ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية (الحلقة 6 )/د.مصطفى كبها

-

ثورة 1936 -1939 والذاكرة الشعبية الفلسطينية  (الحلقة 6 )/د.مصطفى كبها
بانتهاء حركة الشيخ عز الدين القسّام العسكرية، لم تنته تداعياتها السياسية والاجتماعية والشعبية. على الصعيد السياسي قدمت الأحزاب الفلسطينية الموجودة على الساحة السياسية آنذاك ( باستثناء حزب الاستقلال الذي كان نشاطه حينها مجمداً ) مذكرة للمندوب السامي البريطاني طالبته فيها النظر بالمطالب العربية التي كان أبرزها إيقاف الهجرة اليهودية ومنع بيع أراضي عربية للوكالة اليهودية، وكذلك العمل على إقامة دولة دمقراطية كما هو منصوص عليه في القانون الأساسي لعصبة الأمم.

أما على الصعيد الاجتماعي- الشعبي فقد أثرت الحادثة كثيراً في تأجيج مشاعر الشباب وتهيئة نفوسهم للثورة ضد البريطانيين، وذلك لما اظهروه، حسبما رأى مصممو الرأي العام الفلسطيني آنذاك، من انحياز للجانب اليهودي في الصراع.

ولما لم تلق الخطوات التي اتخذتها الأحزاب الفلسطينية اهتماماً كبيراً من الجانب البريطاني، وقد ازداد الأمر تعقيداً بعد تولي وزير المستعمرات الجديد ، مالكولم ماكدونالد المعيّن خلفاً لكانليف ليستر في الأول من كانون الثاني 1936، الذي اقترح انشاء مجلس تشريعي يكون عدد أعضائه مناصفة بين العرب واليهود ( كانت النسبة بين المجموعتين السكانيتين آنذاك 2 :1 لصالح العرب ). وعندما أظهر العرب معارضتهم الشديدة للاقتراح أراد المندوب السامي آرثر واكهوب امتصاص المعارضة العربية للاقتراح من خلال عرضه تشكيل وفد لممثلي الأحزاب العربية يقوم بإسماع رأيه أمام البرلمان البريطاني.

وفي هذه المرة أيضاً، أظهرت المنظومة السياسية الفلسطينية التقليدية عجزها بحيث اصبح موضوع النقاش هوية المسافرين وامكانيات تمويل سفرهم وليس موضوع المجلس التشريعي ذاته.

وفي النهاية تم امتصاص الأمر ولم يسافر الوفد ولم تتقدم الأمور قيد شعرة وقبل السياسيون هذا الأمر واعتقدوا أن حالة الفوران قد انتهت وأن الأمور ستتعود إلى نصابها الأول، لكن أتباع القسّام لم يعتقدوا ذلك بل كانوا مصممين على إثارة الأمور مجدداً ودفع مشاعر الشباب إلى الغليان. وقد ساعدهم في ذلك بعض أعضاء حزب الاستقلال المجمّد نشاطه أمثال أكرم زعيتر وصبحي الخضرا الذين عملوا في هذه الفترة (خاصة أكرم زعيتر) على إثارة الرأي العام ضد الاداء التقليدي للزعامة المقدسيّة.

إنتظم أعضاء جماعة القسّام تحت زعامة نائبه الشيخ فرحان السعدي واطلقوا على أنفسهم اسم "إخوان القسّام"، وقد بادروا في آذار 1936 إلى مغادرة قراهم والتجمع في المنطقة الجبلية الواقعة بين نابلس وطولكرم، وهناك قاموا بالتدريبات والتجهيزات اللازمة لبداية الثورة.

قام السعدي بلقاء المخاتير ورؤساء العائلات في المنطقة وقام عن طريقهم بتجنيد الشباب وتوفير المساعدات اللوجستية للثوار إضافة لتوفير المخابئ والمخازن والعتاد.

عن بداية تنظيم الثورة في هذه المنطقة حدثني الحاج بشير الإبراهيم، القاضي والثائر في ثورة 1936 -1939 من قرية زيتا -قضاء طولكرم، في مقابلة أجريتها معه في الثامن من حزيران عام 1999 حيث قال:" كان الفصيل الأول من ابناء المنطقة، والذي تشكل بعد مجيء الشيخ فرحان السعدي إليها، مكوناً من عشرة أشخاص؛ خمسة من قرى الشعراوية ( المنطقة الممتدة من ميسرة في الشمال وحتى طولكرم مروراً بباقة الغربية وجت والنزلات وباقة الشرقية وعلار ودير الغصون وعتيل والجاروشية ودير العشاير وشويكة وبلعا، م.ك) وهم صبحي الحاج محمود من زيتا، سيف الدين العموص من عتيل، عبد اللطيف الحسن من علاّر أحمد أبو زيتون من الدير ومحمود دحيلية من شويكة، وخمسة من منطقة الصعابنة ( منطقة القرى جنوب طولكرم وهي تضم قرى إرتاح وفرعون والطيبة والطيرة وقلنسوة، إضافة إلى قرى الكفريّات وهي قرى كفر صور ، كفر زيباد وكفر الجمال، م.ك ) وهم عبد الرحمن الحطاب وكامل الحطاب من كفر صور، ابراهيم العمري من إرتاح وإثنان آخران لا أذكرهما.

وقد تم اختيار هؤلاء العشرة في اجتماع لنشطاء وطنيين عقد في طولكرم. كان هذا الفصيل يقوم بمراقبة تحركات الانجليز في منطقة طولكرم كما قام بمهاجمة بعض المرافق الإقتصادية للمستوطنات اليهودية في المنطقة خاصة المزارع والبيارات.

وفي أول نيسان 1936 اتخذ قرار بمهاجمة السيارات الانجليزية واليهودية السائرة على الطرق الرئيسية ".

كان العملية الأولى التي قام بها أخوان القسام بقيادة الشيخ فرحان السعدي هي تلك التي جرت في ليلة الخامس عشر من نيسان 1936 بالقرب من نور شمس، على بعد أربعة كيلومترات شرقي طولكرم، حين أغلقوا الطريق الرئيسي آنذاك الذي ربط حيفا بيافا (حيث لم يشق بعد طريق الساحل المعروف اليوم ). حيث أقام المهاجمون حاجزاً من الحجارة على الطريق العام وكمنوا حوله ثم هاجموا سيارة يهودية كانت محملة بالدجاج كانت قادمة من حيفا في طريقها إلى تل أبيب.

نجم عن الهجوم مقتل إثنين من ركاب السيارة ( سائق المركبة وتاجر الدجاج صاحب البضاعة ). وتنسب معظم المصادر التي سردت الحدث هذه العملية إلى جماعة "إخوان القسّام " في حين يشذ عن ذلك المؤرخ محمد عزت دروزة الذي يقول في كتابه "حول الحركة العربية الحديثة" (ج3، ص 117 ) إنه ليس ثمة علاقة لاخوان القسام بذلك العمل.

ردّت منظمة "الهاجناه" اليهودية على هذا العمل بقتل عاملين عربيين في مستوطنة يرقونا قرب بيتح تكفا ( أحدهما من قرية صباّرين في منطقة الروحة والثاني عامل مصري كان ينام عنده ) تحولت جنازة الشابين إلى مظاهرة عنيفة أسمعت فيها نداءات كثيرة للانتقام، ولم تمض إلا ثلاثة أيام حتى قامت مجموعة غاضبة من عمال المواسم العرب في يافا بمهاجمة جماعة من اليهود في منطقة المنشية وسوق الكرمل وقامت بقتل تسعة أشخاص وجرح عشرة منهم.

أقام هذا الحدث البلاد وأقعدها خاصةفي المناطق الحدودية بين يافا وتل أبيب حيث تبادلت الأحياء العربية واليهودية المتجاورة إطلاق النيران مما حذا بالسلطات البريطانية إلى إعلان حظر التجول فيهما مساء يوم التاسع عشر من نيسان 1936.

عند وصول أنباء ما حدث في يافا إلى باقي أرجاء البلاد، نظمت اجتماعات ومظاهرات شعبية عارمة في نابلس والقدس وطولكرم أعلن على أثرها عن تأسيس اللجان الشعبية التي أعلنت بدورها الاضراب العام والعصيان المدني في جميع ارجاء البلاد وفي كافة مرافق الحياة. وفي العشرين من نيسان عمّ الاضراب كافة المدن والقرى العربية وكان تجاوب الأهلين شاملاً، شمل جميع طبقات الشعب من عمال ومزارعين وعمال الموانئ وسائقي السيارات والمساجين.

من الواجب ذكره هنا أن التنظيم والتمهيد للاضراب تم بشكل عفوي ومرتجل ولم تلعب به القيادات التقليدية والتنظيمات الحزبية دوراً رائداً.

ومن الملاحظ أن الذين كانوا من وراء التنظيم كانوا من قادة التنظيمات الشبابية مثل عارف الجاعوني في منطقة القدس وأكرم زعيتر في منطقة نابلس وقد كان لهؤلاء بالغ الأثر على اداء القيادة الفلسطينية التي سعت لتعلو الموجة فيما بعد وقد كان لها ما ارادت من خلال إقامة اللجنة العربية العليا، بعد أسبوعين من اندلاع الأحداث، وذلك كاستجابة للمطالب الشعبية التي رفعتها اللجان الشعبية التي الفت في المدن والبلدات والقرى الكبيرة.



وللحديث بقية......

التعليقات