05/09/2020 - 21:52

د. أباهر السقا: رغم التراجع.. القضيّة الفلسطينية لم تمت عربيًا

د. أباهر السّقا: نحن أمام انقلاب تاريخي في تمثلات الضحية والبطولة الفلسطينية في المخيال العربي | الفلسطينيون هم من بدأوا بتغييب البعد القومي والتطورات العربية الأخيرة شيعته | بعد ربع قرن: لا أحد يعتذر عن أوسلو ويعترف بالفشل ويخضع للمحاسبة

د. أباهر السقا: رغم التراجع.. القضيّة الفلسطينية لم تمت عربيًا

طفل فلسطيني يحتفل بثورة يناير عام 2011 (أ ب)

د. أباهر السّقا:

  • نحن أمام انقلاب تاريخي في تمثلات الضحية والبطولة الفلسطينية في المخيال العربي
  • الفلسطينيون هم من بدأوا بتغييب البعد القومي والتطورات العربية الأخيرة شيعته لمثواه الأخير
  • بعد ربع قرن: لا أحد يعتذر عن أوسلو ويعترف بالفشل ويخضع للمحاسبة
  • الناس فقدت الثقة بالسلطة والفصائل وهناك شعور بفقدان البوصلة الوطنية

في قراءته لانعكاسات الأحداث في الوطن العربي على القضية الفلسطينية، يقول أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بير زيت، د. أباهر السقا، إنّه منذ بداية عمليات تشكل اليقظة العربية وإعادة النهوض بالأمة العربية وإحياء القومية العربية في بداية القرن التاسع عشر، كانت فلسطين في قلب هذا التشكيل وشكّلت إحدى روافده الأصيلة والأصلية؛ حيث أدّى المشروع الاستعماري في المنطقة ووقوع فلسطين تحت تأثير استعمار مزدوج بريطاني (الانتداب) ومشروع استعماري صهيوني مرتبط بالأول؛ إلى تحوّل المشروع الاستعماري الصهيوني إلى مشروع مناقض لطموح الأمة العربية بالوحدة والاستقلال، واعتبار إسرائيل جسمًا غريبًا في المنطقة واستمرارًا للأنظمة الاستعمارية الغربية وامتدادًا لها.

السقّا
د. أباهر السقّا

ويضيف أن فلسطين شكّلت بشعبها وقضاياها قبلة العرب ومصدر إلهامهم ومكان تضحياتهم؛ وأضحت رافدة من روافد تشكل مشروعهم القومي المتمنى، وأضحت القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى؛ ومؤسّسة لتشكّل وعيهم بالدفاع عن فلسطين وشعبها كجزء من الدفاع عن الذات العربية؛ وكلبنة من لبنات تحقيق حلم الوحدة والخلاص.

ويشير في هذا السياق إلى انخراط العرب في قضايا فلسطين والدفاع عنها؛ بدءًا بدفاع المغاربة، سليلي هجرة الأمير عبد القادر الجزائري، عن القدس؛ مرورا بعز الدين القسام السوري وبآلاف المقاتلين العرب الذين قضوا ودفنوا على أرض فلسطين دفاعًا عنها وعن عروبتها، مشيرًا إلى أنّ ضحايا العرب من الصراع العربي- الصهيوني؛ عدديًا أكثر من الضحايا الفلسطينيين أنفسهم.

ويتوقف الباحث عند التحولات الأخيرة التي طرأت منذ انطلاقة الأحداث (الثورات العربية) حيث تبدى للفلسطينيين، كما يقول، أنّ ثمة انقلابا تاريخيا قد حدث، ألا وهو تراجع دور تمثّلات الضحية والبطولة والفداء، التي مثلها الفلسطينيون تاريخيا في المخيال العربي وأصبحت معاناة مجموعات من شعوب عربية مختلفة في اليمن وليبيا وسورية توازي حجم الظلم والقهر والمعاناة التي يتعرض لها الفلسطينيون وإن اختلفت السياقات وطبيعة الصراعات.

وقد أدّى ذلك، كما يقول، إلى تغييرات مسّت بمركزية القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب الأولى وإلى التهاء الشعوب العربية بقضاياها المحلية ومآسيها التي خلقتها الأحداث في الوطن العربي وتراجع حضورها.

وحول التراجع في أهمية القضية الفلسطينية وفقدانها موقع الصّدارة الذي كانت تحتله عربيا، وما يرافق وينتج عن ذلك من تراخي في الموقف العربي تجاه إسرائيل وصولا إلى التحالف وتطبيع بعض الدول العربية للعلاقات معها بشكل علني، كان هذا الحوار مع أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بير زيت، د. أباهر السّقا.

عرب 48: أشرت إلى تراجع مسّ مركزيّة القضية الفلسطينية في المنظور العربي باعتبارها قضية العرب الأولى، وهو ما أتاح المجال لبعض الدول العربية للالتفاف عليها وعقد تحالفات مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها بشكل علني، ما هي أهم أسباب هذا التراجع؟

السّقا: يعود تراجع مكانة القضية الفلسطينية في الوطن العربي إلى عدّة أسباب، أهمها التحولات العميقة التي طرأت على الدول العربية واندلاع الثورات والانتفاضات في المنطقة العربية بعد 2011، و بدء الالتفات للمحلي وإلى هموم المواطن العربي التي بدأت تحتل الأولوية، إضافة إلى نشوء ضحايا جدد في المنطقة غير الفلسطينيين، والحديث هو عن السوريين تحديدا.

بمعنى آخر، إنّ جزءًا كبيرًا من المجتمعات العربية بدأ يدخل في الدفاع عن المطلبي اليومي وتحقيق الحقوق والمطالب، التي يتركز جزء منها حول العمل والشغل كما في تونس، وجزء يتمحور حول الكرامة والحرية ومطالب أخرى لها علاقة بتحقيق ظروف حياة أفضل.

علم فلسطين في ميدان التحرير عام 2011 (أ ب)
علم فلسطين في ميدان التحرير عام 2011 (أ ب)

ضمن هذا التوجه الجديد الذي طرأ على المجتمعات العربية وضمن هذه المعضلة، تراجع حضور القضية الفلسطينية، خاصّة في ضوء إدارة الظهر الفلسطيني للجماهير العربية وغياب خطاب فلسطيني يحاكي المواطن العربي، وتركيز الرسمية الفلسطينية على مخاطبة الرأي العام الأوروبي.

فالتوجهات الجديدة للسلطة الفلسطينية وخطابها السياسي المذكور، قادت إلى نتيجة هي أن الفلسطينيين أصبحوا يقارعون وحدهم، باستثناء مجموعات شبابية عربية لا تزال تؤمن بأن القضية الفلسطينية هي قضية عربية ويجب أن تبقى تحتل مركز الصدارة.

بمعنى آخر، هناك اهتمام لا يزال فاعلا لدى مجموعات كبيرة من الشباب في المنطقة العربية وخاصة الشباب المناضل، ولكن هناك تراجعا فلسطينيا في الهيئات العامة وفي وسائل الإعلام، إضافة إلى تشويه تمثيل فلسطين أولا عبر الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي يلعب دورا أساسيا في إظهار انغماس الفلسطينيين في صراعات داخلية، عوضًا عن الانغماس في مصارعة عدوهم، وثانيا بسبب أزمات التمثيل السياسي المرتبطة بالسلطة الفلسطينية وبأدائها وبفشل حل الدولتين.

كل هذه الأسباب أدت إلى تراجع مكانة القضية الفلسطينية، ولكن تجب الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أنّ هذا التراجع لا يعني أنّ القضية الفلسطينية قد ماتت عربيا ولم تعد قضية قومية رغم التراجع العربي الرسمي.

عرب 48: ولكن الحقيقة أن التراجع لا يقتصر على المستوى الرسمي فقط.

السقا: صحيح، هناك تراجع في اهتمام المواطن العربي بالقضية الفلسطينية أو انزياح من اهتمام بالغ لكل المجتمعات العربية بالقضية الفلسطينية. وقد أكون قاسيا إذا قلت إنّ الفلسطينيين يتحملون جزءًا من مسؤولية ذلك، لأن هناك، كما أسلفت، فكرة أوسلو وما خلقه من تبعات جديدة، وفكرة دعوة العرب للحضور المناطق الفلسطينية تحت ذريعة أنّ زيارة السجن لا تعني التطبيع مع السجان، كلها أعطت ذرائع لمن كان يرغب في التطبيع بالادعاء أنّ أصحاب القضية أنفسهم يقومون بالتطبيع، فلماذا لا نطبّع نحن أيضا.

عرب 48: أنت تقول بعد أن غَيّبنا، نحن، البعد القومي عن خطابنا، فلماذا نلوم العرب؟

السقا: نعم، تغييب البعد القومي بدأ منذ السبعينيات بالخطاب الذي قاده الراحل ياسر عرفات، بمعنى أنّ الفلسلطينيين رأس الحربة والفلسطينيين هم من يقرر في قضيتهم، وتُوّجَ برفع شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل. وهذا كلّه أدّى إلى عزوف مجموعات من الرسميين العرب عن دعم القضية الفلسطينية.

للتأكيد، فإنّ الأنظمة العربية استخدمت بالمقابل القضية الفلسطينية كورقة لقمع الحريات، والادعاء بأن منح الحريات والديمقراطية في المنطقة العربية قد يكون على حساب انشغال المجتمعات العربية بقضية العرب الأولى، قضية فلسطين.

عرب 48: لأجل أن نكون منصفين مع هذه الأنظمة، يجب الإشارة إلى أنّها فشلت في مجمل القضايا التي طرحتها وليست قضية فلسطين فقط، فقد فشلت في الوحدة، والتنمية الاقتصادية، وغيرها أيضًا، ويقال لصالحها إنّها طرحت قضية فلسطين ضمن مشروع التحرر العربي؟

السقا: صحيح، لقد أُفرغَت الدولة من كل عناصر المشروع "القومي" إذا شئنا وبقيت مؤسسات هشة، أو بقيت الدولة بجسمها القمعي الطارد لأي مشاركة اجتماعية، وهذا أدى إلى هشاشة في علاقة الناس بالدولة والانتماء لها، وقاد، في النهاية، إلى انشغال الناس باليومي وبالقضايا الحيوية.

عرب 48: السؤال هو إلى أيّ مدى ارتبطت، في ذهنية الناس، قضية فلسطين بهذه الأنظمة، وهل كان ذلك سببا لابتعادها عن القضية الفلسطينية؟

السقا: هذا ينطبق على الأنظمة العربية التي استخدمت القضية الفلسطينية كذريعة. البعض نفر من هذه القضية التي استخدمتها تلك الأنظمة كقميص عثمان، والبعض الآخر ملّ من الشعارات، ويعتقدون أنّ أصحاب القضية قد قصّروا بحق أنفسهم وبالتالي يجب أن ننشغل بقضايانا الأخرى.

عرب 48: ولكن نحن نعرف أن من انسحبوا في السابق من هذه القضية، بذريعة أنّها تثقل على اقتصاد بلدانهم وبادّعاء التفرغ لقضايا مواطنيهم مثل الرئيس المصري أنور السادات كان فشلهم أكثر سوءا؟

السقا: صحيح، مرة أخرى الأنظمة العربية استعملت القضية الفلسطينية كذريعة لفشل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وادّعت أنّ انخراطها في الحروب مع إسرائيل هو الذي يحول دون تنمية اقتصادياتها، وهو ادعاء انكشف زيفه في أعقاب سياسة الانفتاح التي قادها السادات عقب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل.

وتكشّف أيضا في سورية، وفي أنظمة عربية أخرى استخدمت أيضا القضية الفلسطينية مصدرًا للحصول على شرعية، لأن قضية فلسطين هي قضية العرب وورقتها هي الورقة الرّابحة. وبالتالي، فإنّ من يرفعها يحصل على مشروعية ثورية وسياسية تغطي على الفشل في السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية.

عرب 48: تقصد أنّ القضية الفلسطينية استُخدِمَت للتّبرير من قبل التيار الاستسلامي الذي أراد الهروب من المواجهة ومن قبل التيار الذي ما يزال في ساحة المواجهة، إنْ صحّ التعبير؟

السقا: تماما، في كثير من الأحيان نرى أنّ أنظمة عربية زاوَدَت على الفلسطينيين أنفسهم، حين قالت إنّ ما أقوم به هو لأجلكم ومن أجل حمايتكم، وقالت ذلك لجمهورها أيضا، وهي في الحقيقة نفس الورقة التي استخدمتها أدوات الإعلام الإماراتي مؤخرا، التي ادّعت أنّ اتفاق التطبيع مرتبط بوقف الضم، وأظهرت الأخيرة وكأنها تلعب دورا أساسيا في لجم سياسة نتنياهو المتعلقة بالضم.

الإمارات تلعب دورًا أكبر من حجمها (أ ب)
الإمارات تلعب دورًا أكبر من حجمها (أ ب)

عرب 48: نحن نعرف أنّ الإمارات تقع خارج دائرة الصراع مع إسرائيل، فهي ليست مصر أو سورية اللّتين خاضتا حروبا مع إسرائيل، ولا حتى العراق أو الجزائر الواقعتين في الدائرة الثانية كظهير إستراتيجي. وبهذا المعنى، فإنّها لم تكن في حالة حرب مع إسرائيل لتوقع على اتفاقية سلام لوقفها وليست في حالة عداء أيضا.

السقا: هذا صحيح، مع ملاحظة هامة هي أنّ الإمارات تحولت مؤخرًا إلى لاعب إستراتيجي في المنطقة، بسبب الإمكانيات التي تمتلكها، فهناك دور أكبر من حجمها تلعبه بسبب هذه الطفرة الهائلة من الأموال المرتبطة بالخدمات والبورصة ودبي وكل ذلك.

عرب 48: وقد يكون بسبب غياب دول مركزية كانت تحتل هذه الأدوار مثل مصر والعراق وسورية وغيرها من الدول العربية، ربما هي "من قلة الخيل.."، كما يقول المثل العربي؟

السقا: صحيح، ولكن هل يعقل أنّ بلدًا عدد سكانه يوازي عدد سكان أحد أحياء القاهرة، يقرّر سياسات ويملي سياسات على دول أخرى، هذا مرتبط بالتأكيد بالتغيرات الحاصلة وعلاقتها بالتحالفات الجديدة في المنطقة وكلها تقود إلى عواقب وخيمة تتمثل بتغلغل إسرائيل في منطقة الخليج.

عرب 48: ربّما هي ساعة غروب الدور العربي، إلى جانب طغيان دور القوى الإقليمية غير العربية مثل إيران وتركيا وإسرائيل طبعا؟

السقا: صحيح، جزء كبير من المعضلة التي نعيشها اليوم هو هذا الاستقطاب بين المخيال الرسمي العربي بأن الصراع هو بين الفرس والعرب من جديد، وبعض التيارات الوهابية التي ترى أنّ الصراع هو سني شيعي ويدور حول نفوذ إيران في المنطقة.

هذا في الحقيقة ما تعوّل عليه إسرائيل، التي تحاول إقناع الأنظمة العربية الرسمية، عبر أميركا وعبر وسطائها المختلفين بأن تحالفنا مع بعض هو من أجلكم ومن أجل لجم النفوذ الفارسي الذي يهددنا ويهددكم. وبالتالي، فإنّ لدينا ما نصنعه سويّة لأن هناك عدوا مشتركا.

وأعتقد أنّ هذا الترويج الإسرائيلي يلعب دورا في تأجيج مجموعة كبيرة من الناس في المنطقة العربية ضد إيران، باعتبارها العدو الأول في المنطقة وليس إسرائيل، وبالتالي هناك مشروعية للتحالف مع إسرائيل ضدها.

عرب 48: في ظل هذا الوضع الإقليمي الذي تجري رياحه في غير ما تشتهي سفننا، هناك وضع فلسطيني يفتقد القدرة على التأثير، لأنّه عاجز ومنقسم على نفسه أيضا.

السقا: في الحقيقة تعبير "أزمة" في توصيف الوضع الفلسطيني، قد يكون غير منصف لأننا نعيش حالة غير مسبوقة من التشتت والتشرذم، وهذا يعود لعدة أسباب منها ما هو موضوعي خارج عن إرادتنا، مثل انشغال العالم العربي بقضاياه كما ذكرنا وانحياز العالم المهيمن لإسرائيل، وأسباب ذاتية مرتبطة بفشل سياسة المفاوضات العبثية التي قادتها الرسمية الفلسطينية خلال أكثر من 26 عاما. والمفارقة أنّه بعد ربع قرن لم تعتذر الرسمية الفلسطينية عن أوسلو ولم تعترف بالفشل السياسي.

يضاف إلى ذلك تغيّر سياسات السلطة والخطاب السياسي الفلسطيني مع غياب عرفات وسطوع نجم سلام فياض وسياسات الخصخصة والسياسات الليبرالية، التي أدت إلى ظهور واقع جديد في مناطق السلطة، تبع ذلك الانقسام الفلسطيني. أي أنّ مجموعة من التغيرات والضربات أدت إلى العزوف عن السياسة بالمعنى الحزبي وتراجع مكانة الفصائل.

فصائلُ قدرتها على الـتأثير محدودة تمامًا، وتقاسِم إدارة الانقسام بين فتح وحماس، وهذا أدى إلى عزوف الشباب عن المشاركة السياسية والدخول في تخايل جديد عن معيارية جديدة مرتبطة بالحياة الإقراضية والاعتيادية، العيش تحت نمط مرتبط بالانسحاب من الحياة السياسية والتفكير بالذات، عوضًا عمّا كان يعيشه المجتمع الفلسطيني بآليات الخلاص الجمعي، أصبح التفكير لدى مجموعات كبيرة من الشباب بآليات الخلاص الفردي، بمعنى الحصول على وظيفة، والزواج، والحصول على شقة بقرض... إلخ.

وهذا يؤدي بالطبع إلى الانغماس في الخيارات الفردية عوضا عن الانغماس في القضايا الجمعية. والسبب في ذلك هو أولًا الانقسام وعدم وجود بوصلة، حيث يشعر جزء كبير من الفلسطينيين بأنهم فقدوا البوصلة، وأنه لا توجد إستراتيجية وطنية ولا توجد رؤية تدار بموجبها الأمور.

عرب 48: خطاب السلطة نقل الفلسطينيين من التحرر الوطني إلى مرحلة "بناء الدولة"، وهم في الحقيقة "شمّروا قبل أن يصلوا الماء" واختلفوا على سلطة دولة غير موجودة.

السقا: في الحقيقة هناك فجوة تفصل المجتمع الفلسطيني عن خطاب السلطة، أعتقد أن جزءًا كبيرًا من الخطاب الرسمي الفلسطيني لا يلقى أي ترحيب في الشارع، وجاءت جائحة كورونا لتزيد الطين بلة وتضيف فشل على فشل.

عرب 48: ولكن، لكي نكون منصفين، فإنّ الوضع لدى سلطة حماس في غزة ليس أفضل بكثير.

السّقا: بالتأكيد حماس جزء من الانقسام ومن انعدام الرؤية، نظام المحاصصة وتكميم الأفواه الذي يُمارس في غزة، إضافة إلى الصعوبات اليومية والحياتية للناس في القطاع يجعل حماس جزءًا من الأزمة، وليست محايدة.

هي (أي حماس – المحرّر) تتحمّل قسطا من المسؤولية، وإن أردت، نحن جميعًا كفلسطينيين، حتى من هم خارج دائرة القرار السياسي، نتحمل مسؤوليّة عما يحدث، لأن الانسحاب إلى عوالمنا وترك السياسة لهؤلاء، أيضًا، لا يعفينا من مسؤوليتنا.

عرب 48: السؤال التقليدي الذي يُسأل في النهاية، ما العمل ونحن نعرف أنّ اجتماع الأمناء العامين للفصائل هو مؤشر قد يكون أكثر إيجابية من المجهودات الأخرى التي ذهبت جميها أدراج الرياح؟

السقا: النّاس فقدت الثقة، ولذلك نلاحظ من نظرة سريعة على العالم الافتراضي أنّ الغالبية تتهكم ولا تبني أملًا على الاجتماع المذكور، لأن عشرات الاجتماعات وعشرات الاتفاقات السابقة في القاهرة ومكة والدوحة وغزة وغيرها لم تفضِ إلى إنهاء الانقسام والمحاصصة في الانقسام.

أمّا المطلوب فهو إعادة الاعتبار للتّفكير الجمعي لمشاركة الناس وحقها في إبداء رأيها، وهذا يتطلب تقديم رؤية نقدية لكل المشروع الوطني الفلسطيني والمحاسبة، فلا يعقل أنّه بعد 26 عامًا لا أحد يتحمل نتيجة الأخطاء، يجب إعادة النظر في المشروع (أوسلو) وكيف نخرج منه، لأنّ البقاء في مربع الاتهامات لا يجدي نفعا، والحل برأي هو بتبني إستراتيجيّة مقبولة على الجميع تتسع لكل فواعل المجتمع الفلسطيني السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

عرب 48: تقصد على شاكلة الاقتراحات المتداولة كانتخاب مجلس وطني جديد من كل تجمعات الشعب الفلسطيني؟

السقا: في جزء منها، وجزء آخر له علاقة بالخروج من بين المطرقة والسندان، فلا يعقل أن يبقى المجتمع الفلسطيني رهينة صراع حزبين سياسيين، ولا يعقل أن يستمر المواطنون في الضفة وغزة بدفع ثمن صراع حزبين على سلطة فارغة، وأن تبقى إسرائيل مستفيدة وتعزّز كل أدوات الانقسام.

يجب أن نخرج من هذه الأزمة في أسرع وقت من خلال انتزاع زمام المبادرة وإعادة الاعتبار للمجتمع وتعزيز مشاركته في القرار السياسي. علما أنّنا نتمنى أن يخرج اجتماع الفصائل بقرارات جيّدة نحو تجسير الهوة بين الفصائل وتبني خطاب تصالحي. لكن، مع الأسف، المؤشرات لا تبشر بخير.


د. أباهر السقا: أستاذ مشارك، دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، حامل لشهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة نانت في فرنسا. خرّيج المدرسة العليا لإدارة التنظيمات الاجتماعية – سانت تيتيان في فرنسا. عمل محاضرا في جامعة نانت بين 1998-2006، وأستاذا زائرا في العديد من الجامعات الفرنسية والبلجيكية بين 2009-2020، وزميلا باحثا في المعهد الفرنسي لدراسات التنمية وعضو مركز نانت للدّراسات السوسيولوجيّة؛ وباحثا مشاركا في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى. له العديد من الدّراسات والمقالات العلميّة في مجالات التعبيرات الاجتماعية الفنية، الحركات الاجتماعية، الهوية، الذاكرة، الوطنيات، الدراسات الحضرية، السياسات الاجتماعية، العلوم الاجتماعية وتأريخها. يعمل حاليا على كتابة التاريخ الاجتماعي لمدينة غزة، صدر له كتاب عام مؤسسة الدراسات عام 2018 كباكورة لسلسة أعمال عن التاريخ الاجتماعي لمدينة غزة عبر تتبع زمني، وكذلك عن تبدلات أشكال التعبيرات الفنية في المجتمع الفلسطيني.

التعليقات