أمٌ مخلصة للانتظار

"لم أكن أصدّق أنني سأحضن مخلص، وهو حرٌ طليق، فحتى أبنائي ظلوا يحذرونني مِن تصديق هذا الأمر، لئلا أصابَ بالإحباط والانكسار إذا ما حالت الدولة دون الإفراج عنه، وفي اليوم الموعود، انتظرنا مخلص على أحر من الجمر، وحين أنزلوه، لم أرهُ بل رأيتُ سيارة الشرطة مسرعة كالصاروخ، خِفْتُ وسألتهم: "لماذا أخذوه؟!"، فأخبروني أنهم لم يأخذوه، وكانت اللحظة العظيمة في حياتي، يومَ حضنته لأول مرة، تحت شمسِ الحرية".

أمٌ مخلصة للانتظار

- تصوير: محمد بدارنة -

تسرد لنا الحاجة ليلى، أم الأسير المحرّر مخلص برغال، عن سيرة حياتها وطول انتظارها لتحرير ابنها الذي لم تصدّق حين عاد إلى حضنها بعد ربع قرن من الفراق.

 

 

لم تكُن تُصدق، بعد سنين الفراق الطويلة، أنّها ستحضنُ ابنها مُخلص، كانَ العِناقُ يوم الثامن عشر من تشرين أول 2011، بحجم الشوقِ الكبير الذي ظلّ بين الضلوعِ لأكثر من 24 عامًا، وحينَ عادَ ابنها إلى حضنها، خافت أن يأخذوهُ من جديد.
 
حين عادَ وجدها قد كَبُرتْ كثيرًا، وكبرتْ معها هموم الحياةِ وتزيّنت بتجاعيد السنين، لكنّها عادت بقلبها، صبية بعمرِ الوردِ وروحِ الحياةِ تملأها بهجة، برؤية مخلص أمام ناظريها.
 
جلست الحاجّة أم مخلص برغال في بيتها في مدينة، الفلسطينية قبل العام 1948، تسردُ قصة انتظارها الطويل لابنها الأسير المُحرّر، وفي غمرةِ نشوة الفرح، يلمعُ في عينيها بريق حزنٍ على أخوة لمخلص، أصدقائه ينتظرون بأملٍ كبيرٍ لحظة الفرج.
 
وأم مخلص هي أيضًا امُ محمد، ابنها البِكر المولود عام 1954، المقيم في بريطانيا، وأم مؤيد المقيم في المانيا وأمُ عنايات ومراد ومؤنس أيضًا، وكلهم تربوا "برمشِ العينِ، وبحبٍ لا ينضب".
 
وحين تركها الجميع لأسبابهم وسافروا دونها، كان مُخلص في سجنه ومؤنِس الوحيد الذي قرّر البقاء إلى جانب والدته، يؤنِس وحدتها، ويسهر على خدمتها.
 
كسرِ الظهر وانحناء الجسم
عاشت ام مخلص برغال، ليلى، طفولة لا تنساها، تذكُر أنّ تاريخ ميلادها كان في 23 تشرين أول 1929، كان والدها يعمل موظفًا في سكة الحديد في اللد، وهو حيفاوي الأصل، أما والدتها فأصلها مِن عكا، أقاما في اللد، كما كل موظفي سكة الحديد، وولدت هناك ليلى الطفلة، التي وصلت إلى الصف الرابع الابتدائي، كان آخرُ محطةٍ لها في التعليم، لكنها تخرجت وهي تُجيد القراءة والمطالعة، ومعرفة اللغة العربية والعبرية، كما لو أنها تعلمت بدرجاتٍ عليا.
 
- تصوير: محمد بدارنة -

لم تترك ليلى الصبية كتابًا لطه حسين ولغيره من الكتاب إلا وقرأته مِن الجلدةِ إلى الجلدة.
 
تزوجت ليلى، وأنجبت أربعة صبيانٍ وابنتين، رحلتْ إحداهما آيات وهي في سنٍ صغيرة (3 سنوات ونصف)، دهسًا، فحزنت أم محمد، وانحنى ظهرها مرارةً على فقدانها. 
 
مِن أينَ لكِ كُلُ هذه القوة؟!
عن سِرِ قوتها تقول ام مخلص "هي بفضل محبة أبنائي وثقتي الأكيدة أننا كُنا على صواب، أنّ ما قدمناه أنا وأبنائي هو خيرٌ وعطاء، أنا أحملُ في داخلي شعلةٌ مِن التحدي، ورغم أنهم كانوا يقولون لي دومًا أنني قوية لكنهم لا يعرفون كيف كنتُ أُمضي الليالي، كم ليلةٍ بللتُ المخدات. ورغم القهر ومحاولات الإذلال التي حاولت الشرطة زرعها في البيت، لكنني رفضتُ أن أظهر لهم شيئًا مِن ضعي، خاصةً أنني واثقة أنهم يريدون رؤيتنا مهزومين".
 
"كُنتُ طوال الوقت أصبّرُ نفسي أنّ أبنائي دخلوا السجن لأهدافٍ سامية، وأنّ ما فعلوه أمرٌ يستحق رفع الرأس، لا تنكيسه. ولم أسكت يومًا لِمن كان يُساء الحديث عن أبنائي وعن تربيتهم، كنتُ أجيبهم لو تعلمون ما فعلوه، لانحنيتم لتقبيل الأرض التي يدوس عليها أبنائي".
 
لم أشعر يومًا بطعم الفرح ومخلص في سجنه
تقول ام مخلص: لم أشعر يومًا بطعم الفرح، حتى حين تزوج ابني الصغير مؤنس قبل ثمانية سنوات، أجبرتُ نفسي على عدم البكاء، كي لا أضيّع عليه فرحة العمر. لكن عندما غادر المعازيم بيتنا، بكيت طيلة الليل، حتى ملّ مني البكاء، كنتُ مجبرة على الصمت وفرضِ ابتسامةٍ، لأنني أحبُ سعادةَ ابني، لكنّ قلبي متألمٌ لغيابِ أبنائي عني. ونفس المشهد رافقني أيام زواج ابنتي عنايات، التي حضنتها طويلاً، وحرصتُ على ألا تنزل دمعة تائهة على وجنتي فكشف سِرَ حزني.
 
- تصوير: محمد بدارنة -

تقول ام مخلص: لم أكن أخفي البكاء خوفًا مِن الضعفِ، ولكن قلقًا وحرصًا على راحة أبنائي، فالبكاءُ بالنسبةِ لي هو احساسٌ، حين أبكي من قلبي وجوراحي، أشعر أنني أحترق، أدخلُ بحالةٍ مِن الحزن والألم لا يتحملانهما سوى مجروحٍ مثلي.
 
مواقف تحدٍ!
تقول ام مخلص كان أكبرُ تحدٍ بالنسبةِ لي عندما وصلتُ إلى محكمة الصلح في حيفا، حين كن يُنظر في قضية مخلص وشقيقه محمد ومحمد زايد، وقد وضعوا الأكياس على رؤوس الثلاثة، وأدخلوهم إلى الغرفة، ممسكين برؤوسهم، ولم يسمحوا لنا بالدخول، ولما أخرجوهم مِن الغرفةِ كانوا يسحبونهم بفظاظة، مشينا خلفهم، على السُلّم الذي تلتف درجاته، فتعثر مخلص، ففزعتُ أنا وقلت له "الله"، سمعني ابني فقال "يما"، فقلتُ له: ياما ارفعوا راسكم، ولا يهمك شيء، ما تهتموا لحدا، ولا تنذلوا لحدا"، فسمعني رجال الشرطة، وطالبوني بالصمت، فقلتُ لهم بالحرف الواحد: أنتم تكذبون، أحضروا الصحافة، لتصوّر كيف تتعاملون مع أبنائنا، تضربونهم وتعذبونهم وتأتون بهم الى المحكمة، تسحبونهم كما الحيوانات؟! فهل تعتبرون أنفسكم بشرًا؟! لستُم اقل من النازية، كلامي هذا اغضبهم، وكادوا يجرونني، لكنني تركتهم وانصرفت، وحين اجريت المحكمة تابعتها، وأنا أشعُر أننا تحديتهم وتمردتُ على جبروتهم.
 
"أما المرة الثانية" هكذا تقول ام مخلص: "كانت عندما أتوا بمخلص الى البيت، ليصوّر ماذا فعل، خلعوا أبواب البيت، وفتشوا كل ركنٍ، طلب مني مخلص تحضير زاد لرفاقه في السجن، يأخذه معه، ففعلت، نبشوا كُل زاوية في البيت، ثم أخرجوا كيسًا فيه ماسورة، ادعت الشرطة أنها أداة لصنع قنبلة. صرختُ في وجههم عندها: هذه لعبة كبيرة، ولن تكونوا قد وجدتموها صدفة، وإنما لكم اليد في وضعها في هذا المكان، وإلا، كيف تمدون يدكم في الكيس، ألا تخشون أن تكون بداخله قنبلة؟! عندها صرخوا في وجهي كيف أختفي مِن أمامهم، ولما رفضت قالوا لي: إذا لم تدخلي بيتك، فسنعيد لكِ جميع الأكل الذي قمتِ بتحضيره، فاضطررتُ إلى الدخول، وعندما خرجوا، تبعتهم، ولوّحت لابني بيدي ورفعتُ صوتي عاليًا.
هذان حدثان لمسارٍ طويلٍ من المعاناة والتحدي، كنتُ أعيشها بشكلٍ دائم، وخاصة في كل زيارةٍ للقاء ابني، كنتُ أصلُ اليه مُنهكة، وأعود اليه وقد هدني الشوق إلى رؤياه واحتضانه.
 
فرحةُ اللقاءِ لم تُنسِ مخلص رفاقه في السجن
"لم أكن أصدّق أنني سأحضن مخلص، وهو حرٌ طليق، فحتى أبنائي ظلوا يحذرونني مِن تصديق هذا الأمر، لئلا أصابَ بالإحباط والانكسار إذا ما حالت الدولة دون الإفراج عنه، وفي اليوم الموعود، انتظرنا مخلص على أحر من الجمر، وحين أنزلوه، لم أرهُ بل رأيتُ سيارة الشرطة مسرعة كالصاروخ، خِفْتُ وسألتهم: "لماذا أخذوه؟!"، فأخبروني أنهم لم يأخذوه، وكانت اللحظة العظيمة في حياتي، يومَ حضنته لأول مرة، تحت شمسِ الحرية".
 
كُن"تُ في كامل قوايَ العقلية، لم أغب عن الوعي، كنتُ أشعرُ بأنفاسه وبروحي بين ذراعيْه، وبصوتٍ عالٍ أطلقتُ أغنية "نصرة قوية وفرحة هنية وألف سلامة"، فكان الاستقبالُ كبيرً هائلاً يليقُ بمخلص وصموده وتضحياته".
 
تقول ام مخلص: "حتى اليوم لم أشبع مِن مخلص، وكلما حضنني أشعرُ أنّ بدني يقشعر، إنه مختلف، روحهُ قطعةُ مِن قلبي. لحظةُ احتضانه، ذكرى لا تُنسى، تندمج فيها جميع المشاعر وتختلط بالبكاء والفرح والقلق، حتى أنني ظللتُ أخافُ عليه، أن يبتعد عني، لكنني اليوم أكثر راحةً في ظل وجوده بقربي... أما الأمر الوحيد الذي يؤلمني ولا يشعرني براحة، فهو أنّ مخلص تركَ أشقاءَ له في سجنه، قلبي معهم، ودعائي الكبير لهم بالفرجِ القريب".

التعليقات