم أن الجيش الذي لا يقهر لأسطورته المزعومة يمكن أن يتمرغ بالتراب إذا وجد من يخلص العمل، وبالفعل على مدار أسبوعين استنفذ الاحتلال كل وسائل التكنولوجيا الحديثة لإسكات صوت المقاومة في مخيم جنين، وفشل في ذلك مما استدعي تدخل رأس الهرم العسكري والسياسي الإسرائيلي، وكان قرارهم بهدم مخيم جنين، وفعلا قام الاحتلال بتسوية حارة الحواشين وحارة الدمج بالأرض، وكانت رسالة المخيم أن هذا الجيش الذي هزم سبعة جيوش عربية تحطمت عنجهيته على أرض مخيم جنين، وهذا بحد ذاته رسالة لكل الفصائل الفلسطينية والدول العربية مفادها أنه إذا توفرت إرادة المقاومة يمكن انتزاع حقوق الشعب الفلسطيني. كما أثبتت الأحداث أن الاحتلال لن يمنحنا شيئا بل بالمقاومة. وأضيف أن ما اخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة".

وأضاف كبها أن مخيم جنين اليوم، وبعد سنوات عجاف، بدأ يستعيد عافيته ويجسد الوحدة الوطنية من جديد، ليؤكد على أنه قدوة ومنارة لكل الباحثين عن الوحدة الوطنية، لأن المقاومة توحد الشعب الفلسطيني بينما تفرقهم السياسة.

 وخلص كبها إلى القول إن الجيل الذي نشأ في عهد أوسلو أفشل الرهان، وهو يعتز بهويته وانتمائه، ونحن واثقون بأنه صاحب إرادة وسيكون صاحب قرار.

 زبيدي: ندفن موتانا وننهض.. إرادة وروح المخيم اليوم مشابهة للروح في زمن الاجتياح..

جمال الزبيدي شاهد على الجرح وعلى البطولة، وشاهد على الشهادة والأسطورة. ويقول: "ندفن موتانا وننهض..". ويضيف: "أتذكر الخوف لدى الناس حين كنا بالعراء، لكن كان هناك إصرار على المقاومة. قصف بيتي وحارات بأكملها بالصواريخ التي استهدفت خزانات المياه والبنى التحتية، شبكات الهواتف والمياه والكهرباء على مدار 12 يوما متتاليا، وترافق ذلك مع قصف مباشر بالطائرات والدبابات.

ويعود الزبيدي بذاكرته إلى مشهد مؤثر، فيقول: "استدعاني نشطاء لجلب جثة شهيد من الشارع. وعندما وصلنا للمكان وجدنا جثة متفحمة بالكامل تبقى منها بعض شعر الرأس فقط، وعلى الرأس طوق كتب عليه لا إله الا الله، لكن سرعان ما تبين أن الجثة تعود لابن أخي طه الزبيدي". ويتابع: "نقلنا الجثة من الشارع تحت القصف، ودفناها خلف بيتي مؤقتا حيث تعذر دفنها بالمقبرة. كما نقلنا خمس جثث أخرى، ودفناها أيضا في محيط البيت، وأرسلنا جثتين أخريين إلى أهاليهم".

ويضيف: "عندما هدأت الأوضاع، وقررنا دفن الجثث توجهنا إلى صاحب الأرض الذي تبرع بثلاث دونمات برفقة أشرف ابو الهيجا، وكان ذلك في السابع عشر من نيسان/ ابريل، حيث شيعت جثامين 52 شهيدا في مشهد مؤثر. كما أخرجنا جميع الجثث المرقمة وقمنا بدفنها بشكل منظم في قبور جماعية. وفي الوقت ذاته توجهنا لمستشفى جنين وانتشلنا الجثث التي كانت مدفونة بالرمل في محيط المستشفى".

وتابع الزبيدي: "أعتقد أن جيل اليوم في المخيم بروحه ونفسيته مشابه لما كانت عليه الروح المقاومة في زمن الاجتياح، بل أعتقد أن هذا الجيل ربما سيكون أشرس مقاومة من سابقه، علما أنه كان للجيل السابق خبرة نضالية أكثر، كما أن أداء السلطة الفلسطينية في عهد الرئيس ياسر عرفات كان أفضل، وكذلك كانت لديه كل الخيارات مفتوحة، وكان يتمتع بمصداقية وشعبية أكثر من خليفته الذي يؤمن أن بديل المفاوضات هي المفاوضات. واعتقد أن الشباب لديهم استعداد للتضحية مع كل الاختلال في ميزان القوى والإمكانيات المتواضعة، وهناك حالة وطنية عامة وجهوزية كفاحية، وذلك بسبب الغبن المزدوج من الاحتلال والسلطة، بالإضافة لضعف الأداء والأزمة الاقتصادية. وبالرغم من التطبيع الاقتصادي إلا أن المستفيدين هم الشريحة المقربة من السلطة وذلك على حساب العمل الوطني والنضال ضد الاحتلال.

أبو الهيجا: أخرجوني من ثلاجة المستشفى لأعود إلى الحياة مجددا..

المناضل محمد أبو الهيجا عينة إنسانية صارخة، مكافح قاوم في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في منطقة جنين، التقيناه بمنزله في البناء الجديد في مرتفعات المخيم الجنوبية، وهو يتمتع بمعنويات عالية، ولا يزال يلملم أشلاءه وأطرافه المعاقة بعد إصابة بالغة برصاصة قناص إسرائيلي أصابته في الفك واخترقت عنقه. يعيش مع زوجته التي بترت ساقها حديثا نتيجة إصابتها بمرض مع ابنتهم الوحيدة.

تحدث إلينا بلغة البطولة والاعتداد بالنفس والاعتزاز بالمخيم، لكن رغم الجسارة والقوة لم يكن بالإمكان أن لا نلاحظ عمق الجرح والدمع المحتبس في مقلتين يغالب الدمع فيهما الكبرياء والقناعة والبطولة..

استعرض ملامح محطة ربما لخصت الحالة الفلسطينية بحلوها ومرها، وقال: "عايشت الاجتياح داخل وخارج المخيم، وكنت ناشطا في الجبهة الشعبية ومطلوبا قبل الاجتياح للسلطات الصهيونية بتهمة مقاومة الاحتلال. واثناء الاجتياح لم أتمكن من دخول المخيم خاصة أنني كنت مطلوبا. وواصلت نشاطي من خارج المخيم، وبعد انسحاب جيش الاحتلال عدت ودخلت للمخيم فوجدت مشهدا مذهلا حيث سويت حارات بأكملها بالأرض، وكانت هناك جثث متناثرة في أزقة المخيم، والأهالي يبحثون عن أعزائهم تحت الركام وتحت التراب في مشهد مروع. ونظرا لأني كنت معتادا على التردد على أحد الأحياء في مدينة جنين، اعتليت أحد أسطح البيوت القديمة، وهناك أصبت بإصابة عرفت لاحقا من شاهد أنها طلقة قناص إسرائيلي أصبت بها بعد أن أصابت حنكي واخترقت عنقي. وعرفت لاحقا أن الرصاصة هي من رشاش دبابة، أي بحجم ثلاث أضعاف من الرصاصة العادية. وقام الشباب بنقلي الى مستشفى الرازي في جنين، وعلمت لاحقا منهم أنه أعلن عني شهيدا، وحفر لي القبر، بيد أن أصدقائي رفضوا خبر استشهادي، وأصروا أمام الأطباء على رؤيتي في ثلاجة المستشفى".

وأضاف أبو الهيجا: "عندما فتح أحد أصدقائي الثلاجة ومسك بقدمي صرخ بوجه الأطباء قائلا إنني ما زلت حيا ولم أمت. وعندها أخرجوني من الثلاجة".

ويتابع أبو الهيجا: "عرفت لاحقا أن أحد المسعفين قام بنقلي، في مغامرة على عاتقه عبر حاجز الجلمة الإسرائيلي، معتمدا على بطاقة هوية أخي التي كنت استخدمها لأنني كنت مطلوبا لأجهزة أمن الاحتلال. ونجح المسعف بعبور الحاجز، وتسليمي لمستشفى "هعيميك" في العفولة، حيث مكثت هناك في غيبوبة مدة 40 يوما، لم أع فيها على شيء. بعدها نقلت إلى مستشفى تل هشومير في الجنوب، وهناك مكثت ثمانية شهور عانيت فيها الأمرين من كوابيس الإصابة والإهانات التي تعرضت لها من مواطنين وجنود إسرائيليين لا تنسى حيث كانت تعقد جلسات لمحاكمتي داخل المستشفي بحضور القاضي والمدعي العام والمحامين، وكان يصدر في كل مرة حكم بالاعتقال الإداري لمدة ثلاثة أشهر، وذلك على مدار سنة عشتها مع سيل الإهانات اليومية، ثم نقلت إلى رام الله حيث استعدت القدرة على النطق جزئيا، واستطعت أن أقف وأمشي على قدمي".

واختتم حديثه بالقول إنه عاش لحظات مؤثرة جدا عندما بدأ باستعادة الذاكرة، فيقول: "تعرفت على أخواتي في لحظات وهن من حولي لا سيما بعد رحلة الألم الذي لايمكن وصفه وربما لا ينتهي، أو ربما لا ينتهي الا عند التحرير".

التعليقات