16/11/2019 - 22:00

علي موسى: "ذاكرة المكان" محاولة لمحاورة السائد في الذاكرة الجماعية الفلسطينية

موضوع المكان له علاقة بالضغط الاستعماري، فكلما طال الزمن زاد الضغط الاستعماري على الفلسطينيين لتحويلهم إلى كيانات مكانية معزولة عن بعضها البعض، بحيث يشعر الفلسطيني في الضفة الغربية مثلا أن غزة موجودة في قارة أخرى، وأنها تبعد عنه مكانيًا وزمانيًا

علي موسى:

شاطئ يافا في غزة، على بعد عشرات الكيلومترات من الشاطئ الأصلي (رويترز)

علي موسى:

- الخطورة في التقسيم المكاني أنه يتحول إلى ذهنية

- كيف صارت غزة أبعد نقطة في العالم عن الضفة؟

- لماذا لا يعرف الكثير من الفلسطينيين البحر وبلادهم تمتلك أطول شواطئه؟


لم تقتصر النكبة على احتلال الوطن وتشريد الشعب الفلسطيني فقط، بل امتدت إلى تدمير ثقافته وإرثه الحضاري، حيث دمر أو فقد أو نهب معظم الإرث الثقافي والقانوني المكتوب للشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق يشير د. صالح عبد الجواد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، إلى أن التدمير "شبه الكامل" الذي طال المصادر المكتوبة في المدن الفلسطينية إبّان النكبة، إضافة إلى النقص "المقصود ربما" في أرشيف المؤسسات الدولية، التي كانت عاملة في فلسطين قبل النكبة، ضاعف من أهمية التاريخ الشفوي في حفظ الذاكرة الجمعية.

ومع تدمير مصادر التاريخ الفلسطينية، والحظر المفروض على الأرشيف الدولي والعربي، بات على المؤرخين الاتجاه إلى المصادر الشفوية عند كتابة التاريخ الفلسطيني، وبفضل هذه الذاكرة، التي تجسدت عبر الروايات الشفوية، حافظ الفلسطينيون خلال أكثر من نصف قرن على جزء كبير من هويتهم وثقافتهم وحموها، ونقلوا الانتماء إلى الوطن إلى أجيال لاحقة.

من جهتها، تعتبر الباحثة روز ماري صايغ أن الاهتمام بكتابة التاريخ الشفوي الفلسطيني، بات أمرا استثنائيًا في المنطقة العربية، وتعزو ذلك الى رحيل الجيل القديم، الذي يذكر الحياة في فلسطين قبل النكبة، الذي خلق ظرورة بحفظ التاريخ والتراث، بعد تضاؤل الأمل بالعودة القريبة.

وهي تشير في هذا السياق إلى دراسات في التاريخ الشفوي ودراسات أنثروبولوجية في المخيمات، من قبل أشخاص أمثال نافذ نزال وبيان الحوت وجولي بيتيت وسمير أيوب وغازي الخليلي.

وبعد خروج منظمة التحرير من لبنان وانتقال الحركة الوطنية إلى الضفة الغربية وغزة، لعبت الجامعات دورًا مركزيًا في إنتاج التاريخ الشفوي، وفي العام 1983 كانت جامعة بيرزيت السباقة في المنطقة العربية إلى تدريس التاريخ الشفوي، كما قامت بنشر سلسلة "القرى الفلسطينية المدمرة" بإشراف الباحث شريف كناعنة.

ويرى الأنثروبولوجي الفلسطيني، ساري حنفي، أن العديد من المشروعات المختلفة حول الحكايا الشفوية والتوثيق أخذت تجتاح حياة الفلسطينيين في كل مكان مع نهاية التسعينيات، وبناء عليه تحرر الضحايا الصامتون من "عارهم" الذي كان يشعرون به في السابق، كما يقول، وبدأت تنتشر أعداد كبيرة من المذكرات واليوميات والرسائل التي كتبها فلسطينيون، التي شكلت انطلاقة رغم أنها ظلت أسيرة للنظرة الرومانسية التي تعاملت مع فلسطين، على أنها "الفردوس المفقود".

ويلفت حنفي إلى التهميش الذي يلحق برواية المهمشين من القرويين والفلاحين من قبل رواية الطبقات الوسطى وأصحاب النزعات المدينية، ممن امتلكوا القدرة والإمكانات الثقافية والمادية لكتابة التاريخ.

علي موسى

وبلا شك، فإن الأهمية الاستثنائية التي باتت تحتلها الذاكرة الشفوية الفلسطينية، حولتها أيضًا إلى حقل للدراسة من قبل الباحثين، بصفتها تشكل مقطعًا عرضيًا للمجتمع الفلسطيني يمكن الإطلال منه على حياته وتناقضاته الداخلية، وليس التعامل معه ككل تعرض لنكبة وتهجير فقط. وفي هذا الإطار، يندرج البحث حول "ذاكرة المكان في السير والمذكرات الفلسطينية"، الذي يسعى الباحث علي موسى لإجرائه من خلال أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في جامعة بير زيت، والتي يعمل حاليًا على إعداد مقترحها الأولي، علمًا أنه اعتمد على مصادر مكتوبة ومنشورة، وقد أجرينا معه هذا اللقاء

عرب 48: ماذا تعني بـ "ذاكرة المكان"؟

موسى: هناك الكثير من العناصر في السير والمذكرات، أنا أخترت عنصر المكان لأن العلاقة بالمكان بالنسبة للفلسطيني تتراوح بين الصمود والاقتلاع والتهجير والتجزئة، والتقسيم والبقاء والحنين، والتجربة المكانية هي من أهم تجارب الفلسطينيين.

المحاولة الأولية تقول إنني سأحاول أن أقارن بين نصوص مختلفة في الشتات والضفة والقطاع ومناطق الـ48؛ نصوص مكتوبة ومنشورة. وستكون المقابلات الشخصية ربما متممة، ولكن البحث يعتمد على نصوص مكتوبة ومنشورة.

النصوص متنوعة ليس من ناحية المكان فقط، بل من ناحية جندرية: رجال ونساء؛ ومن ناحية اجتماعية: ريف مدينة، وفئات اجتماعية. ومن الواضح أن هناك طغيان لفئات معينة على أخرى مثل الرجال، أو تقسيمات جغرافية اجتماعية معينة، وهذه محدوديات يجب أخذها بعين الاعتبار على ألا تنتقص من موضوعية البحث.

ومن الواضح لي، أن هؤلاء الكتاب عاشوا في حقب زمنية مختلفة وفي أماكن مختلفة، وأن سيرهم تأثرت بهذه العوامل. فالمستقر في بيته وفي بلدته أو مدينته التي لم ينزح عنها، ليس كالإنسان المشتت في المنافي أو اللاجئ الذي يسكن مخيم في الضفة أو القطاع، والإنسان الذي يتعرض لهدم وتهجير جديد في الضفة والقطاع، ليس كالذي يعيش حياة مطمئنة في بيته.

كذلك المرحلة العمرية لها تأثير كبير أيضًا، فالحديث عن فترة طفولة أو سنوات معدودة ليس كالحديث عن مرحلة عمرية كاملة، هذا ناهيك عن البعد الطبقي الاجتماعي، من هم هؤلاء الناس، ماذا كانوا يعملون وما هو موقعهم في المجتمع؟

عرب 48: المقصود أنك تتعمد أن تعتمد على تجارب أناس عاديين، ولكنهم يتمتعون بقدر معين من الثقافة والمكانة في محيطهم الصغير، أهلتهم لكتابة سيرهم ونشرها؟

صحيح، هي ليست سيرًا لقادة سياسيين أو رجال أعمال أو أدباء وكتاب مشهورين، لأن هؤلاء سيقودون البحث إلى مكان نخبوي، ولأن سيرهم قد جرى تناولها بالعادة من قبل الكثيرين.

قد يكون هذا الشخص طبيبًا أو معلمًا له تجربة محلية ذات علاقة بالمكان وقرر أن ينشرها، أو قام آخرون بنشرها في مرحلة لاحقة. والهدف هو كسر الصورة النمطية التي ترسم فلسطين، أو هذا الحيز الفلسطيني بشكل ما، إلى محاولة رسم صورة حقيقية قدر الإمكان نابعة من القاعدة.

كذلك فإن البحث يخرج عن مألوف التحقيب الذي يأخذ طابعًا سياسيًا، كما هي عادة المؤرخين والمؤرخين الاجتماعيين، بمعنى الارتباط بأحداث سياسية كبرى مثل التغيير في أنماط الحكم، استعمار، احتلال 48، احتلال 67 وهكذا، إذ إن موضوع النصوص الفردية تحكمه أحداث خاصة وليس بالضرورة أن يكون الحدث العام هو الحدث المفصلي.

عرب 48: ماذا تقصد بعدم الوقوع في التحقيب، فالعام 1948 مثلا هو حدث مفصلي في حياة الشعب وحياة الأفراد؟

موسى: توجد أحداث أو حدث مفصلي مثل الـ48 في حياة الناس على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم، ولكن المقصود عدم تقطيع شريط الذاكرة بتحقيب تاريخي، يشوش شموليتها، كما هو متبع في كتابة التاريخ، بمعنى حقبة انتداب، حقبة أردنية، احتلال إسرائيلي وهكذا دواليك.

ما أحاول عمله هو تجميع ذاكرات فردية هي المشكل للذاكرة الجماعية، وليس فرض المفهوم الجماعي على الذاكرات الفردية، فالذاكرة الجماعية تتشكل من ذاكرات الأفراد، وأنا سأختار عينات تعكس التنوع الجغرافي والاجتماعي والجندري الفلسطيني في هذا التشكيل.

عرب 48: ما هو المكان الذي تقصده في بحثك، فنحن نعرف أن الوطن بالنسبة للفلسطيني، إذا جاز التعبير، كان ينحصر أساسًا في قريته الوادعة أو حيه الصغير الكائن في المدينة، وقسم كبير من اللاجئين الفلسطينيين مهجرون داخل الوطن، في مخيمات اللجوء الكائنة في الضفة والقطاع، وفي قرى لا تبعد كثيرًا عن قراهم الأصلية داخل مناطق 48؟

موسى: فكرة المكان من مستويين؛ المكان الخاص وهو البيت والحي والشارع والقرية، الذي يعيش أو كان يعيش فيه الفلسطيني؛ وفكرة فلسطين كوحدة واحدة التي تظهر أو كانت تظهر وتغيب في هذه النصوص.

في العام 1948 وجدت ثلاث فئات من الفلسطينيين؛ الذين بقوا في قراهم ولم يتم تهجيرهم في النكبة؛ والذين جرى تهجيرهم من قراهم ومدنهم إلى مدن وقرى قريبة منها؛ والذين تم تهجيرهم وعادوا بطريقة أو بأخرى؛ وفي المناطق المحتلة في العام 1967، ظل فلسطينيون في قراهم ومدنهم، بالإضافة إلى لاجئي 48 الذين يسكنون في المخيمات في الضفة وغزة؛ ولاجئون في الشتات بعد 48 و67.

"كلما طال الزمن زاد الضغط الاستعماري على الفلسطينيين لتحويلهم إلى كيانات مكانية معزولة.."

وموضوع المكان له علاقة بالضغط الاستعماري، فكلما طال الزمن زاد الضغط الاستعماري على الفلسطينيين لتحويلهم إلى كيانات مكانية معزولة عن بعضها البعض، بحيث يشعر الفلسطيني في الضفة الغربية مثلا أن غزة موجودة في قارة أخرى، وأنها تبعد عنه مكانيًا وزمانيًا.

عرب 48: الفجوة التي تخلق حاليًا بين الضفة وغزة تعيدنا بالذاكرة إلى الفجوة التي خلقت بين فلسطينيي 48 وبين الضفة وغزة والشتات؟

موسى: التقسيم المكاني يأخذ مع الوقت بعدًا ذهنيًا، بحيث يدخل في ذهنية الناس وكأن هذه الجغرافية الفلسطينية المحدودة أصلا، هي كيانات مختلفة إلى هذه الدرجة. فقبل 100 سنة، أي قبل "سايكس بيكو" التي رسمت الحدود بيد المستعمر، لم تكن الدول العربية القطرية موجودة أصلا، واليوم ذهب المستعمر وبقيت الحدود التي تحرس من أبناء هذه الكيانات أنفسهم.

وما يجري اليوم، أنني كفلسطيني يعيش في الضفة من السهل جدًا أن أسافر إلى الأردن أو عبرها، وأقل سهولة من دخول مناطق الـ48، ولكن من شبه المستحيل أن أدخل إلى قطاع غزة، فغزة هي أبعد مكان في العالم بحكم الظرف الاستعماري.

"في الضفة فلسطينيون لا يعرفون البحر، علمًا أن فلسطين لها شاطئ طويل جدًا" (شاطئ يافا تصوير ActiveStills.org)

في الضفة فلسطينيون لا يعرفون البحر، علمًا أن فلسطين لها شاطئ طويل جدًا، وهناك أناس لم يروا الصحراء، بالرغم من أن الصحراء تغطي مساحة لا بأس بها من فلسطين. إن الظرف الاستعماري يبدد جغرافية المكان، والأهم والأخطر هي الصورة الذهنية الجديدة عن الحيز والمكان والجغرافيا، التي يسعى الاستعمار إلى بنائها.

هل نتخيل أن من عاشوا على حدود الدول القطرية، آمنوا عند ترسيم حدود "سايكس بيكو" أن تلك الحدود المستجدة ستتحول إلى واقع سياسي يصعب زحزحته؟ وهكذا في فلسطين التقسيم يتم على أرض الواقع ثم يتحول إلى ذهنية، والتقسيم المكاني يرافقه تقسيم سياسي، حكم معين في الضفة وحكم آخر في الضفة ناهيك عن الداخل. وما هو سلطة في رام الله هو معارضة في غزة، وما هو سلطة في غزة هو معارضة في رام الله. هذا يخلق مع الوقت لدى الناس صورة ذهنية، أخطر ما فيها تراجع شعورهم بأنهم شعب واحد وكيان واحد.

عرب 48: هنا يكمن دور الذاكرة الجماعية ودورها في استرجاع الواقع، الذي يحاولون تغييره وصيانة الشيء الموحد؟

موسى: من أهداف البحث تعزيز الرؤية التي تقول إن توحيد الناس والحفاظ على الرؤية الموحدة لديهم، يفترض أن يكون نابعًا من الناس أنفسهم، ولأجل ذلك ذهبت إلى تجارب فردية لأناس من القاعدة الشعبية.

عرب 48: وأنت تسعى من خلال بحثك إلى تجميع تلك الذاكرات الفردية، لصياغة أو للتأثير في صياغة الذاكرة الجماعية؟

موسى: لا أريد أن أبالغ وأقول إن الهدف هو صياغة أو المساهمة في صياغة ذاكرة جماعية بديلة، بل أقول محاورة الذاكرة الجماعية التقليدية القائمة، بمعنى إسماع صوت هؤلاء الأفراد جميعهم، من خلال ذاكرتهم وعلاقتها بالمكان، وفحص إذا ما كانوا يختلفون أو يتفقون مع الذاكرة الجماعية الفلسطينية، وخطوطها العريضة في هذا السياق.


علي موسى، طالب في برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، ومدرّس في دائرة الدراسات الثقافية والفلسفة في جامعة بير زيت - الضفة الغربية.

التعليقات