حذر الباحث في العلوم السياسية د. علي الجرباوي من أخطار مرحلة ما بعد الحرب على غزة، التي تشي باندثار المشروع الوطني الفلسطيني، وذلك في ظل تكالب مجموعة من العوامل الخارجية السلبية وفقدان الفلسطينيين لأي مصدر إسناد خارجي فاعل، وانكشافهم أمام تحدي إمكان فرض تسوية "حدّ أدنى" عليهم، تؤدي إلى تصفية قضيتهم.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
في مقال بعنوان "الفلسطينيون أمام مفترق طرق" نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية، أشار د. الجرباوي إلى ما يواجهه الفلسطينيون حاليا من واقع غاية في التعقيد والصعوبة، يفرض عليهم تحديا استثنائيا يفوق بأهميته ما خبروه في السابق من تحديات خلال تاريخ مقارعتهم الطويلة لانتداب بريطاني واحتلال إسرائيلي كولونيالي إحلالي، لافتا إلى أن الفلسطينيين يواجهون اليوم إسرائيل مختلفة تماما عمّا خبروه في السابق بعد أن تمكّن أقصى اليمين من أتباع الصهيونية الدينية ذات العقيدة التوراتية المتمحورة حول ضرورة تحقيق نبوءة "إسرائيل الكبرى"، ولم يعد الثقل السياسي في إسرائيل يمينيا فحسب، بل باتت تتأصل فيه النزعة المتزمتة، والمتطرفة، والمستشرسة تجاه الفلسطينيين.
على الصعيد الإقليمي نشهد، كما يقول الكاتب، تراجعا في وضعية الحاضنة التقليدية التي كانت تتمتع بها القضية الفلسطينية سابقا في الأوساط الرسمية العربية، إذ أدت الصراعات المتلاحقة التي مُني بها العالم العربي، ليس فقط إلى انكفاء الدولة القطرية على ذاتها، سعيا للمحافظة على الوجود وتحقيق المصالح الخاصة، بل أيضا إلى شرذمة التضامن العربي الجماعي، وفقدان المنظومة العربية مكانتها وقدرتها التأثيرية في الإقليم لمصلحة القوى غير العربية: إيران وتركيا وإسرائيل.
كما أن تدخلات إسرائيل في الإقليم في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" أدت، كما أشار، إلى جانب زعزعة قوة حركة "حماس" السلطوية وإنهاك قدراتها العسكرية، إلى تفكيك محور المقاومة الذي كانت الحركة تعوّل عليه في إسناد وجودها ومواجهتها مع إسرائيل، ومع تغير موازين القوى الإقليمية نتيجة ذلك، بات أمر تشكيل وضع جديد بالمنطقة أيسر وإغلاق ملف القضية الفلسطينية ضروريا، من باب إزالة "عائق مزمن" من أمام إعادة هذا التشكيل.
أمّا عودة ترامب إلى الرئاسة في أميركا فإنها، برأي الكاتب، التغير الأهم على الصعيد الدولي حاليا، وسيكون لها أثر بعيد المدى في ما يتعلق بإعادة تشكيل المنطقة، وإغلاق ملف القضية الفلسطينية بصورة نهائية.
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" د. علي الجرباوي لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع.
"عرب 48": حذرت مما أسميته تلاشي المشروع الوطني الفلسطيني في ضوء تضافر عوامل دولية وإقليمية وإسرائيلية تكالبت على الفلسطينيين، وفي ظل فقر المناعة الوطنية الناتجة عن التكلس والانقسام، إلى أي مدى تصل هذه المخاطر؟

د. الجرباوي: هناك مخاطر جدية جدا تطال وجود المشروع الوطني الفلسطيني ومستقبله إزاء ما يتعرض له الواقع الفلسطيني والقضية الفلسطينية، في ظل تكالب عوامل ثلاثة أساسية، هي العامل الدولي الذي يمثله مجيء ترامب إلى الحكم في أميركا وما رافقه من تداعيات، والعامل الإقليمي المتمثل أساسا بالعالم العربي وانخفاض دعمه للفلسطينيين إلى أدنى مستوى، وإسرائيل والتغيرات الداخلية الحاصلة فيها والتي تعاظمت بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
هذه العوامل الثلاثة الخارجية تترافق مع عامل داخلي هو العامل الذاتي الفلسطيني الفاقد للمناعة الذاتية التي تجعله قادرا على مواجهة هذه العوامل الخارجية المؤثرة فيه، وإذا ما جمعنا العوامل الخارجية مع العامل الذاتي الفلسطيني نجد حالة شديدة الخطورة على المستقبل الفلسطيني.
"عرب 48": الخطر الذي تتحدث عنه على بقاء المشروع الوطني يمس الكينونة الفلسطينية التي تشكلت عبر كفاح حركة التحرر الوطني الفلسطيني طيلة عشرات السنين، والتي وإن لم تستطع تحرير الأرض وبناء الدولة فإن إنجازها الكبير الوحيد هو بناء الكيانية الفلسطينية؟
د. الجرباوي: صحيح، نحن لم نستطع أن نوصل هذه الكينونة من خلال عملية أوسلو إلى نهاياتها التي كانت مأمولة وهي إقامة الدولة، وباعتقادي إن استمرار الحديث بعد 30 سنة على أوسلو عن حل الدولتين فيه ذر رماد في العيون، لأنه من الواضح أن حل الدولتين الذي كان يعني بالمفهوم الفلسطيني التقليدي تقسيم فلسطين إلى دولتين وحصولنا على الدولة الصغيرة البالغة 20% من مساحتها، هذا الحل أصبح يعني اليوم بنتيجة الوقائع المستمرة على الأرض تقسيم الضفة الغربية وليس تقسيم فلسطين.
من هنا فإن استمرار الحديث عن حل الدولتين فيه مغالطة على الذات، ونحن بمعنى أو آخر نضحك على أنفسنا، لأن أقصى ما يمكن أن يعطيه حل الدولتين اليوم، إذا ما أعطى، وخصوصا بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 هو "دولة بقايا"، ودولة البقايا هذه لن تكون كاملة السيادة بل منقوصة السيادة ومركزها سيكون باعتقادي في قطاع غزة يلحق بها بقايا الضفة الغربية في أحسن الأحوال، لذلك فإن المطلوب أن نراجع أنفسنا وأن لا نبقى متشبثين بشعارات تفقد معناها ورصيدها على الأرض يوما بعد يوم.
"عرب 48": ربما تقصد بقايا قطاع غزة أيضا الذي يسعون إلى اقتطاع ما يتيسر لهم اقتطاعه منه أيضا؟
د. الجرباوي: من الواضح أن نتنياهو وحكومته استخدم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 كذريعة لتحقيق غايات كانت في واقع الأمر قد أصبحت أحلاما بالنسبة للحركة الصهيونية، وكما هو معلوم فقد جرت محاولات لإفراغ قطاع غزة من سكانه الفلسطينيين وخاصة اللاجئين في 52 و56 و67 وتوطينهم في سيناء أو الضفة الغربية أو دول عربية أخرى لكنها منيت بالفشل.
كانوا يريدون تفكيك قضية اللاجئين ولم ينجحوا وانتهى الموضوع وأصبح كأنه غير قابل للتحقيق، فجاءت هذه الحرب التي أعادت الآمال للحركة الصهيونية بقيادة حكومة نتنياهو اليمينية حول إمكانية تحقيق ذلك، وخصوصا بعد أن أعطى ترامب الشرعية والغطاء لهذا التوجه وأحيا أفكار التهجير والطرد.
"عرب 48": الأمر لا يقتصر على قطاع غزة فعمليات تفكيك قضية اللاجئين تجري على قدم وساق من خلال تهجير مخيمات شمال الضفة وإفراغها من سكانها؟
د. الجرباوي: صحيح، وما يجري أيضا من تفكيك للأونروا وملاحقتها، لأن بقاء قضية اللاجئين حية هي هاجس مزعج للحركة الصهيونية، سعت دائما إلى التخلص منه وهي تعتقد أن فرصتها قد لاحت لإنجاز ما عجزت عن تحقيقه سابقا في هذه القضية وقضايا أخرى مرتبطة بالقضية الفلسطينية وهي تهدف بالمحصلة إلى تدمير المشروع الوطني الفلسطيني.
"عرب 48": في سؤال ما العمل اقترحت سبل مواجهة؟
د. الجرباوي: بقراءة تاريخية نلاحظ أن النظام السياسي الفلسطيني قد تكلس منذ فترة طويلة ونتيجة لتكلسه حصل الانقسام، وليس العكس، بمعنى أن التكلس هو الذي أدى إلى الانقسام وليس الانقسام هو ما أدى إلى التكلس.
"عرب 48": تقصد أن الانقسام هو نتيجة وليس سببا؟
د. الجرباوي: صحيح، هذا النظام الذي كان من المفترض أن يكون فعالا فقد فاعليته وتكلس وأصبح غير قادر على مواجهة التحديات المختلفة، وصار همه الأساس بعد الانقسام، في الجهتين الضفة وغزة هو المحافظة على بقائه واستمراريته وليس على إنجاز مهامه والقيام بوظائفه.
بمعنى أن كل طرف إن كان "حماس" في غزة أو "فتح" في الضفة صار همه الحفاظ على سلطته السياسية، الحفاظ على من هم في السلطة في السلطة، ونحن نعرف أنه كان العديد من التحذيرات من قبل الكثيرين خلال السنوات الماضية، بأن الوضع يتفاقم بشكل لن نستطيع معه لا مواجهة التحديات التي تتربص لنا ولا القيام بالوظائف التي يفترض أن يقوم بها النظام السياسي.
"عرب 48": باختلاف أساليب النضال المختلف عليها بين الفريقين، من الصعب تحقيق الأهداف من دون الوحدة الوطنية؟
د. الجرباوي: إذا لاحظت فإن الفريقين لم يعودا مختلفين حول الهدف، لأن الطرفين يقولان بإقامة دولة فلسطينية تعني ضمنا حدود الضفة والقطاع، والاختلاف صار حول الأسلوب وليس حول الهدف.
"عرب 48": تقصد أنه ليس الاختلاف الذي ساد في السبعينيات والثمانينيات وحتى بداية التسعينيات بين من أراد فلسطين من البحر إلى النهر وتصدرته الجبهة الشعبية وفصائل اليسار ولاحقا حماس والجهاد الإسلامي؟
د. الجرباوي: الخلاف لم يعد على الغاية بل على الوسيلة بينما تناسى الطرفان أنه حتى الهدف الذي تحاول الوسيلتان تحقيقه، لم يعد بالإمكان تحقيقه بأي من الوسيلتين.
"عرب 48": تقصد أنه طالما بقي الانقسام لا يمكن تحقيق الهدف، أم أن الاختلاف على الوسيلة قد ضيع الهدف؟
د. الجرباوي: الهدف لن يتحقق حتى لو جمعنا الوسيلتين معا، فنحن يجب أن ننتبه للواقع الفلسطيني ولأهدافنا ولماهية هذا الصراع، هل هناك تكافؤ في ميزان القوى؟ وهل هناك إمكانية لتغير ميزان القوى ذاك لصالحنا في المدى القريب؟ ولطالما الإسناد الخارجي لم يعد موجودا أو ضعف بشكل هائل مع انهيار الكتلة الشرقية في الـ89-91 ومع ضمور دعم العالم العربي بسبب تحولات داخلية وخارجية، كل هذا يفيد بأن ميزان القوى لن يتغير قريبا.
كما أن هناك حالة استهداف من قبل عدو يتجه نحو اليمين المتطرف ويسعى إلى اقتلاعنا من جذورنا، في حين أن الهدف الذي نقول إنه من الممكن أن يتحقق "حل الدولتين" لا يتحقق بعد 30 سنة على أوسلو، والعام بأكمله لا يريد حل الصراع بل يريد إدارته، وإدارة الصراع كانت دائما تتطلب رفع شعار حل الدولتين لكي يبقى لدينا أمل بأننا سنصل إلى دولة.
"عرب 48": بمعنى أن حل الدولتين أصبح شعارا مضللا وواجهة يتم تحتها إدارة الصراع؟
د. الجرباوي: بالضبط، هي وسيلة لإدارة الصراع لذلك علينا الكف عن استمرار الاختلاف على الوسائل، "مفاوضات" أو "مقاومة مسلحة" والتركيز على الهدف وتحديد ما نريد في هذه المرحلة، ومن وجهة نظري أعتقد أننا أمام صراع سيستمر لفترة طويلة من الزمن، وأنه إذا انتهى الآن سينتهي بـ"دولة بقايا" منزوعة ومنقوصة السيادة، لأن أفضل ما يمكن الحصول عليه في ظل التوازن القائم هو الحل المقلص الذي كان قد طرحه ترامب خلال ولايته الأولى في إطار "صفقة القرن"، هذا إن لم يكن قد أطيح به أيضا.
عليه وفي ضوء إدراكنا أن الصراع طويل المدى علينا أن نمحور الهدف المركزي الفلسطيني حول بقائنا في وطننا وتعزيز صمودنا فيه.
"عرب 48": تحدثت في المقال عن خياري القبول بالدولة المنقوصة أو حل الدولة الواحدة؟
د. الجرباوي: ما أؤمن به أن القوى السياسية في الضفة وغزة، لأن الطرفين قابلين بالدولة الفلسطينية ويتحدثون به، إذا كانوا راضين بحل الدولتين عليهم مصارحة الشعب الفلسطيني بأن حل الدولتين سيؤدي إلى دولة منقوصة بالمساحة الجغرافية وبالسيادة.
عليهم مصارحة الناس كي لا يبقوا على أمل بأننا سنقيم دولة على حدود 67 وعاصمتها القدس الشريف أو القدس الشرقية، يجب أن يصارحوهم بأننا نريد أن نحصل ما نستطيع تحصيله وأنهم إذا كانوا مع حل الدولتين فهذا ما سيحصلون عليه في حل الدولتين.
"عرب 48": وإلا سنعود إلى نقطة البداية الذي هو حل الدولة الواحدة؟
د. الجرباوي: وإلا علينا أن ندرك أننا إزاء صراع مديد، وفي هذا السياق ليس لدي أفكار أو سيناريوهات للحل، بل أعتقد أنه يجب أن نثبت وجودنا على هذه الأرض، بمعنى أن على الكيانية الفلسطينية القائمة عليها عوضا عن الانشغال في المفاوضات أو المقاومة المسلحة، أن تنشغل بكيفية تثبيت الناس على أرضهم وتقديم الخدمات لهم لتعزيز وجودهم وبقائهم على هذه الأرض، لأن حسم الصراع لن يتم الآن ولا خلال العقد أو العقدين القادمين.
التعليقات