الناصرة من أزمة شهاب الدين إلى أزمة "الرئيس مين"

التغيير وقع مع انزياح الأسباب التي كانت ترسخ الوضع القائم، وفي مقدمتها انكسار الاستقطاب الطائفي وعودة البلد إلى طبيعتها والتغيير واقع برغم المرجحة السياسية والقضائية، التي يتوقع أن تستغل من قبل دوائر السلطة المعنية لمواصلة العبث بالناصرة وإدخالها مرة أخرى إلى الدوامة الطائفية التي خرجت منها منذ انتخابات 2008

الناصرة من أزمة شهاب الدين إلى أزمة

الناصرة من أهم مدن فلسطين التاريخية وهي المدينة الفلسطينية الوحيدة داخل الخط الأخضر، التي بقيت عامرة بعد نكبة 48 ومازالت هي المدينة الأكبر وعاصمة العرب الذين ظلوا في وطنهم، حيث يبلغ عدد سكانها اليوم ما يناهز ال80 الفا.

تعتبر مدينة الناصرة إحدى أكثر المدن قداسًة في الديانة المسيحية، فهي المدينة التي بشّرت بها مريم العذراء بولادة السيد المسيح كما أنها المدينة التي نشأ وعاش فيها المسيح غالبية سنيّ حياته فنُسِبَ إليها ودعي بالناصري، كما يدعو البعض أتباعه بالنصارى نسبة إليها.

اُنشئت بلدية الناصرة عام 1875، في أثناء الفترة العثمانية، وقد شكلت، منذ ذلك الوقت، أداة مهمة لمواطني المدينة في العهود المختلفة، عثمانية كانت أو انتدابية أو إسرائيلية. وعلى الرغم من أن سلطة البلدية كانت محدودة بدرجات متفاوتة خلال كل هذه الفترة، إلا أن مبناها وتمثيلها كان موضع صراع، إذ اعتبر المجلس البلدي صاحب القرار في  كلٍ من الجوانب العملية لإدارة وتوزيع الموارد والجوانب الرمزية للتعبير عن هوية وطابع المدينة.

ورغم ما يشاع عن ديمقراطية بريطانيا، إلا أنها وخلال ال30 عاما التي استعمرت فيها فلسطين جرت انتخابات بلدية في الناصرة مرتين فقط في عامي 1934 و 1946، وحتى هذه الانتخابات كانت محدودة جدا، حيث سُمح لأقل من 10% من السكان المشاركة فيها. واتسمت بصبغة طائفية وعائلية قوية حيث تنافس 17 مرشحا على سبعة مقاعد في المجلس البلدي.

بعد إقامة إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني عام 1948 ووقوع ما تبقى من أهلها تحت الحكم العسكري، بدأت المطالبات بإجراء انتخابات لبلدية الناصرة منذ عام1950، حيث طالب توفيق طوبي، عضو الكنيست عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، قي كانون ثاني من نفس العام من منبر الكنيست بأن تُجرى انتخابات بلدية ديمقراطية في الناصرة مع البلدات (اليهودية) الأُخرى المزمع إجراء انتخابات فيها، مصرحا: "في الناصرة، الكل يعرف أن المجلس البلدي لا يمثل السكان بأي شكل".

ومع تزايد المطالبة بإجراء الانتخابات اضطرت إسرائيل لتحديد موعد انتخابات في نيسان 1954، وبعدها باشرت السلطات بالعمل على إنجاح مخططاتها لعقد الانتخابات على أسس عائلية وطائفية مستعملة وسائل عدة منها الضغط على موظفي الحكومة سكان المدينة، وعقد لقاءات مع زعامات عائلية وطائفية مرتبطة بها لحضها على خوض الانتخابات، بالمقابل تنافس الحزب الشيوعي، وهو الحزب الوحيد الذي نجا من النكبة بعد تدمير الحركة الوطنية الفلسطينية .

وفعلا تنافست ثماني قوائم على أصوات 9000 ناخب بضمنها  كانت قائمتا الحزب الشيوعي و"مبام" هما الوحيدتان اللتان بنيتا على أسس سياسية، بينما كانت القوائم الأخرى عائلية وطائفية تألفت من ثلاث قوائم للمسلمين، اثنتين للروم الأرثوذكس وواحدة للطوائف الغربية.

انتخابت 1954 تحت الحكم العسكري:

أجريت الانتخابات في 12 نيسان 1954، وعلى الرغم من جهود االسلطة إلا أن النتائج جاءت بالرغم من ذلك مخيبة لآمال السلطة حيث فاز الحزب الشيوعي ( الحزب الوحيد الناجي من النكبة) بستة مقاعد من أصل 15 مقعدًا، مما اضطرها لبذل جهود كبيرة لمنعه من إنشاء تحالف يمكنه من قيادة البلدية، حيث مارست السلطة ضغوطا كبيرة على المرشحين التسعة الآخرين من أجل إجبارهم على التحالف معًا، لقطع الطريق على إقامة تحالف بقيادة الحزب. وعندما فشلت هذه الجهود، وبدا أن الحزب قد نجح في إقناع اثنين من المرشحين بالانضمام إليه، نُظم اعتداء على أعضاء الحزب منعهم من الوصول إلى جلسة المجلس البلدي المعينة لانتخاب رئيس للبلدية. وبعد ثلاثة أشهر من التنافس، نجحت االسلطة في فرض أحد مرشحي القوائم الطائفية، أمين جرجورة، رئيسا للبلدية.

انتخابات 1975 وفوز توفيق زياد:

ظلت القوائم العائلية والطائفية المرتبطة بالسلطة هي المسيطرة على المجالس البلدية والمحلية للقرى العربية التي شكلت لاحقا، وبضمنها الناصرة، حتى فترة النهوض الوطني المترافقة مع يوم الأرض، حيث كانت الريادة للناصرة عام 75 بفوز جبهة الناصرة الديمقراطية بقيادة الشاعر توفيق زياد برئاسة البلدية، تبعها سقوط عروش السلطة في العديد من القرى العربية بعد زلزال يوم الأرض 76.

زياد ظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته عام 1994 حيث خلفه القائم بأعماله، في حينه، المهندس رامز جرايسي الذي بقي يحتل كرسي البلدية حتى الانتخابات الأخيرة، أي ما يقارب 20 عاما، علما أنه شغل منصب القائم بأعمال رئيس البلدية فترة 18 عاما في عهد توفيق زياد، في حين دامت فترة إدارة الجبهة لبلدية الناصرة ما يقارب ال38 عاما.

أزمة شهاب الدين والورقة الطائفية:

ضمن سياسة "فرق تسد" التي تبنتها إسرائيل، ظلت الورقة الطائفية حاضرة تستلها من غمدها عند الحاجة، وتلعب بها عندما تلوح بوادر أي أزمة اجتماعية أو سياسية، على غرار أزمة شهاب الدين التي تفجرت في الناصرة مع مطلع عام 2000.

وتعود بداية تفاعل قضية وقف شهاب الدين في مدينة الناصرة، إلى شهر كانون أول من عام 1997، حينما باشرت بلدية الناصرة بهدم مبنى كان يُستعمل مدرسة، يعود بناؤه إلى العهد العثماني؛ باعتبار أن هذا المكان كان مُدْرجاً ضمن خطة الناصرة 2000. البعض ادعى أن هذا المبنى الذي يعود للعهد العثماني وكان به مسجد ومصلى ومحراب، يجب أن يستغل لما فيه مصلحة المسلمين وليس ضمن مشروع الناصرة، وبناء عليه ادعوا وقفية هذه الأرض، وطالبوا ببناء جامع عليها، بل باشرت ما عرفت لاحقا بــ"لجنة وقف شهاب الدين" بإعداد خرائط للجامع الذي تعتزم بناءه على الأرض المذكورة، الواقعة قبالة كنيسة البشارة والتي خططت البلدية لتحويلها إلى ساحة تخدم زوار الكنيسة.

أشعلت "قضية شهاب الدين" أزمة طائفية حادة كادت تحرق الناصرة، لعبت بها وغذتها تدخلات السلطة التي استثمرتها لضرب وحدة المدينة ونسيجها الاجتماعي، وبالتالي الإضعاف والنيل من دورها الوطني. وقد بدا ذلك التلاعب واضحا في تقلبات مواقف الحكومة الإسرائيلية ودوائرها المتخصصة بالعرب، التي وقفت تارة مع هذا الطرف، وطورا مع ذاك في إجادة متناهية للعب على أوتار الخلاف، وتوظيفها لصالح أهدافها السياسية. ولعل أبرز مثال على ذلك قرار الحكومة الإسرائيلية من شهر 11 /99  بالموافقة على بناء مسجد شهاب الدين في الساحة المختلف عليها، ثم التراجع عن هذه الموافقة عام  2002 وما خلفه هذا القرار في الحالتين من تداعيات وهزات عنيفة داخل الناصرة.

انتخابات 1998 وانقسام البلد:

لقد انعكست أزمة شهاب الدين بشكل مباشرعلى انتخابات بلدية الناصرة محدثة استقطابا غير مسبوق في تاريخ المدينة، حيث قسمت البلد إلى قسمين متناصفين في انتخابات عام 1998 التي فازت فيها القائمة الموحدة بغالبية أعضاء المجلس البلدي، مقابل فوز المهندس رامز جرايسي برئاسة البلدية، مع ما رافق ذلك من أزمة ائتلافية ذات أبعاد وتداعيات وأجواء طائفية بغيضة، وهو ما رافق الناصرة لاحقا في انتخابات 2003 و2008 .

الطابع الطائفي للانقسام الذي شق البلد إلى نصفين وسم ليس فقط القائمة الموحدة التي كانت قد "تعربشت" على الأزمة للوصول إلى البلدية بطابعها الطائفي، بل الجبهة أيضا التي ظلت لاحقا متعلقة بالأزمة حتى بعد تلاشي آثارها للحفاظ على موقعها في السلطة.

وبالرغم من اعتقاد البعض أن أزمة شهاب الدين هي ما استدعى التغيير، إلا أن الواقع يفيد أن الأزمة وتداعياتها وولادة البديل من رحمها هو الذي أعاق عملية التغيير التي كانت تنتظرها الناصرة، وكرس الوضع القائم، وأدام سلطة الجبهة في البلدية 15 عاما آخر.

   انتخابات 2008 وسقوط الموحدة:

لقد أصبح الطرفان المتصارعان، ونعني الجبهة والقائمة الموحدة، أسيرين لأزمة المدينة يمسكان بتلابيبها، كي لا يسقطان بعد أن كانت تمسك بهما وبالمدينة، والدليل أنهما سقطا بسقوطها في الانتخابات الأخيرة.

ولعل الانتخابات الأخيرة على تداعياتها الأخرى أكدت شفاء البلد من الأمراض التي تركتها أزمة شهاب الدين، ففي حين أثبتت انتخابات 2008 فشل البديل المتمثل بالقائمة الموحدة، التي عجزت للمرة الثالثة من إحداث التغيير الذي تنشده المدينة لأنها لا تمثله، أثبتت انتخابات 2013 حاجة البلد ورغبتها بالتغيير عبر تمسك الناس بقشته التي مثلها علي سلام الذي لم تتوافر فيه أية صفات زائدة عن مرشحي المعارضة الآخرين، خلا قدرته على إحداث هذا التغيير، وتخليص البلد من الراهن الرابض على صدرها منذ 40 عاما.

انتخابات 2013 وسقوط الجبهة:

ظل البعض متلفعا بعباءة شهاب الدين لستر عريه الطائفي، دون أن يدرك أن تلك العباءة أصبحت قديمة وبالية، وأن الورقة الطائفية سقطت وحالة الاستقطاب قد انكسرت موضوعيا، فيما ساعدت عوامل ذاتية حركتها بعض الأطراف الوطنية، وبشكل خاص خوض النائبة حنين زعبي لانتخابات البلدية على طيها نهائيا.

وعجب والحال كذلك أن ينتقل الصراع الذي مزق الناصرة، على مدى ما يقارب 15 عاما ورافقها ثلاث فترات انتخابية أن ينتقل إلى صراع داخل القطب الواحد بين الرئيس والقائم بأعماله الذي صارعه وصرعه.

لقد اندفع الصراع أو الإصلاح المؤجل مرة واحدة، بعد أن غلبت الناصرة على مدى أكثر من فترتين انتخابيتين أن ماهية البديل على حاجة التغيير، إلا أن حاجة التغيير لم تكن لتنتظر إلى ما لا نهاية، وجاءت من داخل القطب الذي ظل يتغطى بمحاربة الطائفية، حتى تحول، ربما دون أن يدري، إلى مستفيد منها، حيث أصر على رفض التغيير الداخلي الذي كان سيجنبه التغيير من الخارج.

اللعبة الجديدة:

التغيير وقع مع انزياح الأسباب التي كانت ترسخ الوضع القائم، وفي مقدمتها انكسار الاستقطاب الطائفي وعودة البلد إلى طبيعتها، والتغيير واقع برغم المرجحة السياسية والقضائية، التي يتوقع أن تستغل من قبل دوائر السلطة المعنية لمواصلة العبث بالناصرة وإدخالها مرة أخرى إلى الدوامة الطائفية التي خرجت منها  منذ انتخابات 2008 .

ومشكلة البعض أنه لم يقرأ التطورات التي حصلت في الناصرة في السنوات الأخيرة، ولم يدرك أن الشعارات القديمة قد انتهت صلاحيتها، وهو يواصل رغم فشله الانتخابي المرتبط بذلك التمسك بها، عوضا عن مراجعة نهجه الماضي واستغلال فرصة وجوده في المعارضة بعد 40 عاما في السلطة لإعادة بناء كوادره ومؤسساته التي سمنت وترهلت من "دشم" السلطة.
 

التعليقات