مناليّة العدالة للنساء الفلسطينيّات في إسرائيل

أصدر برنامج "الدراسات النسوية" في مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية ورقتي موقف تزامناً مع اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء.

مناليّة العدالة للنساء الفلسطينيّات في إسرائيل

أصدر برنامج 'الدراسات النسوية' في مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية ورقتي موقف تزامناً مع اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء.
الورقة الأولى - الثكالى الأحياء-الأموات: سيرورة النساء الباقيات الفاقدا. الورقة الثانية - مناليّة العدالة للنساء الفلسطينيّات في إسرائيل: لقاء المرأة الفلسطينيّة مع جهاز الشرطة الإسرائيليّ

كتبت الورقة الأولى (وستنشر لاحقاً) سهاد ظاهر-ناشف وسماح سلايمة اغبارية  والّلتان تُوثقان وتُناقشان تأثير قتل إمرأة على نساء أسرتها. أما الورقة الثانية المنشورة هنا فكتبتها كلّ من نادرة شلهوب كيفوركيان وسائدة مقاري-ريناوي وتتناول لقاء المرأة الفلسطينيّة مع جهاز الشرطة الإسرائيليّ، بدءًا من اللجوء اليه، وخلال تقديم الشكوى وما بعد تقديم الشكوى.

تصدر هذه الأوراق ضمن مشروع بحثي شامل يعالج منالية العدالة للمرأة الفلسطينية في إسرائيل. يدأب على المشروع طاقم بحثي متعدد التخصصات، والذي يعمل على تناول العديد من القضايا التي تخص منالية العدالة في سياق المرأة الفلسطينية، على سبيل المثال: المعرفة والإلمام بالحقوق والقوانين والنظم القانونية، العلاقة مع الشرطة، الكشف عن الاجحاف بالحقوق وطلب التدخل من أجهزة الضبط الاجتماعي، الحماية والأمان، الثقة بالمؤسسة القضائية وغيرها.

يصبو المشروع البحثي للوصول الى مسارات العدالة التي تمر بها النساء الفلسطينيات من خلال منظومة القضاء الإسرائيلية الرّسميّة وتلك المجتمعية غير الرّسميّة. من ضمن نتاج البحث ستُنشر تباعاً ستة أوراق موقف متعددة المواضيع على موقع المركز.


مناليّة العدالة للنساء الفلسطينيّات في إسرائيل: لقاء المرأة الفلسطينيّة مع جهاز الشرطة الإسرائيليّ

نادرة شلهوب كيفوركيان وسائدة مُقارّي- ريناوي 

إنّ مناليّة المرأة للعدالة، ولا سيّما توصيف علاقتها بجهاز الشرطة، يشكّل محور هذه الورقة. فعند إلقاء الضوء على تجربة النساء الفلسطينيّات، وكذلك تجربة النساء من الشعوب الأصلانيّة مع هذا الجهاز، نكشف لقاء معقّدًا بين جهازٍ ينتمي إلى منظومة سياسيّة وقانونيّة ضابطة تمثّل آراء ورغبات الأغلبيّة المهيمنة، وحاجاتِ النساء الأصلانيّات التي تنتمي إلى مجموعة مقموعة.

الدراسات النقديّة النسويّة في هذا المضمار تشير إلى أنّ وقوع المرأة الأصلانيّة داخل منظومة سياسيّة معقّدة، تغذّيها القوى الضابطة، مدعِّمة سيطرتها بمحورين ذكوريّين: المحور الأبويّ البطريركاليّ من جهة، والمحور والأيديولوجيا الكولونياليّة من جهة أخرى، كلّ هذا يعيد إنتاج الانتهاكات ويعزّزها تجاهها ويعزّز استمرار إقصائها وإنتاج القمع تجاهها. 

فإذا تطرّقنا إلى الإحصائيّات المتعلّقة بالشعوب الأصلانيّة في العالم - رغم أنّ البيانات المنهجيّة المحيَّنة (المحدَّثة) منها ضئيلة-، نجد أنّ نسبة أفراد الشعوب الأصلانيّة تكون في المعتاد مرتفعة في جهاز العدالة الجنائي؛ إذ إنّهم معرضون أكثر من غيرهم للوقوع ضحايا للجرائم، وارتكاب الجرائم كذلك. ففي الولايات المتّحدة الأمريكيّة -على سبيل المثال- تزيد نسبة سكّان أمريكا الأصلانيّين الذين يقعون ضحايا لجرائم عنف بأكثر من ضعفين على نسبة عامّة السكان ( BJS Statistics, 2004). بالإضافة إلى ذلك، إنّ أفراد الشعوب الأصلانيّة معرّضون أكثر للتوقيف وللوقوع بين يدَيِ الشرطة وللاتّهام بارتكاب جرائم، والإدانة ولعقوبات أقسى وهم معرَّضون أكثر من غيرهم للاحتجاز، ففي أستراليا مثلاً يصل احتمال سجن البالغين من أفراد الشعوب الأصلانيّة إلى 14 ضعفًا أكثر من غير الأصلانيّين.

لا شكّ أنّ هذه الأرقام تعكس الصراع القائم بين جهاز العدالة الرسميّ وفئات اجتماعيّة سياسيّة مستضعفة، وتدلّ على وجود تمييز في منظومة العدالة الجنائيّة، وتقاعس في تقديم الحماية للمواطن عند الحاجة. إنّ الدراسات العالميّة والمحلّيّة تنبّه إلى أنّ 'الدعم' الذي تقدّمه الدولة لحفظ الأمن منقوص، وتؤكّد عدم نزاهة أجهزة فرض القانون، فضلاً عن عدم استعداد موظَّفي سلطة القانون على النحو الكافي لاستقبال هذه الشريحة بما في ذلك عدم تسجيل الشكاوى أو عدم إجراء تحقيقات نزيهة، وهو ما يزعزع من أمن الفئات الأصلانيّة ويعزّز تهميشها وينتج عنصريّة بنيويّة ضدّها.  

أمّا النساء الأصلانيّات، فيُعتبَرن أكثر الشرائح عرضةً للاعتداءات وللانتهاكات، وفي المقابل هنّ أكثر الشرائح افتقارًا لسبل الوصول للعدالة (Smith ,2003). على سبيل المثال، في أستراليا يرتفع احتمال دخول النساء الأصلانيّات إلى المستشفى بسبب انتهاك واعتداء أكثر بـِ 80% من النساء عامّة؛ وفي كندا يرتفع احتمال وقوع النساء الأصلانيّات ضحايا لعنف اثني عشر ضعفًا مقارنة بالنساء الأخريات. ينضاف إلى ذلك احتمال حدوث انتهاكات لصحّتهنّ الجنسيّة والإنجابيّة (UNFPA, UNICEF, UN Women, 2013).

وعند لجوء هذه الشريحة إلى جهاز ضبط القانون، ثمّة ادّعاءات حول حدوث انتهاكات على يد الشرطة، كالاستخدام المفْرِط للقوّة والاعتداء الجسديّ والجنسيّ، ممّا يترك هؤلاء النساء أمام خيارات ضيّقة وضئيلة (Daly, 2002b; Lievore,2003)، بما في ذلك عدم الثقة بأمانة الجهاز ومصداقيّته. فالأبحاث المتعلّقة بتدخّل الشرطة في قضايا العنف لدى النساء الأصلانيّات تشير إلى عدّة أمور، منها: إضافة صبغة 'الاعتياديّ والثقافوي' على الاعتداء وكأنّه مجرّد حدث طبيعيّ ومقبول ثقافيًّا بغية التقليل من شأن معاناة المعتدى عليها، وعدم الاعتراف بحاجاتها وحقوقها (Shalhoub-Kevorkian, Erez & Adelman, 2003). إنّ هذه النظرة وأسلوب التعامل الثقافويّ والمسيء تمادى إلى حدّ النظر إلى الجسد الأصلانيّ بلا إنسانيّة، فهي نظرة لجسد نتن ومعتاد على الانتهاكات كالاعتداء الجنسيّ، ولذلك فالانتهاكات تجاهه هي عاديّة شرعيّة، ولا تحتاج إلى المقاضاة وجسد المرأة قابل للاغتصاب: 

'Native bodies also immanently polluted with sexual sin…Indian bodies are dirty, they are considered sexually violable and rapable….'(p73, Smith, 2003) 

علاوة على ذلك، تُظهِر الأبحاث بناء خطط تدخُّل غير ملائمة وغير عمليّة للضحايا، ونقص في القوى العاملة كالعمّال الاجتماعيّين وغيرهم من المهنيّين المؤهّلين للتعامل مع احتياجات الشريحة المذكورة، وأمّا المهنيّون القلائل المتوافرون فيجري تأهيلهم بناء على قيم ومفاهيم غربيّة استعلائية ومهيمنة غير ملائمة لقيم العائلات الأصلانيّة.

) Blackstock, Prakash & Wien, 2005; Dylan, Regehr & Alaggia, 2008; Nancarrow, 2006(

ومن ثَمَّ يُحْدِث تدخُّل الشرطة غير المكترث ما يسمّى في الأدبيّات 'اعتداء مجدّد' لهذه الشريحة من النساء، لكونهنّ 'نساء' ولكونهنّ ينضممن إلى مجموعة مهمَّشة ومُقصاة، وبالتالي يجري إقصاء مضاعف لها وضمان استمراريّة تعنيفها وانتهاك حقوقها.

إنّ هذا الوضع الشائن ينعكس كذلك في واقع النساء الفلسطينيّات داخل إسرائيل؛ إذ إنّ النساء العربيّات الفلسطينيّات ينتمين إلى أقلّيّة وطن تحوّلت إلى أقلّيّة على أرض مولدها بعد احتلال أرض فلسطين التاريخيّة عام 1948 (Rouhana, 1997)، ويُعتبَرن مثالاً حيًّا لعلاقة الشعوب الأصلانيّة مع الدولة الاستيطانيّة الكولونياليّة ومع مؤسّساتها -ومن ضمنها جهاز الشرطة.

قصّة 'حلا' وَ 'لَما' هي غَيْضٌ من فيض القصص التي تروى وتقصّ تجارب المرأة الفلسطينيّة في إسرائيل، وتعكس منظومة القضاء، ولا سيّما الشرطة. وأهمّيّة روايتها تقع في رفع صوت المرأة واختراق جميع الحواجز وسياسة كَمّ الأفواه، ابتداءً من الحاجز الكولونياليّ المحتلّ وامتدادًا إلى الحاجز البطريركاليّ الأبويّ.

حَلا: ...'أنا من أنا وصغيره كان ابوي يتحشّر فيي... وبيوم تشجّعت وحكيت لمعلّمتي... بَذكر يومها فِش أكم سيعه أجو وقالولي إنّي لازم أطلع من البيت لأنّو خطر على حياتي... معرفتش بالزبط وين بدي أروح... يومها أخدوني على الملجأ... محلّ غريب عجيب، وكلّ الوقت كنت أفكّر بإخوتي وبإمّي شو صار معهن وهيك... أجت بعد بأكم يوم محقّقه لعندي على الملجأ... بتذكّر إجريّ وأنا رايحه كانوا يخبطوا ببعض وتفركشت أكتر من مـرّة ورحت ما أوقع لولا العامله الاجتماعيه... كتير أسئله كان براسي: أحكي المزبوط والاّ لا؟ أقول الإشي اللي كان يصير معي وكيف أبوي كان يعتدي علي... وتنسيش وقتها قبل بوقت قصير انقتل عنّا شابّ بالبلد سنه 2000 وأنا كنت كتير أخاف من البوليس، وكنت دايمًا أسأل حالي: هو عدوّ والاّ صاحب، والاّ يوم صحاب ويوم كلاب... لمّا فتت على الأوضه كان يستنّاني إشي مش هويّن. كيف حسّيت أوّل شي المحقّقه كانت يهوديّه وبلّشت تقول للعامله الاجتماعيّه: إنت ما في ضروره تضلك... خلّينا لحالنا... بَسّ لما قالتلها إنّي بفهمش عبراني منيح وإنّها لازم تضلّ تترجم قبلت... لمّا بلّشت تسألني، مقدرتش أعطي كلّ المعلومات اللي عندي. محسّيتش بالأمان معها... كان بكلامها كتير اتّهامات وتلويم؛ متلاً: ليش ضلّيتي كلّ هاي السنين بدون ما تحكي لحدا؟... وليش صبرتي... ومع إنّي حاولت أفهّمها قدّيش صعب إنّي أحكي هادا السر... بَسّ مفهمتش عليّ'...

وَ'لَما' صبيّة تبلغ من العمر 23 عامًا، اعتُدِيَ عليها جنسيًّا من أحد أقرباء العائلة: ...'الشرطة ما أخذت القضيّة بجدّيّة. تعاملوا مع القضيّة بكلّ سهولة، حتّى المحقّقة لمّا حكيتلها كلّ تفاصيل المشكلة، كانت تصرخ بوجهي وتقول لي: 'كمّلي'... وعندما بدأت أبكي كانت تقول لي: 'لماذا تبكين'؟ تعاملت وتكلّمت بطريقة مستهترة، حتّى إنّني في ذلك النهار قمت بعمليّة 'שחזור' مراجعة الحدث. وكنت في المكان الذي وقع فيه حادث الاعتداء مع شرطيّين... أنا حسّيت إنّي بالنسبة لهم قضيّة أخرى، تعبئة أوراق... لم يهتمّوا بمشاعري. كان كلامهم معي بطريقة صراخ... ما بعرف إحساسي كان كتير صعب... وكلّ الوقت سألت حالي: أنا ليه يا ربّي بهادا العزاب؟... أنا بفكّر لأنّي مش يهوديّة، ولو انّي فتاة يهوديّة أنا متأكّدة إنّي كنت سأحصل على حقّي. ما أنا كمان إنسانة وبحقّ لي كما يحقّ للفتاة اليهوديّة من حيث المعاملة والاهتمام... والاّ إحنا على الهامش؟!... مش بنادمين؟!... لإيش الدعايات بالتلفزيون عن دعم النساء؟! هاد كلّو كذب وقت الجدّ... قدّيش مرق وقت... كتير... بّطلت أعد... أنا هون محبوسه بالملجأ وكلّ يوم بسأل حالي: صار شي بالقضيّه؟... والله قضيّة فلسطين أسهل... إمّي وجدّي وأختي أعطوا إفادتهم في التحقيق، وأبي قدّم إفادته في الشرطة فقال بأنّه مُتَبَرّي منّي ومن إخوتي لا يريد حدا منّا... يعني إخوتي راحوا بالاجرين... وإمّي طبعًا كالعاده ما تدخّلت... وبعد جهد جهيد، وبعد ما تدخّلت المحقّقه بالناصره وحرّكت الأمور، أجت المحقّقه من حيفا على الملجأ... أنا بذكر هديك اللحظات منيح منيح... المحقّقة لم تتعامل معي باهتمام وجدّيّة. معاملتها لم تكن مشجّعة لأخبرها وأعبّر لها عن كلّ تفاصيل القضيّة والاعتداء... بذكر إنها قالت: 'أوف! مطوّله؟ إيدي تعبت كتير'... ساعتها سألت حالي: هادا اللي كنت أستنّاه إلي 4 أشهر؟! ما فيه تشجيع؛ بَس تحطيم وأذى... ما لقيت الأمان عند الشرطة... اتخايلي... المحقّقه بتعرف إنّو خطر كتير إنّي أنزل على حيفا وإنّي لازم أكمّل الـ חקירה بالملجأ، ومع هيك أتوا بي إلى حيفا مع أنّه يوجد خطر على حياتي. المحقّقة استهترت بأحوالي وبمشاعري... قلتلها المرْكز بنفس الحيّ اللي ساكنين فيو أهلي... ومع هيك انتظرتها ساعة كاملة بالخارج مع أنّ مركز الشرطة قريب من بيت أهلي... ولو ما تدخّلت المرافقه وحكت، كنت يمكن استنّيت كمان! بَس للأسف هادي الأمور مش مهمّه بالنسبه لإلهم... ما بتصدّقي، اللحظات اللي مرّت عليّ وأنا أستنّى كانت زيّ ملايين السنين؛ كلّ الوقت أتخايل إنّو حدا عرف وين أنا وأجا يقتلني... وكلّ هادا ما أعجب المحقّقه، حتّى إنها زارت المحامي وحاولت تشكّك بحكيي متل اللي ما مصدّقه ولا شي... وكأنّو بلاغي كان مجرّد أقاويل وبلاغ كاذب... نعم بالضبط، اهتمّوا بكتابة حبر على ورق... عملَت اللي عليها وخلص...'

هذه القضايا والمعاناة المضاعفة تبيّن المسار الذي تواجهه المرأة الفلسطينيّة قبل لقائها وعند لقائها بالشرطة؛ فإلى جانب الحواجز العائليّة والحكم الذكوريّ وإقصاء الضحيّة داخله، تبيّن التجارب أعلاه مع جهاز الشرطة المسارَ الشاقَّ وبيروقراطيّةً قامعةً تجهد الضحية، فضلاً عن حاجز اللغة وأزمة الثقة حيال الجهاز وبلبلة الأدوار، إلى جانب عدم تقييم الخطر والاستهتار بتفاصيل القضيّة المهمّة. وهذا يعزّز الأدبيّات العالميّة والمحلّيّة التي تشير أنّ هذا الجهاز ليس بمُسانِد للضحيّة، بل هو مساند للمنظومة الكولونياليّة الضابطة  (Dylan, Regher & Alaggia, 2008; Carter, 1987).

فجهاز الشرطة في إسرائيل هو جزء من منظومة قانونيّة تخدم مصالح الدولة، إذ بالرغم من أهداف الجهاز القضائيّ الإسرائيليّ المعلنة الرامية إلى ضمان سلامة 'المواطنين' وَ 'العدالة الاجتماعيّة'، يقوم هذا الجهاز -ابتداءً من جهاز الشرطة حتّى محكمة العدل العليا- بِدَوْر مهمّ ومركزيّ في ضمان استمراريّة الدولة اليهوديّة وشَرْعَنة مَواقفها بحكم 'القانون والعدالة'. فجهاز الشرطة يعمل لحماية الضحايا وضمان سلامة المجتمع الداخليّ من الاعتداءات على أشكالها، من جهة؛ ومن جهة أخرى يعمل على قمع أيّ تحرّك للأقلّيّة الفلسطينيّة يمكن أن يعرَّف بأنّه تهديد على أمن المواطنين. من هنا، يُحْدِث هذا بلبلة في التدخّل وبرسم خطّة “الحماية والعلاج”. فازدواجيّة الأدوار هذه تنتج 'أزمة ثقة' لدى الضحيّة تجاه الجهاز في ما يتعلّق بقدرته على حمايتها ومنع استمراريّة الاعتداء. تدخّلت الشرطة في أحداث تاريخيّة مركزيّة (نحو: المظاهرات ضدّ العدوان الإسرائيليّ الأخير على غزّة؛ أحداث أكتوبر الأسود؛ يوم الأرض؛ أحداث شفاعمرو وغيرها)، وإحصائيّات الجمعيّات النسائيّة تثبت حدوث هبوط حادّ أثناء جزء من الأحداث المذكورة أعلاه في توجُّهات النساء الضحايا إلى جهاز الشرطة؛ ففي بحث أَجْرته 'جمعيّة نساء ضدّ العنف' يظهر أنّه قبل أحداث أكتوبر عام 2000 قدّم 38% من النساء المتوجّهات إلى خطّ الطوارئ شكوى في الشرطة، مقابل 12% فقط بعد الأحداث. 

فإذا تعمّقنا في تعامل شرطة إسرائيل مع النساء الفلسطينيّات المواطنات المتضرّرات من الجريمة (كالاعتداء الجنسيّ)، نجد أنّ الأبحاث ترتكز على ثلاثة محاور أساسيّة: ما قبل الشكوى؛ ما خلال الشكوى؛ ما بعد الشكوى. فقبل الشكوى، تتردّد الضحيّة في شأن التوجّه وطلب المساعدة؛ وذلك لازدواجية الأدوار وقلّة الثقة بالجهاز الذي يقمع الشعب الفلسطينيّ منذ ما يربو على ستّة عقود متتالية، والتساؤل المستمرّ حول مدى قدرته على حمايتها ومساندتها. ولذا، إنّ اتّخاذ القرار تقديم شكوى يتطلّب مقادير من الشجاعة المضاعَفة والتنازلات من جهة الضحيّة. أمّا خلال الشكوى، فتواجه المرأة تدخّلاً مبنيًّا على أفكار مسبقة يرى أنّ العنف جزء من عقليّة المجتمع الفلسطينيّ؛ ولهذا يُظهِرون عدم جِدّيّة في المعالجة ولا يقومون بدورهم ووظيفتهم كما ينبغي. زد على هذا أنّه ثمّة مسار بيروقراطيّ شاقّ قاسٍ غير مبالٍ بخصوصيّة الضحيّة ينتظر الضحيّة عند دخولها، كالانتظار الطويل، واختراق الخصوصيّة والسرّيّة، وعدم الاكتراث للمستوى النفسيّ-الحسّيّ، وحاجز اللغة ومسار 'ترجمة المشاعر'، والتأهيل غير الكافي لمحقّقين عرب وغير عرب مختصّين بالعمل مع ضحايا الاعتداء، والانتقال غير المكترث من غرفة إلى أخرى، ومن مركز شرطة إلى آخر، إضافة إلى استخدام  'الفكر الثقافويّ' مسارَ تدخُّلٍ يعمل على تعزيز قمع الضحيّة لا على مساعدتها. وفي ما بعد الشكوى، تخرج الضحايا -في الغالب- منهكات حسّيًّا من المسار، غاضبات، قليلات الثقة بالعالم الخارجيّ وبنفسهنّ، مع محاولة تقليص أيّ تعامُل مع المؤسّسة الإسرائيليّة كطريقة لتخفيف الألم، مع ادراك النساء لمدى تاثير الصراع الخارجي بين الأقلية الفلسطينية التي ينتمين اليها والمؤسسة الحاكمة(الصراع على الارض والمسكن وغيره) على عمل الشرطه الداخلي المقضي بحمايتهن كضحايا. ومن ثَمّ، على نحوِ ما أشارت دراسة محلّيّة، نحن لا نتحدّث عن 'اعتداء مجدَّد'، بل عن 'دائرة اعتداء واغتصاب'.

هذا التعامل يترجم على نحوٍ حيّ باختيار الضحايا عدمَ التبليغ عن الاعتداء في أكثر الحالات وعدم التوجُّه إلى الشرطة، حيث تُظهِر الإحصائيات التي لدى جمعيّة 'السوار' (التي تعمل على مرافقة الضحايا)، على سبيل المثال، أنّه في العام 2009 توجّهت 543 امرأة إلى خطّ الطوارئ، من بينهنّ 19% فقط اخترن تبليغ الشرطة، وفي العام نفسه توجّهت 402 من النساء إلى جمعيّة 'نساء ضدّ العنف، من بينهنّ 7.9% فقط توجّهن إلى الشرطة (تقرير جمعيّة 'السوار' 2009، إحصائيّات جمعيّة 'نساء ضدّ العنف'، 2009). 

في المقابل، بالاطّلاع على إحصائيّات شرطة إسرائيل التي عُرضت في جلسة لجنة تطوير المرأة في الكنيست، نجد أنّه في عام 2009 كان 12% فقط من المتوجّهات إلى الشرطة على قضايا عنف في العائلة هنّ من النساء العربيّات الفلسطينيّات، وَ 8% على قضايا عنف جنسيّ. من جهة أخرى، 30% من الرجال الذين قُدّمت ضدّهم لوائح اتّهام على قضايا عنف في العائلة، وسُجنوا في السنة نفسها هم من العرب (لجنة تطوير المرأة، الكنيست 2009). وهنا يُطرح السؤال: رغم الفجوة القائمة بين نسبةِ المتوجّهات إلى خطوط الطوارئ، والنسبة التي تصل إلى مراكز الشرطة، ورغم الفجوة القائمة بين نسبةِ النساء الفلسطينيّات المشتكيات على عنف ضمن إطار الزوجيّة، ونسبةِ الرجال الذين قُدّمت ضدّهم لوائح اتّهام على مخالفة مماثلة، أي رغم أنّ الشكاوى أقلّ من قِبَل النساء الفلسطينيّات، فإنّ الذين قُدّمت ضدّهم لوائح اتّهام أكثرهم من الرجال العرب! فهل نتحدّث هنا عن ثقة أقلّ بالجهاز من جهة، وهو ما يترجَم بالتبليغ المتدنّي من قبل النساء، وعن منظومة قانونيّة غير عادلة ولا نزيهة، وهو ما يترجَم بلوائح اتّهام أكثر ضد الرجال؟

ثمّة أسئلة كثيرة بحاجة إلى بحث أعمق في سبيل التوصّل إلى الإجابات، وبخاصّة أنّ الإحصائيّاتِ في العالم حول التوجّه لطلب المساندة من الشرطة من قبل النساء الأصلانيّات، ونسبةَ لوائح الاتّهام المقدَّمة ضدّ الرجال  من هذه الفئة (ABS Statistics, 2011; BJS Statistics, 2004)، تدعم الإحصائيّات المحلّيّة المذكورة أعلاه وتعزّز التساؤل حول مصداقيّة المنظومة القانونيّة الاستيطانيّة الاستعماريّة التي تحدّ من قدرة الشعوب الأصلانيّة -ولا سيّما النساء- من الوصول إلى العدالة وممارستها. 

>> النص الأصلي هنــــا


 بروفسور نادرة شلهوب-كيفوركيان: مديرة برنامج الدراسات النسوية  في مركز 'مدى الكرمل'. باحثة ومحاضرة في قسم علم الإجرام-كلية الحقوق، الجامعة العبرية-القدس.

سائدة مقاري-ريناوي: عاملة اجتماعية، باحثة وناشطة اجتماعية ونسوية. طالبة دكتوراة  في الجامعة العبرية.

التعليقات