قراءة في تشكّل الهويّات الرجولية في ظل الحكم العسكري

يحاول هذا المقال أن يفسح الباب أمام رواية لم نطرقها بشكل كاف كفلسطينيين، وهي رواية الخوف والصمت وأحيانا التواطؤ الذي كان ثمنا للقمة العيش.

قراءة في تشكّل الهويّات الرجولية في ظل الحكم العسكري

مواطنون عرب أمام محكمة الصلح في عكا عام ١٩٦٢ (تصوير: موشيه فريدمان)

'ببساطة كنا مخنوقين، ما كناش نقدر نروح ولا محل بدون تصريح، حسينا كأنا بجيتو. كان عمري اربعتاشر سنة لما مسكوني، ابوي عمل عملية بمستشفى العفولة بالرجعة مسكتنا الشرطة العسكرية اضطريت أكذب وأقول عمري 13 ومن يومها وأنا بالهوية أصغر سنة'.  (أبو عزب)

عرين هواري

ما قاله أبو عزب يشبه ما قاله الكثيرون من الرجال الذين رووا قصة شبابهم في ظل الحكم العسكري، الذي فرضته إسرائيل على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر منذ إقامتها ولغاية عام 1966، والذي من خلاله أكملت ما قامت به القوات الصهيونية خلال النكبة، من عمليات هدم وطرد وتشريد وسلب للخيرات المنقولة وغير المنقولة للشعب الفلسطينيّ.

أتناول في هذا المقال تشكّل الهويات الرجولية للرجال الفلسطينيين الذين عاشوا شبابهم فترة الحكم العسكري، وذلك بناء على تحليل مجموعة من المقابلات التي قمت بها مع مجموعة من أولئك الرجال[1]. وأدعي بأنه في ظل سياسات السيطرة والإقصاء والإفقار الذي عاشه الفلسطينيون في الداخل في تلك الفترة، والذي جعلهم رهينةً للقمة العيش وجعلها رهينةً لـ'حسن تصرفهم' أمام السلطة. في سياق كهذا، شكّل الكثير من الرجال هوياتهم الرجوليّة من خلال تكريس أدوارهم في الإعالة ورعاية الأسرة، وفي الابتعاد عن الحيز السياسي ولا سيّما النضالي منه. وأحيانا تشكلت تلك الهوية من خلال السعي من أجل نيل رضى السلطة والتواطؤ معها[2].

أخذ الحكم العسكري 'شرعيته' من أنظمة الطوارئء الانتدابية. ويؤكد الباحثون ورواية من عاش تلك الفترة، أن لقيام الحكم العسكري سببين رئيسيين: الأول أمني ناتج عن حقيقة إنشاء إسرائيل على نكبة فلسطين وشعبها؛ والثاني، السيطرة على السكان ومراقبة سلوكهم وتشكيل هويتهم. ولم يكن مفهوم إسرائيل للأمن يعني الحماية من الخطر المباشر على وجودها المادي وعلى مواطنيها اليهود فقط، وإنما، وبالأساس، كان يعني منع عودة اللاجئين، السيطرة على الحيز وتهويده، وكذلك تأمين غالبية عظمى من السكان اليهود، سلب الموارد واستغلالها وتحديد الثقافة المهيمنة وكلها أهداف تنسجم والتوجه الاستعماري الاستيطاني للدولة. وبالتالي نُظِرَ إلى الفلسطينيين الذين تحولوا عنوة لمواطنين في إسرائيل كخطر أمنيّ ليس بسبب ما فعلوا وإنما بسبب ما 'قد يفعلون'.

امتازت فترة الحكم العسكري بالتنكيل الاقتصادي، القانوني، السياسي والمعنوي بالفلسطينيين: السيطرة عن طريق القوانين تحولت لمركب هام في علاقة الدولة والغالبية اليهودية بالأقلية العربية بهذه الفترة بالذات. فقد تم استعمال القانون والتجريم من أجل السيطرة السياسية على الأرض والأملاك، وأيضا على الفلسطينيين في إسرائيل. وقد هدفت السياسة الأمنية إلى الحفاظ على الوضع كما هو عليه، أي منع الفلسطينيين من العودة لأراضيهم، إبعادهم عن الأملاك التي بقيت وراء المهجّرين، ومنعهم من التحرك بحريّة وإجبارهم على حمل بطاقة هوية أينما تحركوا. إلى جانب مؤسسة الحكم العسكري، عملت بالتكامل والانسجام الشرطة وجهاز الأمن الداخلي (شاباك). وقد كان الحاكم العسكري الوسيط الوحيد الذي مرت من خلاله كل الممارسات الحكومية المختلفة تجاه المواطنين العرب.

كان تقييد الحركة أكثر الممارسات التي أثرت وضيّقت على الحياة اليومية للفلسطينيين، حيث منع الحراك من مكان إلى آخر من دون إذنٍ من الحاكم العسكريّ. هذا التضييق منع إيجاد عمل وفي حالات كثيرة منع من الوصول إلى عيادة الطبيب، مما جعل الوصول إلى لقمة العيش تحديًا كبيرًا، ناهيكم عن حرمان الناس من الممارسات الاجتماعية البسيطة كالزيارات والتجول في الطبيعة.

سيطرت سلطات الحكم العسكري بشكل شبه مطلق على العمل السياسي، مانعةً ومجرِّمَة كل أنواع التنظّم السياسي، وبالتالي كانت قيادات العائلات والمخاتير هي المقبولة عند الحكومة. الحزب الشيوعي الإسرائيلي كان الإطار السياسي غير الصهيوني الوحيد المشروع في تلك الفترة، وقد كان له دور هام بالنضال ضد الحكم العسكري.

إضافة لملاحقة كل عمل سياسيّ معلن، جنّدت الدولة أيضا جهاز المخابرات من أجل مراقبة العمل المخفي أو غير المعلن، من خلال سياسية العصا والجزرة، كإعطاء 'امتيازات' لكل من يتعاون معها. هذه الامتيازات كانت عبارة عن خدمات أساسية تحق للمواطن بكونه مواطنا وأحيانا للإنسان بكونه إنسانا حتى من دون مواطنة. وعن طريق السيطرة المطلقة للمخابرات في تعيين المعلمين، مراقبتهم، مراقبة الطلاب، المدراء والمناهج، أنشأ جهاز التعليم جيلاً خائفًا من المعلمين والطلاب على حد سواء. أبو رائد الذي كان يعمل معلما وحاول الحصول على وظيفة مدير مدرسة روى قائلا:

'لحد 1969 اشتغلت ببلدي، كنت نائب مدير لما المدير قرر يترك. قال لي 'تطلع كله شغلة شين بيت' رحت عند المفتش وقلت له أنا نائب مدير من ثلاث سنين ومسؤول عن برامج التعليم، قال لي المفتش: هذا بحر واللي بعرف يسبح يسبح، واللي واسطته أكبر بالشين بيت بوخذ الوظيفة'.

وفي هكذا واقع من هو الرجل وما هي الرجولة؟

الرجل المعيل:

'الرجل المثالي هو اللي بحافظ على كرامته من البيت للشغل ومن الشغل للبيت' (أبو ماجد)

'من معاش الخمسة آلاف شيكل علمت ولادي بالجامعة'  (أبو فتحي)

الخطاب المهيمن حول الرجولة والذي حظي بالإجماع من قبل أولئك الرجال، هو الذي يربط الرجولة بالحيز الخاص أي بالإعالة، وبناء الأسرة وتبعاته من العمار وتزويج الأولاد و'السترة' بين الجيران.  قد تبدو الإعالة كالصفة المركزية للرجولة، وقد تحضر كحاجة يومية وحياتية. وهي أحيانا مجلبة للفخر والمكانة وفي أحيان أخرى همّ مرتبط بالجهد والألم. ولكنها تُطرَح دائما كوظيفة حصرية للرجل، ولم يستأنف على هذه الوظيفة أي من الرجال الذين قابلتهم.

الرجل في الحيز العام:

'الرجل المثالي هو اللي قد حاله بعملش إشي ضد الدولة واللي هني راضيين عنه'  (أبو سامح)

'رئيس بلدية الناصرة عام 1948 هو الرجل المثالي بنظري، لأنه سلّم الناصرة من دون مقاومة وما سقطت مثل يافا وحيفا وعكا'  (أبو فتحي)

فيما نرى الخطاب حول رجولة الحيز الخاص، خطابًا واضحا وغير قابل للاستئناف، نجد أنه بما يتعلق بالحيز العام هنالك عدة خطابات مختلفة أحيانا وقد تكون متناقضة في أخرى. فهنالك من يرى الرجولة نضالًا وصمودًا ومقاومة للقمع وللحكم العسكري، وهنالك من يراها ابتعادًا عن الحيز العام والعمل السياسي. وآخر قد يراها هروبا من أي مواجهة مع السلطة، ومرتكزة بشكل حصري بالبيت والأسرة. وعند البعض ترتبط الرجولة بالخنوع للسلطة أو بالقرب منها حيث الرجل هو المتواطِئ  و'المرضي عنه' كما رأينا في الاقتباس أعلاه.

ومن أجل ممارسة الرجولة وأحيانا من أجل ممارسة لإستراتيجيات البقاء، تظهر أحيانا ما يسمى بـ'الرجولة المنافقة' التي تعلن الولاء والتقدير للسلطة بينما تخفي كرهها لها. والتي قد تشير فيما تشير إلى أن ممارسات الحكم العسكري نجحت بإنشاء هوية مشوهه تسمى 'عرب إسرائيل'، والتي ورغم حمل بعضنا مشروعًا لمقاومتها، إلا أن إسقاطاتها لا تنعكس على الرجولة فقط، إنما على سلوكياتنا كمجتمع ولغاية اليوم.

'حتى متندم كانوا يفوتونا بجو عيد الاستقلال والناصرة بشكل خاص كانت تنعجق، كانت توجيهات، بتعرفي لا ما كانوا يضغطوا علينا هالقد كأنوا بدهن يثبتوا الولاء، كان بكفي مكسيموم نرفع علم والمدير يقول خطاب بساحة المدرسة وخلص، لويش مهرجانات'. (مدرس)

ويلخص أبو نبيل الطريقة التي حاول بها بعض الرجال الصمود والدفاع عن الكرامة في ظل سياسات السيطرة على لقمة العيش، حين يفسر لماذا لم يوافق أن يتعلم في دار المعلمين حين اقترحوا عليه ذلك قائلا:

'كان في كثير ضغوطات، اذا المعلم قال كلمة بكسروا له منخيرة وبده يروح يبكي ويبوس الأيادي، والأيادي اللي بده يبوسها مش نظيفة. أنا اخترت اشتغل نجار، ولا أبوس ايد حدا ولا حدا يبوس ايدي. بديش اترجى حدا ولا يقولوا عني جاسوس'.

يحاول هذا المقال أن يفسح الباب أمام رواية لم نطرقها بشكل كاف كفلسطينيين، وهي رواية الخوف والصمت وأحيانا التواطؤ الذي كان ثمنا للقمة العيش. الرواية التي لم تأخذ حقها أمام رواية الصمود والمقاومة بالمفهوم المتعارف عليه للكلمة، حيث طغت الأخيرة سياسيًا وأكاديميًا لعقود طويلة ولم تفتح المجال أمام الروايات الأخرى. قد تبدو هذه الرواية صعبة ومحرجة وربما مخجلة بعض الشيء، ولكنها هامة وضرورية لفهم واقعنا ولفهم الهويات الجندرية داخل مجتمعنا وكذلك ولفهم الهوية المشوّهة المسماة 'عرب إسرائيل'. هذه رواية، برأيي، لا تقل إنسانية عن رواية الصمود والبطولة.

* محررة مشاركة في مجلة 'جدل' ومنسقة برنامج دعم طلاب الدكتوراه - مدى  الكرمل.

اقرأ/ي أيضًا | الحكم العسكري: هل انتهى حقا؟


[1] يعتمد المقال على أجزاء من أطروحة اللقب الثاني للكاتبة في موضوع دراسات الجنوسة (الجندر) في جامعة بار أيلان والتي كتبت بإشراف الأستاذة أورنا ساسون - ليفي.

[2] الأمر الذي كان له الأثر أيضا في تكريس دونيّة للمرأة من خلال اقصائها عن العمل خارج منزلها و'تكريمها'  كأم مضحية لأجل أولادها وزوجها محافِظَة على 'سترتها'. ولكن لن يتسع المقال لتناول ذلك الاثر. .

التعليقات