الريس سوسن: قصة امرأة مصرية تزاحم الرجال على الرزق في النيل

قال الشاعر الفلسطيني الكبير، محمود درويش، في قصيدته "الجميلات هنّ القويات... يأس يضيء ولا يحترق"، وهو ربما ما يصور حال سيدة مصرية، قهرت الفقر، واصطادت الحياة بشباك الإرادة من جوف النيل.

الريس سوسن: قصة امرأة مصرية تزاحم الرجال على الرزق في النيل

قال الشاعر الفلسطيني الكبير، محمود درويش، في قصيدته 'الجميلات هنّ القويات... يأس يضيء ولا يحترق'، وهو ربما ما يصور حال سيدة مصرية، قهرت الفقر، واصطادت الحياة بشباك الإرادة من جوف النيل.

الريس، هو لقب يمنح للصيادين في مصر، لكن هنا الحالة مختلفة، فالريس سوسن عبد الحميد عطية (49 ربيعاً)، لم تكن تدري حين وصلت سن العاشرة، وهي تحتضن بين أصابعها شباك صيد، ترميها في النيل فتسحبها مليئة برزق حلال، أن تلك اللحظات هي بداية مشوار طويل في الحياة على مركب خشبي يطفو بها فتغدو خماصا وتروح بطانا'.

جنوبي مصر، وتحديداً بطعمة، إحدى قرى مركز البدارى في أسيوط، عاشت سوسن، في كنف أبيها الذي تركها وهو مكبل بقيود السجن إثر خصومات أهلية يُعرف بها أهل الصعيد (جنوب)، وفي رقبتها 6 شقيقات وشقيق في نعومة أظافره، لم تكن أكبرهم سناً لكن ظروف الحياة أجبرتها على أن تكون العائل الوحيد للأسرة.

صيد يعلم الصبر والمواجهة

ورغم الموروثات القاسية، التي كانت تمنع المرأة، أن يرى طرفها الرجال في صعيد مصر المعروف بمحافظته الشديدة، خرجت سوسن للعمل ولم يكن لديها سبيل للرزق سوى جوف النيل.

تقول لمراسل الأناضول 'أنا كالجبل لا أكل ولا أمل مهما تحاملت على الصعاب، أظل صامدة، فلا يوجد من يقوى على الهم بعائلتي سواي'.

ظروف الحياة الموحشة فرضت عليها حمل الشباك وركوب المياه وسط الرجال، فوجدت نفسها وسط نهر النيل الواسع.

قبل ما يقرب من 37 عاماً كانت تأتي هنا في صحبة والدها تظنه يحميها إذا غدر بها النهر أو طمع في أنوثتها أحد الصيادين، ويحميها من لوم أسرتها عندما يعودا معاً دون رزق، أما اليوم فهي تواجه ذلك بمفردها.

في خيوط الشباك كان الكنز الحقيقي الذي باتت تنتظره بشغف بتلك الكميات الوفيرة التي يرسلها لها الله يومياً، كما تُصَّبر نفسها في اللحظات التي يبخل عليها النيل وتتوقع يوماً ما سيغنيها الله عن هذه اللحظات الصعبة.

لم يعلمها البحر الصبر فقط، وإنما المواجهة كذلك، وتقول 'في البداية اعترض أقاربي على امتهاني الصيد، لكن لم يكن هناك بديل للعيش والانفاق على الأسرة فاستسلموا لرغبتي، ووالدي شجعني أنا وشقيقتي'.

كان مركبها الشراعي الصغير يشق مياه النيل كل صباح، يحملها وشقيقتها سهام.. قويتان لا تهابان الرجال ولا المياه.

'بسبب شدتي وحزمي في المعاملة... الناس تعاملت معي على أني رجل... لم يتفوهوا أبدا بكلمة سيئة في حقي... كانت حياتي قصة فخر في أحاديث القرى المجاورة'، هكذا تضيف سوسن، وفي عينيها تسطع الإرادة وتلمع العزيمة.

وتتابع 'منذ كنت طفلة تحملت مسؤولية أشقائي، ولما كبرت وتزوجت تحملت مسؤولية زوجي المريض حاليا وأولادي الـ 10'.

قصة زوجها كانت درامية أيضاً، جاءت بعد إصرار على ارتباط بمن ترفضه الأسرة وتحبه هي.

وبعزيمة الرجال في الشدائد ساندت رفيق الحياة، وبعد أسبوعين من الزواج طلبت منه أن يشتري شباكا ويستأجر مركبا.. كانت تمد له يد العون وقتما يلقى الشباك أو يجمعها، تساعده على قدر أنوثتها، وتمنحه أيضاً بعضاً من دفء الحياة.

تقول سوسن 'كنت أنا وزوجي نعمل يداً بيد من أجل تربية 6 أولاد و4 بنات وهبهم الله لنا، لكن شاء القدر أن أكون العائل ثانية وأحمل الشباك بمفردي وأحل محل زوجي الذي يعاني من حصوات في الكلى منذ 11 عاما'.

رحلة المعاناة

وحول تفاصيل رحلة الصيد اليومية، توضح وفي عينيها إرادة لا يمتلكها رجال، 'أستيقظ أثناء قرآن الفجر وأوقظ ابني مدحت التلميذ في الصف الخامس الابتدائي ونذهب لمركبنا المستأجر في النيل، أقف على حافتها أرمي الشباك ويجدف مدحت، نعود للمنزل ظهرا في موعد الغداء ونعيد الكَرَّة مرة تانية بعدها حتى مغيب الشمس'.

وتستطرد 'يمكن خلال اليوم أن نصطاد 3 أو 4 كيلوجرامات نبيعها، لننفق من ثمنها على متطلبات المنزل في اليوم التالي.. أحاول أن أوفر بعضا من هذا المال البسيط لعلاج زوجي المريض، وأحيانا أعمل ليلا وأبيت في النيل حتى الصباح'.

وموضحة تكاليف عملها، تشير إلى أن 'إيجار مركب الصيد يتراوح ما بين 10 و15 جنيها (أقل من دولار) في اليوم الواحد، وأحيانا يصل 30 جنيها (أقل من دولارين)، وقد يرفض صاحبها تأجيرنا إياها في موسم الصيد'.

لا يصب الرزق في الشباك كل يوم، كما توضح سوسن، مضيفة 'أعمل أياما طوال النهار دون أن نصطاد سمكة واحدة، والرزق حسب اليوم، في الصيف أحيانا كنت أرجع البيت دون صيد نهائيا، واُخرى كنت أبيع بـ 10 جنيهات أو 5 وأحيانا 20 واُخرى 100 جنيه حسب الرزق'.

ومع ذلك تؤكد الريس سوسن، أنها لن تترك الصيد حتى وإن بخل عليها النيل.

التعليقات