على الطريق من رأس بيت جالا، مرورًا بوادي المخرور المتّجه إلى شماليّ-غربيّ القدس المهجّر، تقع قرية الولجة الجديدة الحاليّة، (ولجة النزوح) وباب القرية على يمين المنحدر نزولًا إلى حيث ديار قرية المالحة المهجّرة. ويحاذي باب القرية مدخل مستوطنة "هار جيلو" الّتي بنيت على أراضي بيت جالا والولجة، بينما الانحدار المقابل لبابي القرية والمستوطنة يعتبر امتدادًا يربط ما بين وادي المخرور ووداي حلس الّذي يمرّ من تحت قرية بتير الباقية من شمالها، ومن شرق الولجة القديمة المهجّرة نحو وادي الولجة إلى الغرب – الشماليّ، وعبر عين الحنية الشهيرة، ليتّصل مع وادي الصرار غربًا.
في ذكرى أربعينيّة استشهاده، في نيسان/أبريل سنة 2017 أبّن الأستاذ المقدسيّ خالد عودة اللّه الشهيد باسل الأعرج ابن قرية الولجة مناديًا إيّاه فوق قبره ومذكّرًا: "باسل، يا عين الحنية لا تنام، ويا حنين الولجة إلى الولجة". وذلك، لأنّ الولجة الحاليّة غير تلك الّتي هجرت في النكبة عام 1948، فقد انكمشت الولجة الجديدة على نفسها سكنًا وسكّانًا واستبدلت مكانًا، من غربيّ وادي الحنّيّة إلى شرقه، وما بين الولجتين ظلّت عين الحنية بمثابة رابط حنين الولجيين الباقين في الولجة إلى ولجتهم المهجّرة الأولى. وفي تلك الأيّام الّتي كان يشيع فيها، ويؤبّن باسل الأعرج الشهيد مطلع صيف عام 2017، كانت لجان التخطيط والبناء في بلديّة الاحتلال في القدس، تقرّ مخطّطًا يقضي بنقل حاجز "عين يعيل" من موقعه في غربيّ القدس جنوبيّ قرية المالحة المهجّرة إلى عمق أراضي الولجة جنوبًا على مسافة تزيد عن كيلومترين بما يقتطع ابتلاعًا ومزيدًا من أراض الولجة، ويقطع مع عين ماء الحنية قطعًا لا رجعة فيه. أقرّ المخطّط في حينه، غير أنّ نقل المحسوم/الحاجز جار في هذه الأيّام.
الولجة قبل النكبة
إلى الجنوب – الغربيّ من مدينة القدس، وعلى بعد سبعة كيلومترات، كانت تقع قرية الولجة متوسّدة سفح جبل أطلق الولجيّون على قمّته اسم "التشارشا" تسمية شعبيّة لقمة الجبل مشتقّة من الكلمة الإنجليزيّة "church" أي الكنيسة، إذ كانت كنيسة تقوم في مرحلة تاريخيّة ما على تلك القمّة، درست وبقيت تسمية قمّة الجبل متّصلة بها. وإلى الشمال من الجبل الّذي تنحدر عليه القرية، يمتدّ جبل الربّ، الّذي تعلو قمّته التشارشا ما بين قرى الولجة وعين كارم والجورة المهجّرة شمالًا، وما يزال من تبقّى من الولجيّين يطلقون عليه تسمية "مسكري" تحريف عن "مس كيري" الراهبة البريطانيّة الّتي أقامت في الدير بعد أن أقامته على جبل الربّ في مرحلة الانتداب البريطانيّ على البلاد. لاحقًا سيغزو الصهاينة قرية الولجة نزولًا من ذلك الدير بحسب شهادة "أبو السعيد" الحاجّ محمود الأعرج ابن قرية الولجة الباقية، ووالد الشهيد باسل الأعرج.
كان لجبليّة الولجة، أثّر في تشكيل إيكولوجية القرية، من شعاب وخلايل، وحيل ووديان أحاطت بها من جهاتها الأربع، فنفر ماؤها على شكل عيون وينابيع فوّارة ورد ذكرها في كتاب "الولجة: تاريخ وحضارة"، على أنّ تعدادها تجاوز الأربع عشرة عينًا ونبعة ماء. ومن كثرة عيون ماء الولجة، كانت القرية تاريخيًّا مقصد ولوج الفاتحين أو الغزاة في طريقهم إلى القدس، للشرب والاستراحة عند القرية، وعند عين الحنية تحديدًا، ثمّ الولوج للقدس منها، ومن هنا كانت تسمية القرية بـ "الولجة". يعتقد الولجيون كلهم، المهجّرون منهم والنازحون على حدّ قول السيّد حسين خليفة في مقابلة معه عن قريته على موقع فلسطين في الذاكرة، بأنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد مرّ بقريتهم عند قدومه إلى القدس، واستراح عندها بعد أن شرب من عين الحنية.

اعتبرت الولجة من أكبر قرى غربيّ القدس المهجر، إذ وصل تعداد سكّانها قبيل النكبة إلى ما يزيد عن 1800 نسمة. لذا كانت الولجة كرسي "بني حسن" الّذي كان يضمّ غير الولجة قرى، المالحة، عين كارم، الجورة، سطّاف، خربة اللوز، شرفات، بتير، بيت جالا وبيت صفافا. فيما اعتبرت الولجة كرسيّ هذه القرى، لأنّ مقرّ المشيخة كان فيها تاريخيًّا، وقد انقسم سكّان القرية على أربع حمائل كبرى، هي: الأعرج، والحجاجلة، والوهادنة وعبد ربّه.
في أواخر أيلول من عام 1948، انسحب الجيش المصريّ من الولجة، الّذي كان قد وصل صيف ذلك العام إلى القرية قادمًا من الجنوب. وتركت الولجة بلا دفاعات، فريسة للمنظّمات الصهيونيّة إلى أن سقطت في أيديهم. ليهجر جميع سكّان القرية، الّذين هاموا على وجوههم بين لاجئين إلى شرقيّ النهر، ونازحين إلى بيت جالا وبيت لحم والقدس والمخيّمات الّتي أقيمت على أطرافها مثل مخيّم الدهيشة، وبعض الولجيين لاذوا بوادي حلس والمخرور شرقيّ القرية لسنوات. وذلك لأنّ خطّ الهدنة أو الخطّ الأخضر الّذي بات يفصل الأراضي المحتلّة عام 1948 عن غير المحتلّة في حينه، كان يمرّ من منتصف أراضي الولجة ومن شرقيّ بيوت القرية المهجّرة تحديدًا، بالتالي صارت الولجة القرية محتلّة، بينما بقيت أراضيها من عند عين الحنية ومنها شرقًا باتّجاه بيت جالا، عربيّة ألحقت بالحكم الأردنيّ أسوة بالقدس وأراضي الضفّة الغربيّة. ومع أنّ عين الحنية ظلّت تقع شرقيّ خطّ الهدنة (الخطّ الأخضر) كجزء من أراضي الضفّة الغربيّة غير المحتلّة وقتها، إلّا أنّ الصهاينة وضعوا أيديهم على العين ومحيطها الأثريّ، ومنعوا الولجيين الباقين في الوديان المحيطة بقريتهم من الوصول إليها.
عين الحنية وولجة النزوح
القلب من فرط الأسى يتـلوّع
وإليكـمو يهفـو الفـؤاد ويتلـوّع
عين الحنيـة والعيون شواخـص
نحـو الحبيب وليس فيها أدمـع...
كلمات من مطلع قصيدة "الحنين إلى الحنية"، نظمها ابن قرية الولجة عزيز أبو خيارة، يعرفها كلّ ولجي شرب من ماء الحنية، أو يتوق إلى العودة للشرب منها. رغم كثرة عيون ماء الولجة، إلّا أنّ للحنية حنينًا خاصًّا في وجدان الولجيّين جميعًا، فهي العين الّذي ظلّت تدمع ماؤها تحننًا على أهلها منذ قبل نكبتهم.
إلى شرقيّ الولجة المهجّرة، على حافّة الطريق المؤدّية إلى القدس تقع عين الحنية التي يدفّق ماؤها إلى يومنا هذا، كانت الحنية محطّة استراحة القوافل المتّجهة لتصريف محاصيلها وبضائعها من غربيّ القدس إلى المدينة. وعين الحنية عبارة عن نفق كبير وعميق محفور في الصخر، تدفّق المياه منه بغزارة، وتسير عبر قناة صخريّة وصولًا إلى بركة صخريّة لتجميع المياه تقارب مساحتها المائة متر مربّع، وبعمق حوالي ثلاثة أمتار، وفي أحد أركان البركة درج صخريّ يصل إلى قاع البركة.
ومن الملفت، وجود محراب داخل النفق الّذي ينبع منه ماء العين، إضافة إلى مكان مخصّص للعبادة، ممّا يدلّ على أثريّة عين الحنية الّتي كانت مأهولة بالسكّان من غابر الأزمان. كما كانت مغارة أسفل النفق، هدمت كما ورد في كتاب "الولجة: تاريخ وحضارة" في عشرينيّات القرن الماضي، في ظلّ الانتداب البريطانيّ على البلاد، بحجّة أنّ المغارة كانت تعيق عمليّة فتح شارع يؤدّي إلى قرية بتير غربيّ الولجة، وهو الشارع نفسه الّذي صار يربط لاحقًا غربيّ القدس من عند قرية المالحة المهجّرة، بالولجة الجديدة ومستوطنة "هار جيلو" ومدينة ببيت جالا. وبحسب الحاجّ محمود الأعرج أبو السعيد، فإنّ الأرض الّتي تقع فيها الحنية، كانت وقفًا لدير قديم أحاط بالعين، هدم وما تزال آثاره شاخصة فوق العين إلى يوم تدفّق مائها هذا. كما توجد في محيط العين آثار لبيوت مهدّمة، كانت تعود لآل الصيفيّ من سكّان الولجة المهجّرة.

كان آخر وداع الولجيّين لولجتهم، في عين الحنية، حيث مرّ أهلها بها عندما هبطوا من بيوتهم غربًا مقتلعين منها شرقًا، نحو عين الماء، شربوا منها ومشوا على أمل عودتهم، وكانت آخر شربة ماء شربها معظمهم منها. بعد سنوات، منذ منتصف عقد الخمسينيّات ومطلع الستّينيّات، تمكّن عشرات الولجيين الّذين نزحوا إلى الأراضي والوديان المجاورة، من العودة إلى أراضيهم شرقيّ قريتهم المهجّرة وخطّ الهدنة، وأقاموا نواة الولجة الحاليّة "ولجة النزوح"، بينما بقي معظم أهالي القرية لاجئين، في مخيّمات اللجوء في الضفّة الغربيّة والأردنّ.
لم تعن عودة بعض أهالي الولجة، وإقامتهم في ولجة النزوح (الجديدة) العودة إلى عين الحنية، رغم أنّها كانت ضمن أراضي شرقيّ خطّ الهدنة غير المحتلّة كما ذكرنا سابقًا. فقد وضع الصهاينة أيديهم على العين ومحيطها، وأحاطوها بشريط منع الولجيّين الباقين من الوصول إليها، وظلّوا يشربون في ولجتهم الجديدة من عيون ماء أخرى، منها "عين الجويزة و"عين الهدفة" أو تسلّلًا إلى عين الحنية ليلًا بعيدًا عن أعين الصهاينة. واستمرّت قطيعة الولجيّين القسريّة، مع الحنية من عام 1948 إلى غاية عام 1967 مع الاحتلال الإسرائيليّ لأراضي الضفّة الغربيّة، حيث تمكّن أهالي الولجة من استعادة روابطهم مع عين الحنية والشرب وإسقاء قطعانهم منها مجدّدًا.
بحسب شهادات بعض الولجيّين، فإنّ سلطات الحكم الأردنيّ في القدس والضفّة الغربيّة ما بين (1948-1967) هي من منحت الحنية العين والموقع، لسلطات الاحتلال الإسرائيليّ سنة 1949، رغم وقوع الحنية شرقيّ خطّ الهدنة. وذلك لاعتبارات أمنيّة تذرّعت بها إسرائيل، متّصلة بخطّ سكّة حديد القطار الّذي كان وما يزال يمرّ على بعد عشرات الأمتار، من شمال – غرب الحنية داخل الخطّ الأخضر.
الحاجز: ما بين عين يالو والحنية
ظلّت علاقة سكّان ولجة النزوح مع عين الحنية قائمة منذ احتلال القدس والضفّة الغربيّة عام 1967 وما تزال، غير أنّ القطع معها بدأ تدريجيًّا منذ عقدين على أثر الانتفاضة الثانية وبناء الجدار الفاصل الّذي كان يفترض به – افتراض بمعايير الاحتلال طبعًا - أن يتّخذ بناؤه حدود خطّ الهدنة الفاصل ما بين الأراضي المحتلّة عام 48 والأراض المحتلّة عام 67، أي غربيّ عين الحنية وبعيدًا عمّا تبقّى من أراضي ولجّة النزوح الحاليّة.
غير أنّ سلطات الاحتلال ضمن سياسة ابتلاعها الأرض واستيطانها المستمرّ في القدس والضفّة الغربيّة، أقامت مستوطنة "هار جيلو" على أراض تعود ملكيّتها لبيت جالا وجزء من الولجة، وبعض هذه الأراضي سرّبت لسلطات الاحتلال من بعض سماسرة الأرض من أهالي بيت جالا. ثمّ كان الجدار الفاصل الّذي جاء منذ نيسان/أبريل عام 2010، على بعض أراضي الولجة الحاليّة من شرقها المتاخمة لدير كريمزان، وبالتالي عزل الجدار وقطع الطريق الّتي كانت توصل الدير مع المدخل الشرقيّ للولجة. ثمّ أقامت سلطات الاحتلال حاجزًا عسكريًّا بدأ سنة 2010 على شكل كرفان متنقّل، ثمّ تحوّل إلى حاجز ثابت رسميًّا يعرف بالعبريّة بـ "معبر عين يعيل" على موقع عين يالو المالحيّة، في منتصف الطريق الّذي يربط ما بين الغرب الجنوبيّ للقدس عند سكّة حديد قطار قرية المالحة المهجّرة، مع الشارع المؤدّي جنوبًا نحو بتير، مرورًا بالولجة ومستوطنة "هار جيلو" وصولًا إلى مدينة بيت جالا.
اتّخذ جدار الفصل في السنوات الأخيرة، وجهته الغربيّة من الولجة الحاليّة، ليقطع ما بين القرية من غربها عبر أراضي خربة السمك مع عين الحنية. بالتالي بقيت الطريق الوحيدة الممكنة الّتي تربط أهالي الولجة بعين الحنية هي عبر الشارع المؤدّي من مدخل الولجة الجنوبيّ نزولًا باتّجاه الغرب الشماليّ الّذي يمرّ بعين الحنية إلى حاجز عين يالو (عين يعيل) وهو شارع شقّ ليربط مستوطنة "هار جيلو" بغربيّ القدس، وفي الوقت نفسه ظلّ يتيح لأهالي الولجة والمنطقة إمكانيّة الوصول إلى عين الحنية.
القطع النهائيّ: نقل الحاجز
في الأسابيع الأخيرة، استكمل جيش الاحتلال بناء الحاجز الجديد البديل، والّذي أقيم على بعد كيلو متر ونصف إلى الغرب الجنوبيّ من حاجز عين يالو/"عين يعيل" الحاليّ، وعلى بعد نصف كيلومتر جنوبًا من عين الحنية على نفس الطريق المؤدّي من الجنوب – الغربيّ لمدينة القدس إلى قرية الولجة وبيت جالا ومستوطنة "هار جيلو".
أقرّت لجنة التخطيط والبناء في بلديّة احتلال القدس، بالتعاون مع سلطة الآثار وسلطة الطبيعة والحدائق العامّة نقل الحاجز ودفعه إلى جنوب عين الحنية في منتصف تشرين أوّل/أكتوبر سنة 2017، في سياق استكمال بناء جدار الفصل الّذي ابتلع جزءاً من أراضي قرية الولجة الحاليّة بحسب مقالة نشرها الكاتب الإسرائيليّ "نير حسّون" في صحيفة هآرتس يوم الخامس عشر من تشرين ثاني/نوفمبر 2017.
رغم الالتماس القضائيّ الّذي قدّمه أهالي الولجة اعتراضًا على مصادرة أراضيهم في مطلع العام التالي، بما فيه قرار نقل الحاجز الّذي ترتّب عليه مصادرة ما لا يقلّ عن 1200 دونم من أراضي القرية الممتدّة على مسافة كيلومتر ونصف، ما بين حاجز عين يالو/"عين يعيل" وموقع نقله الجديد. إلّا أنّ سلطات الاحتلال قد أقرّت بصورة نهائيّة نقل الحاجز، ويفرض تدشينه في الأسابيع القريبة المقبلة.
لم يكن قرار نقل الحاجز من موقعه، بغرض مصادرة ما تبقّى من أراضي الولجة الحاليّة "ولجة النزوح" فقط، فهذا جار منذ ما قبل قرار نقل الحاجز. ولا نزولًا عند رغبة مستوطني "هار جيلو" وادّعائهم بحسب ما جاء في تقرير نشر على موقع "ماي نت يروشليم" العبريّ في أب/أغسطس عام 2018، بأنّ الحاجز في موقعه الحاليّ عند عين يالو/"عين يعيل" يعزّز من أزمة المركبات عليه، ممّا يشكّل تهديدًا أمنيًّا لهم، لأنّ الحاجز في موقعه المنخفض محاط من غربه وجنوبه وشرقه كذلك بمنطقة جبليّة متّصلة بقرية الولجة.
إنّما الغرض في الأساس، هو القطع مع عين الحنية الّتي يضع الاحتلال يده عليها منذ عقود، مرّة واحدة وبلا رجعة. فلا تزال عين الحنية، نقطة تماس ما بين سكّان الولجة والقرى المدن العربيّة المحيطة بالولجة وبين المستوطنين اليهود الّذي يقصدون العين للاستجمام والتنزّه عندها في عطل نهاية الأسبوع عادة. وبالتّالي، يرمي نقل حاجز عين يالو/"عين يعيل" إلى موقعه الجديد، إلى قطع آخر رابط ظلّ يربط الولجيّين بعين مائهم التاريخيّة عبر الشارع المؤدّي إليها، بما لا يتيح الوصول إليها، إلّا للمستوطنين اليهود فقط.
التعليقات