عنصريّة الطبّ... ما بين مرغليت اليهوديّ وأحمد العربيّ

لا يُحاسب أحمد محاجنه اليوم على أدائه مع مريضه كطبيب فقط، إنما يُحاسَب كذلك على خلفيته السياسية والعائلية، فهو شقيق المحامي خالد محاجنة، المترافع في كثير من قضايا الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، ومنها قضية فرار أسرى نفق الحرية من سجن الجلبوع

عنصريّة الطبّ... ما بين مرغليت اليهوديّ وأحمد العربيّ

عنصر من منظمة "الهاغاناه" يحرس طريقا بينما تسير قافلة طبية (Getty Images)

بكوب من القهوة

في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، وصل إلى مشفى "هداسا" في شارع بلفور في تل أبيب، مجموعة من المُصابين اليهود التابعين لمنظمة - عصابة "إيتسل" الصهيونية، على إثر إحدى الهجمات التي كان يشنها أعضاء المنظمة على القوات والمواقع البريطانية في المدينة. وفيما أُدخل الجرحى اليهود إلى غرفة العمليات، كان قد وصل شرطيان بريطانيان لمرافقة المصابين واعتقالهم بعد تلقيهم العلاج.

كان خبير التخدير والمشرف على غرفة العمليات في المشفى في حينه، طبيب يهودي اسمه دافيد مرغليت، وقد تنبّه إلى وقوف الشرطيين البريطانيين على باب المشفى، فقدّم لهما كوبين من القهوة إلى أن ينتهي العلاج. بعد أقل من ساعتين غادر أعضاء منظمة "إيتسل" المُعالجين المشفى، بينما كان الشرطيان البريطانيان نائمين عند بابه. كان مرغليت الطبيب، قد وضع المخدر في قهوة الشرطيين البريطانيين، ليتمكن المصابون اليهود من الفرار بجلدهم(1).

ما تزال قصة الطبيب مرغليت مبعث "اعتزاز" في ذاكرة مشفى "هداسا" والطب الصهيوني عموما، وذلك بوصفه طبيبا منحازا لأبناء جلدته المقاتلين قبل المُصابين، إذ استوجَب منه مساعدتهم على الفرار وليس علاجهم فحسب.

الطاقم الطبي والإداري للوحدة الطبية الصهيونية الأميركية في نيويورك في صورة التُقطت نحو العام 1918، وكانت المجموعة نشطة في فلسطين حينها

وهو طبيب بالنسبة للصهاينة وجب "تكريمه"، ليس لأنه لم يتخلَّ عن شرطه الإنساني كطبيب في تقديم العلاج لمرضاه، إنما بوصفة يهوديا لم يتخلَّ عن شرطه الصهيوني في مساعدة مرضاه المطلوبين على الفرار، وذلك لحدّ لم يمنعه من وضع المخدر في قهوة الشرطة المتعقبة، وحتى السمّ لو تطلب الأمر.

نستحضر هذه القصة من ذاكرة الطب الصهيوني ودور الأطباء الصهاينة في البلاد، بينما الطبيب العربي أحمد محاجنة ابن مدينة أم الفحم في مشفى "هداسا" - عين كارم في القدس، يقف اليوم تحت طائل فصله التعسّفيّ من قِبل إدارة المشفى، لمجرّد أنه قدّم لأحد مرضاه العرب قطعة من الحلوى.

كعكة "رولدين"

بحسب تقرير إدارة مشفى "هداسا" - عين كارم في القدس، فإن محاجنة قد قام بالتقاط صورة "سيلفي" من هاتفه مع من تعتبرهُ إدارة المشفى "مخرِّبا"، وهو محمد أبو قطيش ابن الـ16 عاما، والذي يخضع للعلاج بعد اعتقاله للاشتباه بتنفيذه عملية طعن في القدس. كما تتهم إدارة المشفى الطبيب أحمد محاجنة بتقديم قطعة من الحلوى من صنع "رولدين" لأبو قطيش، دون أن تتردد إدارة المشفى أن تذكر في تقريرها للتذكير على أن رولدين واحدة من أشهر وأغلى شبكات الأفران التي تصنع الحلوى والكعك في إسرائيل. وبحسب التقرير، يجب سحب رخصة مزاولة مهنة الطب من الطبيب محاجنة، وبالتالي فصله.

الطبيب محاجنة

عموما، لم يلتقط الطبيب محاجنة صورة من هاتفه ولا من غير هاتفه مع مريضه محمد أبو قطيش، فهي كذبة تراجَع عنها الإعلام الإسرائيلي وإدارة المشفى لاحقا. كما لم يجلب كعكة -نذكّركم بأنها صُنع رولدين- خصيصا لأبو قطيش كما ادعت إدارة المشفى، إنما وُجدت الحلوى بمناسبة احتفال بعض الأطباء بنجاحهم في أحد امتحانات التخصص، فقُدمت الحلوى للأطباء والمرضى معا، ومع ذلك، ما يزال الطبيب أحمد محاجنة مبُعدا عن المشفى وعن مزاولة مهنته.

طبّ استيطانيّ

ما بين الإشادة بالطبيب اليهودي دافيد مرغليت في أربعينيات القرن الماضي، وفصل الطبيب أحمد العربي، تاريخ طويل من سياسة التمييز الصحي والعزل الطبي في إسرائيل، فهو طبّ استيطانيّ في نشأته إلى أن تمثلت العنصرية في بُنيته، وذلك منذ أن أدّى الأطباء الصهاينة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أدوارا مختلفة، مُبشّرين وخبراء ومُخبرين، ومستشارين عسكريين ودبلوماسيين، وبعضهم كان مُخططا لشؤون الاستيطان والإحلال، ومنهم من كان عنصريًّا بقدر لا بأس به. أساسا؛ السياسة الإسرائيلية بشكلها الصهيوني - الكولونيالي عموما، هي "ليست إلا طبّها على نطاق واسع".

عناصر الـ"هاغاناه"، يستعرضون ما أصبح لاحقا، العلم الإسرائيلي في الأول من نيسان/ أبريل 1948، في شوارع القدس (Getty Images)

بعد قيام الدولة العبرية على أنقاض الشعب الفلسطيني سنة 1948، كان الطب الإسرائيلي بوصفه منظومة، يُعدّ أحد أهم أذرع الدولة في هندسة مجتمع المهاجرين اليهود بغرض صهينتهم ومُجانستهم، وبخاصّة تجاه المستوطنين اليهود الشرقيين المُستقدَمين من الدول العربية في حينه، فبينما أُخضع الفلسطينيون العرب الباقون في البلاد للتهميش والرقابة الأمنية معا، كان اليهود الشرقيون العرب يرزحون تحت أكبر عملية "تدوير" وإعادة إنتاج، وذلك عبر الطب بالدرجة الأولى.

كانت أبشع ما تورّطت فيه المشافي الإسرائيلية ومعها قسم كبير من الأطباء والممرضين الصهاينة، هي قضية اختفاء أطفال يهود اليمن، ما بين عامي 1948 - 1954، حيث أجمعت الروايات والتقارير على أنه كان اختطافا لأكثر من 1500 طفل انتُزعوا من أحضان أمهاتهم اليمنيات، بذريعة العلاج والرعاية الصحية، وبتدبير طبي أشرف عليه أطباء بالدرجة الأولى، بالتنسيق مع قيادات وسياسيين صهاينة لغاية ما تزال لغزا بشعا في سجل الطب الإسرائيلي(2). وحكاية الطب الصهيوني مع سياسات الفصل والعزل والقتل على مدار عقود، تطول.

الاعتذار

لا توجد من الأُمهات اليمنيات من هي على قيد الحياة، كي تُقدّم لها الدولة العبرية وجهازها الطبي الاعتذار، ولا سيّما بعد أن اعترفت الدولة مؤخرا بقضية أطفالهن. أما عن دافيد مرغليت ذلك الطبيب اليهودي المُخدّر في موقفه قبل تخصصه، فقد ظلَّ يتوسّم الأوسمه والجوائز إلى ما بعد قيام الدولة، حتى ستينيات القرن الماضي.

بينما الطبيب أحمد محاجنة، فإن عودته لمزاولة مهنته في مشفى "هداسا" مشروطة عليه باعتذار منه، لا بل اعتذارين؛ الأول، للشرطة التي يدّعي تقرير إدارة المشفى أن الطبيب محاجنة أساء إليها أثناء استجوابها له عن معاملته للمريض أبو قطيش في المشفى. أما الاعتذار الثاني، فعلى محاجنة تقديمه للمشفى وإدارته، وعليه أن يقدّم فيه رفضه المُعلن للـ"إرهاب"، وفِعل ما تطلق عليهم إسرائيل "التخريب"(3)، وهذا ما يرفضه الطبيب أحمد محاجنة حتى هذه اللحظة.

من عليه الاعتذار، هو إدارة مشفى "هداسا" - عين كارم لطبيبها، وليس العكس، غير أن الإدارة لا ترى ذلك. كما لا ترى إدارة المشفى بالفتى المُصاب محمد أبو قطيش مريضا، إنما "مخرّبا"، وعلى طاقم العاملين في المشفى تبنّي هذا الموقف، على مسطرة الأمن ولغة شرطته، لا موقف الطب وشرطهِ.

رفع علم إسرائيل في قاعدة تدريب لقوات عسكرية، قبل أقل من 3 أسابيع من إعلان استقلال إسرائيل (Getty Images)

لا يُحاسب أحمد محاجنه اليوم على أدائه مع مريضه كطبيب فقط، إنما يُحاسَب كذلك على خلفيته السياسية والعائلية، فهو شقيق المحامي خالد محاجنة، المترافع في كثير من قضايا الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، ومنها قضية فرار أسرى نفق الحرية من سجن الجلبوع. كما أن والدهما رسلان محاجنة، محامٍ معروف أيضا في دفاعه عن الأسرى والمعتقلين. وبالتالي، ليس الطب في إسرائيل بمعزل عن سياستها وأمنها. وأي محاولة تستوجب تحييده وتعريفه بمعزل عنهما، هي كما لو أن يُطلب من السمك تعريف ما هو الماء.


الهوامش:

1. عن قصة الطبيب دافيد مرغليت، راجع : تاريخ تطور الجهاز الصحي في المدينة العبرية الأولى، مقالة بحثية منشورة بالعبرية في موقع "تل أبيب شيلي My Tel Aviv"، دون تاريخ نشر.

2. عن تلك القضية، راجع : محاضرة حول "خطف أطفال اليمن"، مركز تراث مناحيم بيغين، مدونة ومنشورة في العبرية، تاريخ 8/1/2018.

3. مقابلة أجراها الكاتب مع المحامي خالد محاجنة شقيق الطبيب أحمد محاجنة، في تاريخ 14/12/2022.

التعليقات