الحليصة: نضال عنيد وعزلة ممنهجة

غلبت الأفكار المسبقة عن حي الحليصة الواقع شرقيّ مدينة حيفا، على تاريخه، فالوافدون إلى المدينة من شرقها يذكرون العنف والجريمة والفقر غافلين عن التاريخ الذي تعمّدت السلطات تهميشه وإخفاءه عن الأضواء والإعلام والسرد التاريخي ممّا أبعد الزوار.

الحليصة: نضال عنيد وعزلة ممنهجة

غلبت الأفكار المسبقة عن حي الحليصة الواقع شرقيّ مدينة حيفا، على تاريخه، فالوافدون إلى المدينة من شرقها يذكرون العنف والجريمة والفقر غافلين عن التاريخ الذي تعمّدت السلطات تهميشه وإخفاءه عن الأضواء والإعلام والسرد التاريخي ممّا أبعد الزوار عنه، وعزله عن محيطه، وجعل منه بعيداً عن العين، وفريسة سهلة لكل من يريد قتل التاريخ وسرقة الأرض.

مقدّمة تاريخية: سكّان هجّروا مرتين

لا يمكن الحديث عن حي الحليصة، دون العودة إلى الماضي، وما شهده هذا الحي من نضال وتهجير ومقاومة إثر هجوم العصابات الصهيونية على حيفا في العام 1948، حيث شهد الحي، وهو موقع رواية الشهيد غسان كنفاني 'عائد إلى حيفا'، أحد أعنف الهجمات، وخاصة بسبب وجود بيت النجادّة في الحي، الذي كان سابقاً وقبل النكبة مركزا للجان الأحياء العربية في مدينة حيفا.

شهد حي الحليصة، أكبر حركة مقاومة في حيفا، أمّا بيت النجادّة القائم حتى يومنا هذا، فتعرّض لقصف كثيف بالمدفعية من منطقة 'الهدار'، حتى سقط كسائر المواقع في الحي. وهجّر غالبية الحليصة في العام 1948، ودخلته قوّات 'الهاجاناه'، واحتلت المؤسسة الصهيونية غالبية البيوت وأسكنت فيها المهاجرين اليهود الذين احتلوا بشكل فردي ما تبقّى من البيوت.

توافد اللاجئون من القرى العربية المجاورة للجوء إلى الحليصة بعد تهجير سكّانها، بسبب معرفتهم بالمنطقة التي شهدت حركة نشطة قبل النكبة. ولم يشهد هذا الموقع تهجيراً واحداً في العام 1948 فقط، بل ومع اندلاع الحرب عام 1967، استغلت بلدية حيفا انشغال الرأي العام بالحرب، وقامت بهدم حي الرمال المجاور للحليصة (المسمى اليوم 'حوف شيمن')، أو ما سمّي حينها أيضاً حي البرّاكيات، فهاجمت الحي بالجرّافات والقوّات المدججة، وهجّرته مرة أخرى في العام 1967، ممّا حدا بالسكّان للهروب باتجاه الحليصة، وجعل من تركيبة السكان في هذا الحي لاجئين للمرة الثانية.

بداية النضال ضد مخطّطات البلدية:

لم يتوقّف نضال الحي التي أرادت السلطات تهجيره وتدميره عند العام 1967، بل تحوّل لنضال لأجل الحياة والوجود، ونظرا لأنه كان أكثر الأحياء مقاومة للاحتلال في العام 1948، وفيما يبدون أشبه بالعملية الانتقامية أبقت بلدية حيفا الحي بدون خارطة هيكلية تحدّد معالمه وهويته.

اتبعت بلدية حيفا بعد قيام الدولة سياسة هدم البيوت في حي الحليصة. وفي هذا السياق يؤكد الناشط السياسي والاجتماعي في الحي، يوآف بار، القاطن في الحليصة منذ 33 عاماً، لـ'عرب 48'، أن 'سياسة الدولة تحوّلت لسياسة الهدم لكون قسيمة الأرض الخالية تعد ربحية أكثر من أرض المبني عليها، فأخذت الدولة بهدم البيوت في الحي والاستثمار والبناء، وفي المقابل قسمت بيوت اللاجئين لأكثر من شقة، وقامت ببيعها والاستثمار فيها. في المقابل، لم يتمكن السكان من ترميم البيوت التي باتت من أملاك الدولة، وبالتالي تدهورت أحوال الحي بصورة تدريجية'. واستمرت هذه السياسة للعام 1990 والتي كان الهدف منها إخراج السكّان من الحي عبر إهماله وهجره.

ما حصل في العام 1990، كان بداية هجرة اليهود من الاتحاد السوفييتي للبلاد، فارتفعت أسعار البيوت بشكل مفاجئ، في حين باشرت البلدية أعمال البناء وتوسيع الأحياء في المنطقة، وفي العام 1994 دخلت الحليصة ضمن مشروع ترميم الأحياء، تحت إشراف وزارة الإسكان.

شكلت خطط الترميم والتطوير التي أعدتّها المؤسسة والسلطات خطرا على السكّان والأحياء العربية، وهذا ما أثبته التاريخ، فمخطّطات إسرائيل لم تكن أبداً لصالح العرب، بل قامت أساساً على تهجير العرب كما يحصل في النقب واللد والمثلث والجليل، وهذا ما حصل في حي الحليصة أيضاً، حيث عملت البلدية على التضييق على العرب لفتح شقق سكنية للمهاجرين الروس على حساب أصحاب الأرض الأصليين.

مخطّط تهجيري جديد:

وقال بار، إن 'لجنة التخطيط نشرت المخطّط بداية العام 2001، وتبيّن أنها مضرة بالسكّان، وتهدف إلى التضييق عليهم، وتشمل هدم بيوت لمواطنين عرب، وفي بعض الحالات يتوجّب على صاحب البيت هدم قسم من البيت بذاته، وإلّا سيتحمّل تكاليف الهدم'.

وأضاف: 'نصّت الخطة على هدم أقسام من البيوت ومصادرة أراض مقابل توسيع الشوارع، وفي المقابل تقديم تسهيلات للمقاولين وأصحاب رؤوس الأموال. عارضنا المخطّط واستطعنا تجميد المشروع لكون الخرائط غير سليمة، وطلبنا إعادة رسم الخرائط التي عملوا عليها لفترة سنتين. واعترضنا مرة أخرى بعد أن تبين أنهم يعرضون الخرائط ذاتها'.

وأشار بار إلى عائلة في الحي حصلت على تصريح بهدف ترميم الشرفة، وعندما هدمتها وبنت شرفة جديدة تم تقديمها للقضاء بذريعة البناء غير المرخّص، ممّا يدل على التضييق الذي يعانيه أهالي الحي.

التصدّي لأوامر الهدم: جاهزون للموت مقابل عدم السماح بهدم منزل واحد في الحليصة

في العام 2005، حصلت البلدية على قرار من المحكمة بتنفيذ أوامر الهدم في الحليصة، خلال 30 يوماً. وعن ذلك يقول بار إن هذه الخطوة، كانت فرصة للربط بين العام والخاص، فأقمنا خيمة احتجاج على المخطّط بداية العام، وضد الخارطة الهيكلية المطروحة قبل أسبوعين من انتهاء مدة الـ 30 يوماً'.

ومما لا يعرفه الكثيرون، وقد يكون مدعاة لمفاجأة البعض، يجدر التأكيد على أن أهالي هذا الحي المهمّش والذين يعانون الأفكار المسبقة والعزلة الممنهجة، كانوا على استعداد لبذل حياتهم في مواجهة عمليات الهدم وعدم السماح بهدم منزل واحد في الحليصة.

وقال بار، إن 'لجان الحماية تنظّمت بصورة دورية في الحي، واستعمل الأهالي شاحنات تجميع الحديد، وهي مهنة غالبية الأهالي في الحليصة، بهدف إغلاق الشوارع أمام الجرّافات والشرطة، أمّا الآخرون فتجهّزوا بالحجارة للتصدّي لأوامر الهدم، وأعدوا قوائم بأرقام هواتف السكّان لإعلامهم وتجميعهم للتصدّي في حال مداهمة الحي'.

شرطة حيفا ترفض مواجهة أهالي الحلّيصة:

بعد أسبوعين من الاعتصام، أعلمت شرطة حيفا البلدية بأنها غير مستعدة لمواجهة دموية مع أهالي الحليصة، وبأنها تعتذر عن المهمة لكونها لا تستطيع تنفيذ أوامر الهدم في الحليصة، وهذه تعدّ سابقة ليس لها مثيل سطّرها أهالي هذا الحي العربيّ المهمّش، بذلك يكون حي الحليصة قد شكل أكبر سد أمام مخططات الدولة منذ النكبة حتى العام 2005، وهو ما يدفع الحي ثمنه حتى اليوم من تهميش.

اجتمع أهالي الحي وأعضاء الكنيست العرب، قبيل اليوم الأخير لفترة الثلاثين يوماً، وطرحوا تخطيطاً بديلاً يقوم على مشاركة السكان فيه، وتم بناء ائتلاف مكوّن من 7 جمعيات شارك فيه 15 ممثلاً عن سكّان الحي، وأصدر وثيقة توصيات قدّمها للبلدية.

في أعقاب الضغط السياسي الشعبي والإعلامي، قدّمت البلدية خارطة هيكلية جديدة، ولكنها معيبة، حيث أن هناك بيوتا بدون طرق تؤدي إليها، وشوارع بمداخل بدون مخارج. فاعترض السكّان مرة أخرى، وقدّموا اعتراضا للبلدية.

بعد فشل البلدية في رسم مخطّط تهجيريّ تضييقي على السكّان، والتصدّي العنيد من قبل الأهالي، لم تعد البلدية تطرح أي خارطة هيكلية للحي.

وحتى اليوم، العام 2015، لا يزال حيّ عربيّ في مدينة تدّعي التعايش، بدون خارطة هيكلية.

سويطات: حي الحليصة يعاني من انعدام التطوير وأزمة تخطيط حارقة:

أمّا مخطّط المدن، عروة سويطات، وهو من مدينة حيفا، فقال لـ'عرب 48'، إن 'حي الحليصة يعاني من انعدام التطوير وأزمة تخطيط حارقة، فالحيّ غير مخطط، إذ تمّ تجميد الخارطة الهيكلية في الحيّ بعد احتجاج السكان ومعارضتهم لها. انعدام التخطيط والتطوير أدّى إلى الفقر المدقع وأزمة سكن، إذ تمّ هدم ما يقارب 83 مبنى خلال الـ 20 عامًا مقابل هجرة سلبية حادة وترك الأزواج الشابة الحيّ'.

وأضاف سويطات: 'المباني في حيّ الحليصة قديمة وبحاجة إلى ترميم، ومساحة الوحدات السكنية صغيرة غير ملائمة لراحة العائلات، إضافة إلى أن عدد الوحدات السكنية المطلوبة للأجيال الشابة الجديدة في الحي هو الأقل في حيفا، وفي المقابل فإن معدّل حجم الأسرة في الحي هو من الأكثر ارتفاعا في حيفا، بينما معدّل دخل الأسرة في الحي هو الأقل في المدينة، وهو أقل بثلاثة أضعاف من أحياء الكرمل على سبيل المثال، بالإضافة إلى أن 40% من المباني هي بإدارة الشركة الحكومية 'عميدار'، التي تبيع الأملاك لتتخلص من 'عبء' تطويرها لرجال أعمال من تل أبيب، إضافة إلى عدم توفير قروض بنكية لشراء الوحدات السكنية في الحي'.

وتابع: 'كل هذا يؤدّي إلى زيادة الفقر واحتدام ضائقة السكن في حي الحليصة وتفريغ الحيّ من الأزواج الشابة الراغبة في العيش والبقاء والتطور في الحي، وإفقار الفقراء العرب دون منحهم حقوقهم الأساسية في المدينة كالملكية والمنالية والاستدامة، لذا هناك حاجة ماسة للضغط الجماهيري والسياسي لتخطيط الحيّ بمشاركة السكان وتلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم وتدخّل البلديّة لتغيير معايير منح القرض البنكي، وتوفير محفزات للبنوك لمنع هجرة الأزواج الشابة إلى خارج الحي وتغيير حالة صراع البقاء إلى ابتكار مشاريع لخدمة الأجيال القادمة'.

يشكّل حي الحليصة، نموذجاً غاية في الأهمية، لمراقبة الأحياء العربية وما آلت إليه أحوالها منذ نكبة فلسطين وحيفا في العام 1948، فبعد أن سطّرت هذه الأحياء معارك ومراكز للحركة الوطنية في المدينة للدفاع عنها وعن المدن بجوارها، أخذت السلطات بتجنيد كافة إمكانياتها الماديّة والقضائية بهدف إقصائها، وجعل سكّانها لاجئين داخلها.

أمّا على الصعيد السياسيّ، فشكّل الحي نموذجا مقاوماً أيضاً في ما بعد العام 2000، بالتصدّي لأوامر هدم البيوت والمصادرة ومنع توطين اللاجئين الروس مكان السكّان الأصليين.

>> عودة إلى 'ملف حيفا'

 

التعليقات