هل تصل عاصمة الجليل إلى خارطة العالم؟ خمس ملاحظات على الانتخابات لبلدية الناصرة

حان الوقت لقيادة جديدة تعمل انطلاقًا من منطلقات فكرية أوسع وأكثر حداثة وأكثر ملامسة لواقع الناصرة ومكانتها ووعيًا للواقع الكولونيالي الإسرائيلي وواقع القضية الفلسطينية بجميع مركباتها، ومن منطلقات أكثر انفتاحاً على العالم وعلى القيم الديموقراطية وأكثر مقدرة على رفع مكانة الناصرة ووضعها بثقة على خارطة العالم

هل تصل عاصمة الجليل إلى خارطة العالم؟ خمس ملاحظات على الانتخابات لبلدية الناصرة

تستقطب الانتخابات البلدية في الناصرة، بطبيعة الحال، اهتمام الفلسطينيين في إسرائيل أكثر من أي انتخابات محلية أخرى نظرًا للمكانة التي تمتاز بها هذه المدينة على أصعدة مختلفة. تلتقي في هذه الانتخابات عدة مسائل تستدعي الاهتمام، منها: أهمية الناصرة كعاصمة معنوية للفلسطينيين في إسرائيل؛ استحقاق الناصرة لأن تحتل مكانها على خارطة العالم؛ انعكاس الثقافة السياسية المعطوبة في الحملات الانتخابية عادة، وفي الحملة الانتخابية الراهنة؛ كون الناصرة موقع الانقلاب الوطني الأهم في تاريخ السلطات المحلية العربية ضد قوى السلطة؛ وبروز امرأة ذات مكانة قيادية مرموقة تنافس على تبوّؤ رئاسة بلدية الناصرة. فيما يلي أطرح بعض الملاحظات المقتضبة عن كل واحدة من هذه المسائل وعلاقتها بانتخابات الناصرة وأثرها الأشمل على الفلسطينيين.

1. الناصرة كعاصمة الفلسطينيين في إسرائيل:

تعتبر الناصرة عاصمة الفلسطينيين الذين بقوا في الجزء من فلسطين الذي اُقيمت عليه قسراً الدولة اليهودية.  ومن البلدات التي تفادت التهجير، هي البلدة الوحيدة (عدا شفاعمرو) التي تمتعت سلطتها المحليّة بمكانة مدينة تحت الانتداب البريطاني. إطلاق صفة الـ "عاصمة" على الناصرة، كما ورد أعلاه، لا يتعدّى كونه مجازًا فيه شيء من المرارة. وعلى الرغم من وجود بعض المؤسسات، فليس  هنالك في الناصرة – القرية العربية الكبيرة - ما يذكِّر بالعواصم، لا مؤسسات سياسية أو ثقافية أو اقتصادية تليق بعاصمة، ولا معالم تميّز العواصم مثل مبانيها وميادينها ونصبها ومتاحفها، ولا حتى اهتمام ذاتي خاص يميز سعي العاصمة لأن تحافظ على أهميتها الرمزية في عيون الشعب الذي يرى فيها عاصمته. بل على العكس، فقد تعرضّت الناصرة، على غرار أخواتها من البلدات العربية، لنفس النهج الكولونيالي المتمثّل في سرقة الأراضي والخنق الحيزّي وإعاقة التنمية وطمس الهوية وإنكار التاريخ. لا بل تعرضّت الناصرة إلى أكثر من ذلك فقد كان الهدف الإضافي للسياسة الكولونيالية تجاهها هو القضاء على مقوّمات تطوُّرها المدنية حتى لا تحلم بأن تكون عاصمة ويُسدل الستار على آفاق وجود مدينة فلسطينية حقيقية كانت الناصرة مرشحة طبيعية لها. ولكي لا يخطئ أحد، سرقت إسرائيل اسم الناصرة وأطلقته على مستوطنة صارت مدينة، أقامتها الدولة على أراضي الناصرة وقرى الجوار، وأسمتها "نتسيريت عيليت" أي "الناصرة العليا" وذلك من أجل استبدال الناصرة العربية في الوعي الكولونيالي بناصرة يهودية.

لم تنجح قيادات المدينة المتعاقبة، وبضمنها القيادة الحالية، في إنتاج مقوّمات المدينة وفي بناء علاقات العاصمة- حتى لو كانت المعنويّة منها- مع باقي الأجزاء. ولكي لا نحمّل الإدارة الحالية أكثر من مسؤوليتها، يجدر التشديد على أنها تعاملت مع حكومات ترى في الناصرة وسكانها والمواطنين الفلسطينيين برمّتهم أعداء حقيقيين في بعض المجالات، لا سيّما ملكية الأرض والديموغرافيا وتعامل الشرطة- وأعداء محتملين في مجالات أخرى مثل تنمية القوة السياسية والاقتصادية. ولا يقتصر هذا التعامل على السياسات والممارسات الصهيونية بل يميّز سياسات الدول الكولونيالية الاستيطانية تجاه السكان الأصليين. وعليه، فإن الجميع يعون الظروف السياسيّة التي عملت في ظلها الإدارات الوطنية للبلدية منذ إدارة توفيق زيّاد. ولكن ما يؤخذ على الإدارة الحالية هو أنها، وبتأثير المشارب الفكريّة السياسيّة التي تنهل منها، رفضت رؤية الواقع الكولونيالي كما هو، وتمسكت بالقوالب الفكرية القديمة التي ساهمت في غلق الآفاق أمام عمل بلدي خلاّق يتحدى السياسات الكولونيالية، وفوّتت فرص البحث عن مصادر قوة بديلة تتمتع بها الناصرة والمجتمع العربي كله. كذلك، لم تنجح الإدارة الحالية في صياغة مشروع يجابه أجواء الانقسامات الطائفية والعصبيات الحزبية شبه القبلية فلم تساهم بما فيه الكفاية في تحقيق الذات للناصرة كعاصمة للفلسطينيين في إسرائيل.

2. الناصرة على خارطة العالم:

ربما لا تحظى الناصرة بمكانة تضاهي مكانة يافا في الوعي الفلسطيني، لكنها حتمًا مدينة ذات مكانة مرموقة في الوعي التاريخي والديني العالمي، لا سيّما الغربي منه. فمن منظور عالمي، هي إحدى أشهر مدن فلسطين. يدل هذا على وجود فجوة عميقة بين الأهمية التاريخية والإرث الحضاري الانساني، والمكانة الدينية، والمرتبة العالمية الممكنة للناصرة وبين واقعها الحقيقي، مع العلم بأن لديها من المقومات ما يكفي لكي تحقّق مكانتها العالمية المستحّقة. ولو وصلت الناصرة إلى هذا الهدف فسوف تساهم في وضع ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني الذي صار أقلية في وطنه على خارطة العالم، وهي مهمة وطنية من الدرجة الاولى بالنسبة للفلسطينيين عامة إضافة إلى كونها مهمة سياسية لأهل الناصرة والجليل بشكل خاص. وبعبارة أخرى، فإن وضع الناصرة على خارطة العالم يساهم في وضع الفلسطينيين في إسرائيل عليها، ويساهم في ترسيخ الوعي بأن في الدولة التي أُقيمت كدولة يهودية حصريّة شعب آخر له مقوماته وقياداته ومؤسساته وتاريخه وحضارته. وهو أمر بالغ الأثر على المنطقة والعالم بأسره لا سيّما على خلفية مساعي إسرائيل الحثيثة لإنتزاع اعتراف العالم بها كدولة يهودية. وبالإضافة إلى الأهمية السياسية لمثل هذا الإنجاز فإنه يساهم في اجتذاب الاهتمام العالمي بهذا الجزء المهمل والمنسي من الشعب الفلسطيني وفي اجتذاب النشاط السياحي والاقتصادي وفي تنشيط العمل الثقافي وحركة التبادل العالمي مع المدينة، وهو ما من شأنه أن يجعل الناصرة مدينة دينامية تخترق الأطواق التي فرضتها السياسات الكولونيالية. كذلك، يمكّن هذا التطوّر من توظيف قوى ومؤسسات عالمية لردع إسرائيل من ارتكاب خطوات متهوّرة ممكنة في المستقبل ضد شعب عَلِم العالم بوجوده على أرضه. ويُساهم هذا الوعي العالمي في مقاومة السياسات القمعية الإسرائيليّة ضد الفلسطينيين في إسرائيل.

الناصرة، وبالرغم من الإهمال الذي أصابها، هي كنـز فلسطيني تعرض بعد بقاء المدينة لنمط خاص بها من الخنق المتعّمد ومحاولات محو التاريخ والهوية وذلك انطلاقًا بالذات من كونها مدينة عربية ذات مكانة عالمية ممكنة. لم تتعرض الناصرة لنفس أسلوب التهويد كالقدس مثلا- بإحلال الوجود اليهودي داخل المدينة نفسها بواسطة الدبابة والبلدوزر. يعود ذلك لأسباب عديدة منها أن الأماكن المقدسة وتاريخها- وخاصة التاريخ المرتبط بالسيد المسيح و"أهل بيته"- لا ترتبط بالرواية الصهيونية ولا تساهم في شرعنتها، كما أن الإبقاء على بعض المعالم المسيحية في فضاء قامت إسرائيل بتهويده لا يهدّد المشروع الكولونيالي. وعليه فإن إقامة المدينة التي يسميها اليهود "نتسيريت عيليت" -- والتي لا يعرف العرب كيف يسمونها بحيث لا يختلط في وعي احدهم أمر المدينتين-- لم يهدف الى تهويد المدينة الفلسطينية بشكل ماديّ كما في القدس بقدر ما هدف الى خنق فضائها في نفس الوقت الذي يتمّ تهويد مداها، والقضاء على آفاقها الحيزيّة والمعنويّة والسياسيّة.

الناصرة إذًا كنز فلسطيني مغمور، علينا، إذا أردنا أن ننفض عنه غبار الاهمال وآثار محاولات السلب، أن نودعه في عهدة قيادة  دينامية تنجح في وضعه على خارطة العالم للنهوض بالمدينة إلى مرحلة جديدة.

3. الثقافة السياسية المعطوبة:

قد يكون من قبيل الاجحاف أن نعتبر الناصرة المرآة العاكسة بامتياز للعطب الذي أصاب ثقافتنا السياسية، إلا أننا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أنها تتميّز، ربما بسبب أهميتها، بحدة الخطاب الحزبيّ وبؤسه أحياناً. يستحق هذا الموضوع معالجة جادّة من قِبل السياسيين والمثقفين على الرغم من أن كثيرين، حسب علمي، يفضلون عدم الخوض فيه خشية من اللغة الغوغائية والاتهامات الرخيصة التي تُطلق بسهولة، وخوفاً من أن يكون الرّد هو "قتل حامل الرسالة" بدلاً من نقاش الرسالة، كما حدث مرارًا وتكراراً. وهذا وضع بائس يعود سببه، باقتضاب، إلى غياب مشروع وطني يجمع الأحزاب والقوى الوطنية فلا يتخذ حزب من حزب منافس له عدواً ولا يعامله كخائن ولا يشمت به عند حاجته للتضامن الاجتماعي والسياسي. إن السهولة التي تلصق بها تُهم الخيانة والتآمر وتهم الارتهان بقوى خارجية في انتخابات محلية لا تدعو إلى الدهشة فقط بدل تستحثنا جميعاً على الرويّة والانضباط وعلى السعي إلى إعادة صياغة مشروع وطني يجمع تحت لوائه الأحزاب والقوى السياسية المختلفة.

يترك غياب المشروع الوطني أثرًا ملحوظًا على الناصرة، وهو ينعكس في اقتراحات تكرّس تأزيمه في الناصرة وفي المجتمع ككل. وقد أوصل الوضع الحالي بعض مثقفينا إلى حدّ المناداة بتحصين رئاسة مسيحية للبلدية من أجل الحفاظ على الوجود المسيحي في المدينة وفي فلسطين بشكل عام. وأنا شخصياً لا أعتقد ان صاحب الاقتراح يحمل نوايا طائفية؛ لكن اقتراحه في نهاية الأمر يصب في هذا الاتجاه بزخم رغم النوايا أيّاً كانت. هذا إضافة الى انه اقتراح سيء لأسباب أخرى عديدة لا مجال للخوض فيها هنا.

أنا أعتقد أن ما سيحافظ على بقاء جميع أبناء الشعب الفلسطيني ويواجه الانقسامات الطائفية هو المشروع السياسي الوطني الديموقراطي المتنّور الذي يستحدث أدوات جديدة، يُجندّ طاقات مغيّبة من أجل النجاح ويستعمل خطاباً حداثياً وديموقراطياً وحضارياً شاملاً قادرًا على مجاراة الواقع الدينامي المتغيّر وعلى تخطّي الانقسامات من خلال تشخيص خطورتها ومصادر تغذيتها. وعلى كل حال لم تكن رئاسة توفيق زيّاد الذي قاد مشروعاً ملائماً للظروف السياسية في منتصف السبعينيات أقل حفاظاً على الوجود المسيحي في الناصرة وفي فلسطين بل بالعكس. كذلك لن تكون قيادة حنين زعبي للمشروع الجديد الملائم للظروف السياسية الحالية أقل حفاظاً على الوجود المسيحي في الناصرة وفي فلسطين بل على العكس تماماً إذ سيساهم انتخابها، كما ساهم انتخاب توفيق زيّاد - بسبب الملاءمة التاريخيّة للمشروع الذي مثّلاه- على كسر حدة الاصطفاف الطائفي، فمشروعها يستحضر الانتماء القوميّ الديمقراطي المتنّور والحداثي ليتخطى الانقسامات الحزبية والأخرى.

4. الناصرة مرشحة لنقلة نوعية مرة أخرى:

شهدت الناصرة في سنة 1975 الانقلاب الثائر الذي أوصل القائد الوطني توفيق زيّاد إلى رئاسة البلدية، ثم إلى انتخاب نائبه رامز جرايسي رئيسًا للبلدية في أعقاب موته المفجع في سنة 1994. وعلى امتداد فترة جيل كامل أدى جرايسي وظيفته رئيساً وطنياً، نشطاً، ملتزماً، ومخلصاً. ومما لا شك فيه أنه عمل من أجل الارتقاء بالناصرة في ظروف صعبة وفي مواجهة سياسات كولونيالية نموذجية. تمكنّت القيادة الحالية للناصرة من تحسين أوضاع المدينة والخروج بها من حالتها السابقة معتمدة على رؤياها السياسية ونهجها وآلياتها إلا أنّها وصلت إلى طريق مسدود. الناصرة تستحق الآن بعد الوصول إلى هذه المرحلة الانطلاق إلى مكانة العاصمة وإلى مكانها على خارطة العالم- وذلك لم يُنجز خلال العشرين سنة الماضية.

بناءً على ما تقدّم يكون الاستنتاج أنه قد حان الوقت لقيادة جديدة تعمل انطلاقًا من منطلقات فكرية أوسع وأكثر حداثة وأكثر ملامسة لواقع الناصرة ومكانتها ووعيًا للواقع الكولونيالي الإسرائيلي وواقع القضية الفلسطينية بجميع مركباتها، ومن منطلقات أكثر انفتاحاً على العالم وعلى القيم الديموقراطية وأكثر مقدرة على رفع مكانة الناصرة ووضعها بثقة على خارطة العالم.

يبدو أن الناصرة تقف الآن أمام فرصة قد تقود إلى منعطف أمام الفلسطينيين في إسرائيل. وكما شكّلت انتخابات 1975 نقلة نوعية انتشلت الناصرة من أجواء الحكم العسكري ومن قبضة أعوان السلطة من حلفاء "المباي"، وساهمت في نشر الأجواء السياسية الوطنية عامة، فإن انتخابات 2013 هي فرصة لنقلة نوعية جديدة بالغة الأهمية وإن كانت تختلف كثيرًا عن سابقتها، فهي نقلة من إدارة قيادات وطنية وصلت مداها إلى قيادات وطنية تفتح آفاقاً جديدة. وليس السؤال الذي يواجه الناصرة اليوم من هي القيادة الأكثر وطنية أو الأكثر التزاماً. إنما السؤال هو من هي القيادة الوطنية الأكثر قدرة على الوصول بالناصرة إلى المرحلة القادمة- كعاصمة للجماهير العربية، كمدينة تتخطى الانقسامات الطائفية والعصبيات الحزبية لتقود مشروعاً وطنياً ديموقراطياً.

5. إمرأة في موقع القيادة:

حنين زعبي إذا ما نجحت في أن تكون رئيسة بلدية الناصرة ستكون من النساء الفلسطينيات القلائل التي حظينْ بشرف رئاسة بلدية في جميع أنحاء فلسطين. وهي المرأة التي وصلت بمقدراتها القيادية والفكرية ومزاياها الشخصية إلى منصات عالمية وصارت بجدارة من النساء القياديات على المستوى الفلسطيني والعربي، كما أصبحت قيادية معروفة في كثير من الأوساط التقدمية في العالم. وكشفت حنين زعبي بعد انتخابها عضواً في البرلمان الإسرائيلي عن الطاقات المغيّبة باستبعاد المرأة من حلبة المشاركة السياسية، وعن الجرم الذي يرتكبه المجتمع تجاه نفسه في عملية الاستبعاد المذكور. وفق نفس المنطق، سيساهم نجاحها في الناصرة في فتح طريق أوسع أمام المرأة في جميع المواقع القيادية السياسيّة بما فيها السلطات المحلية وفي تفجير الطاقات الكامنة والمغيّبة لتأخذ دوراً أكبر في مجالات الاقتصاد والأعمال والثقافة والإعلام والأكاديميا. بهذا سيكون إنجاز انتخابها إنجازاً وطنياً فلسطينياً خالصاً.

الناصرة بأمّس الحاجة إلى قيادة جديدة وفكر سياسي دينامي ومتجدّد ومصادر قوة سياسية واقتصادية وثقافية جديدة. إن في مقدور هذه المدينة أن توضع على خارطة العالم وعندها ستستحضر، ومعها جميع الفلسطينيين، أسساً جديدة للقوة السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية. وفي مقدورها أيضًا أن تصبح بجدارة عاصمة الجماهير العربية وأن ترسِّخ مكانتها كإحدى أهم المدن الفلسطينية وإحدى مدن العالم ذات الإرث الحضاري العميق. وفي اعتقادي إن قيادة حنين زعبي- والفكر السياسيّ الذي يُرشد عملها- هي القيادة الملائمة في هذا الوقت لتبني على ما تم إنجازه حتى الآن ولتقود عملية بناء الناصرة – المادي والمعنوي – إلى الآفاق المرجوة.

التعليقات