14/12/2019 - 18:00

ياسمين ظاهر: المشروع الأخلاقي للثورة يرتبط بالإحساس بقوتك وبذاتك

* المشروع الأخلاقي للثورة يرتبط بالإحساس بقوتك وبذاتك * الميادين تحولت إلى حيز عام لبناء علاقات بشرية وفقًا لممارسة الحرية* الثورة قوضت المفهوم الهرمي للسياسة القائم على السيطرة والتحكم

ياسمين ظاهر: المشروع الأخلاقي للثورة يرتبط بالإحساس بقوتك وبذاتك

ميدان التحرير في العام 2011

ياسمين ظاهر:

* الميادين تحولت إلى حيز عام لبناء علاقات بشرية وفقًا لممارسة الحرية

* الثورة قوضت المفهوم الهرمي للسياسة القائم على السيطرة والتحكم

* النظرة الاستشراقية لم تؤمن أن العرب قادرون على صنع التغيير بواسطة الثورة


تشير الباحثة ياسمين ظاهر في معرض بحثها لرسالة الدكتوراه بالفلسفة، الذي تناول تجربة الثورات العربية، إلى أن سياق هذه الثورات، وتحديدا المراحل الأولية منها والتي اتسمت بالحراك المباشر والمفتوح والتنسيق والإدارة غير الهرمية وعدم وجود قيادة بمعناها التقليدي غير الميداني، يتيح دراسة المفاهيم السياسية والأخلاقية الناتجة عن مثل هذا الحراك، مقابل ما نعرفه عن السياسة بشكلها غير العفوي والمنظم.

وترى ظاهر أن الهدف هو ليس معالجة مثالية لهذه التجارب، بوصفها حالات نادرة وخارجة عن القاعدة، ولكن التمحيص في ما تطرحه هذه "المثاليات" في بعدها الواقعي وغير المثالي، في ما يخص حياتنا اليومية والعادية والسياسية أيضًا، كبشر وكأعضاء في مجتمع.

وتشتق ظاهر من سؤال العطاء والتضحية الذاتية أسئلة حول مفهوم الأخلاق، وهل يتصرف الأفراد في هذه اللحظات بناء على منظومات أخلاقية محددة مسبقًا، أم تتيح لهم اللحظة بناء وتجربة مفاهيم ورؤى مختلفة؟ وهل يمكن اعتبار سياق العمل السياسي والشعبي مكونًا مميزًا لبناء منظومة أخلاقية مختلفة؟ وعلى ماذا تعتمد هذه المنظومة؟ هل تعتمد مثلا على مفاهيم المسؤولية والشعور بالذنب، أم على مفاهيم كالتضحية والحب؟ وهل يختلف شكل التنظيم السياسي باختلاف المفاهيم التي تسيره؟

وكلها أسئلة مشتقة من واقع أن الثورات العربية، لم يقتصر دورها على طرح خطاب مسيس حول التحولات الديمقراطية والتغييرات المستحقة في أنظمة الحكم القائمة، بل تعدت ذلك إلى معنى السياسة ذاتها، ليس فقط كنظام حكم، بل كحيز عام لبناء علاقات بشرية وكأفق لممارسة الحرية.

وحول هذه الأسئلة وذاك المعنى في بحثها الذي نالت عليه درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة مونتريال في كندا، أجرينا هذا الحوار مع د. ياسمين ظاهر، التي ستحل ضيفة يوم الجمعة المقبل على برنامج الدراسات النسوية في "مدى الكرمل" وجمعية الثقافة العربية في حيفا، بندوة يشارك فيها أكاديميون وتتحدت فيها ظاهر عن رسالتها.  

عرب 48: كما فهمت، تحاولين تسليط الضوء على جانب مغيب في الثورات العربية، وهو مخالف للسياسة الهرمية - التقليدية، وذلك من خلال نقد الدراسات الغربية لمسألة التحول الديمقراطي، وبالأصح قصور التحول الديمقراطي عند العرب؟

ظاهر: دراستي تقوم على نقد الدراسات الغربية التي تناولت "الانتقال الديمقراطي" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وصولا إلى الثورات العربية الراهنة.

ياسمين ظاهر: الثورة لحظات استرداد البشر لقوتهم السياسية

لقد تناولت تلك الدراسات مسألة الانتقال الديمقراطي ذاك قبل وقوعه، من باب طرح الأسئلة حول أسباب عدم حصول مثل هذا الانتقال، وما هو المطلوب لتسريعه وما هو دور الغرب بـ"إنجاز هذه المهمة"، وليس صدفة أن جورج بوش الابن برر غزوه واحتلاله للعراق بدعوى نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.

انتقادي كان لهذه الدراسات أنها حصرت الانتقال الديمقراطي في الشرق الأوسط بالإصلاح ولم تتحدث عن ثورة على أنظمة الحكم، كما انطلقت من أن الإصلاح سيكون من خلال العسكر أو النخبة السياسية والاقتصادية والمجتمع المدني، وهو ما يعكس استخفافًا بالناس وبالشعوب وبقدرتها على التحرك وإحداث التغيير من القاعدة.

وهذا مرتبط بنظرة تلك الدراسات الاستشراقية للعالم العربي، وهي نظرة لا ترى بشعوبه شعوبًا حية وتمتلك وكالة ورغبة وقدرة وأمل في خلق الحرية والمساواة، هذا ناهيك عن النظرة إلى الإسلام التي تقوم على الادعاء بعدم ملاءمته للديمقراطية وحقوق الإنسان ومنظومة "القيم الغربية".

ولكن، تلك النظرة تنبع أيضًا من فهم عام للسياسة كما هو سائد في الغرب، إذ يرى بالسياسة أداة هرمية لمعالجة وقيادة الناس والمجتمع، وليس كمساحة مفتوحة تتعاطى فيها الناس وتتفاوض وتتفاعل مع بعض بشكل متساو، وهذا مرتبط على ما يبدو بالنظرة التاريخية للفكر الأوروبي وفهمه للسياسة كأداة للسيطرة والتحكم، هدفها أساسًا منع الناس من القوة السياسية، إيمانًا منه بأن القوة السياسية هي شيء سيئ، وقد تكون عنيفة ومؤذية وما إلى ذلك.

عرب 48: يبدو أن هذه المفاهيم تسللت إلينا أيضًا، حيث فقدنا الأمل والثقة بشعوبنا ومن كونها قادرة على إحداث تغيير معين، فكانت الثورات مفاجئة للنخب أيضًا؟

ظاهر: صحيح، ولكن في اللحظة التي تنظر فيها إلى الثورات، تستوعب أن الناس بدأت بأخذ وكالة على مصيرها، وأن القوة السياسية هي محرك لكل شيء إيجابي ولتغيير ممكن، وتصبح هناك إمكانية لنقد هذه النظرة التي تنظر للسياسة بشكل هرمي، وأن الثورات كان هدفها تغيير نظام حكم فقط، ومن هناك بدأت بنقد النظرة "الغربية" للانتقال الديمقراطي.

عرب 48: وكيف عالجت الموضوع في السياق العملي؟

ظاهر: لقد أخذت الثورة المصرية كنموذج وميدان التحرير تحديدًا، وتموقعت زمنيا في 18 يومًا التي نزل فيها الناس إلى الميدان، واستطاعت أن تبني وتخلق مؤسسات صغيرة، آنية، لكنها مختلفة عما كنا نرى ونعرف من قبل.

من بين الخيام أقاموا حمامات ومدارس صغيرة، وبنوا منصات وعلموا الأطفال الفنون، ونظموا لجان إعلام وعيادات وغيرها من المرافق، وحاولوا أن يخوضوا الحياة اليومية بشكل مباشر مع الحياة السياسية.

ما فعلوه أنهم لم ينزلوا إلى الشارع ويصرخوا نريد حرية وعدالة اجتماعية فقط، بل حاولوا من خلال الاعتصام في ميدان التحرير أيضًا، أن يبنوا مجسمًا أو نموذجًا مصغرًا، وبهذا الشكل طرحوا معنى آخر للسياسة، يختلف عما كنا معتادين عليه. طرحوا شيئًا مختلفًا عن السياسة كبناء هرمي وأداة سيطرة وتحكم، شيئا ديمقراطيًا ومفتوحًا وقابلا للتفاوض، منح الناس أملا أكبر في وكالتها، بعد أن قدمت نموذجًا سياسيًا مختلفًا لما يجب أن يكون عليه الفهم السياسي بحد ذاته.

ميدان التحرير

عرب 48: أفهم أن التركيز في البحث فقط في مصر وميدان التحرير بشكل خاص، ولم تتناولي تجربة تونس، على سبيل المثال؟

ظاهر: أعتقد أن ما حدث في تونس هو مشابه لما حدث في مصر، وما يحدث اليوم في لبنان والعراق والجزائر هو مشابه أيضًا لمصر. الثورات في مختلف البلدان العربية حاولت أن تبدأ من تلك النقطة والناس بثورتها وبواسطة تواجدها في الشارع، حاولت أن تنقل القيم التي تؤمن بها من خلال سلوكها وتعاملها وأخلاقيات تعاملها اليومي مع بعضها.

عرب 48: في لبنان مثلا برزت الشتائم السياسية وغير السياسية كسمة مميزة؟

ظاهر: الناس في مختلف البلدان العربية عبرت عن قهرها و"طهقها" كل على طريقته من هذه القيادات، وفي لبنان طغى شعار "كلن يعني كلن" تعبيرًا عن واقع نظام المحاصصة الطائفي وتشكيلته المتنوعة والمتفاوتة.

لقد عبرت الناس عن عدم ثقتها بكل التشكيلات السياسية التقليدية على اختلاف ألوانها ومواقعها، وليس من الغريب أن الحَراكات الشعبية كانت عفوية وغير منظمة، ولا يقودها أي حزب سياسي، لأن تلك الأحزاب إن كانت في السلطة أو في المعارضة، هي جزء من المشكلة وليست جزءًا من الحل.

الناس ملت الوكلاء وخرجت لتعبر عن ذاتها، ولا تريد أن يتحدث أحد باسمها إلا هي، وقد عبرت عن ذلك بشكل مباشر وجماعي، وهذا بمثابة سحب ثقة بكل التشكيل السياسي الذي كان قائمًا قبل الثورة.

عرب 48: ولكن الأمور تقاس في النهاية بامتحان النتائج كما يقولون؟

ظاهر: هناك من يقفزون رأسًا إلى السؤال التالي، ماذا فعلتم؟ وماذا حققتم؟ وهل حصل الانتقال الديمقراطي أم لا؟ وأنا أقول، إذا لم نركز على اللحظة الزمنية وندرسها سنفقد المشروع الأخلاقي للثورة، لأن المشروع الأخلاقي للثورة يتطلب منا التوقف للحظة عند الأسئلة المباشرة، لنرى ماذا تستطيع الناس كبشر أن تحقق لها أيضًا، من ناحية تلك المكاسب الشخصية التي تحس بها بقوتك، بذاتك، بأنك إنسان موجود وحي.

تلك الأمور يتم تغييبها عند النظر إلى الموضوع كثورة ويجب أن تحقق نتائج، دون أن يتم رؤية ذاك التفاعل الجماهيري الذي يعاش بشكل يومي بين الناس في الشوارع والميادين، وهو شعور يمزج القضايا الشخصية في الكل الموحد والأداة الجماعية التي تمثلها الثورة.

ميدان التحرير

إنه فعل يكسر الوهم الرأسمالي للخلاص الذاتي، الذي يقول إن تحسين ظروف معيشتك يرتبط بأن تشتغل أكثر وتجتهد أكثر، فتأتي تلك اللحظات التي وأنت تتحدث فيها عن ذاتك، لا تستطيع أن تلغي المحور الجماعي لحاجتك الشخصية وحتى الجسمانية، كأن تكون جوعان مثلا، هنا تتجسد القضية الأخلاقية.

عرب 48: أنت تتحدثين عن جانب إنساني من الدرجة الأولى، يتمثل في استرداد القوة المسلوبة من الإنسان المقهور، وعودة الشعور بالذات القادرة على الفعل؟

ظاهر: صحيح، هي لحظات استرداد البشر لقوتهم السياسية، التي ليس أنهم يستطيعون من خلالها تحسين ظروفهم الاجتماعية فقط، بل أن يحسنوا أنفسهم كبشر ويشاركون بشرًا آخرين بظروف مختلفة عن التي عاشوها سابقًا. هي مثال لحاجة أن يكون عندنا تواصل مباشر كبشر مع السياسة، ليس عن طريق ثورة بالضرورة، ودعوة لإعادة التفكير في موضوع السياسة كشيء هرمي وسيطرة، وطرح أسئلة مهمة تتعلق بعلاقة الناس مع السياسة، أبرزتها تلك الثورات مجددًا، بالذات على ضوء رفض الناس للتقاليد السياسية التي كانت قائمة وتشكيها بها.


د. ياسمين ظاهر: حصلت على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة مونتريال كندا. درّست سابقًا في جامعة بير زيت- فلسطين وجامعة كونكورديا - كندا. تتناول رسالتها العلاقة ما بين الأخلاق والفعل السياسي التحرري، وارتباطهما بإمكانية العيش المشترك بمسؤولية وتضامن. مجالات اهتمامها وتخصصها: الفلسفة السياسية والاجتماعيّة، فلسفة القرن التاسع عشر والعشرين، وفلسفة الأخلاق.

التعليقات