حين تآمر الإنجليز على الفلسطينيين في طبرية

لُقبت طبرية بعروس الجليل، كانت جميلة ولم تزل، لكنّ المؤامرة مرمرت حياة أهلها العرب، وجعلتهم نازحين في وطنهم. ولا يزال أهلها يبكون غيابها، ويلومون أنفسهم لأنَّهم في ليلة 18 نيسان/ إبريل 1948، أُجبروا على تركها، لتسقُط أولُ المدنِ الفلسطيني

حين تآمر الإنجليز على الفلسطينيين في طبرية

لُقبت طبرية بعروس الجليل. كانت جميلة ولم تزل، لكنّ المؤامرة مرمرت حياة أهلها العرب، وجعلتهم نازحين في وطنهم. ولا يزال أهلها يبكون غيابها، ويلومون أنفسهم لأنَّهم في ليلة 18 نيسان/ إبريل 1948، أُجبروا على تركها، لتسقُط أولُ المدنِ الفلسطينية.

تعلّم جبرا قردحجي في طبرية، وهو اليوم ابنُ الـ88 عامًا، كان في شبابه متطوعا مع الثوار، ووصل عددهم إلى مائتي ثائر حين سقطت طبرية.

قال أبو حبيب قردحجي، لـ'عرب 48'، إن 'اليهود في ذلك الحين احتاجوا عمالا لقطف الزيتون فأخذونا إلى اللد والرملة، كنّا نعمل في قطف الزيتون، ونعود إلى بيوتنا، هذا العمل لم يستمر طويلا، بينما ظلّلت أعمل في مصنع لصهاريج البنزين، حتى وصلت سن التقاعُد'.

شد الخناق على الطبرانيين

وقال قردحجي، إن 'البريطانيين استماتوا في دعم اليهود، ومزَّقوا العلاقات بين اليهود والعرب، وصارت العدائية تتعمق أكثر فأكثر. لم نكن نرغب في الخروج مِن طبرية، لكنَّ العنف الذي مورس ضدنا ودعوة وجيه طبرية المرحوم صدقي الطبري ورئيس بلدية طبرية ليكونا شهودًا على الهدنة بين العرب واليهود، أرغمنا على الخروج، وتمّ ترحيلنا عام 1948، عنوةً عن طبرية، بعد أن اقتحم البريطانيون واليهود فندق الجليل وسيطروا على المدينة، وعجزت الأسلحة المستوردة من سورية عن الصمود أمام عنف الرشاشات، واستشهد كثيرون، وخاف آخرون، فوافقوا على ركوب باصات التهجير التابعة لشركة الجليل الطبرانية وباصات أخرى بريطانية، وخُيِّر المهجرون بين الأردن عبر سمخ أو الوصول لجسر المجامع، أو للناصرة.

اختار البعض الآخر ركوب القوارب نحو سورية. وفي الناصرة استقبلتنا الأديرة فسكنّا في 'الكازانوفا، 'التيراسانطة' وأديرة ومدارس أخرى، وبقينا حتى العام 1958، حتى اشترينا بيوتا في المدينة. لم نلتقط أنفاسنا من الحرب التي تعرّضنا لها في طبرية، وإذ بالحاكم العسكري يبعدنا عن بيوتنا ويخرجنا من الحواصل والكراجات والبيوت التي كانت بملكيتنا في طبرية، وفُرض عليها لاحقًا قانون 'الحاضر غائب'.

تمّ تهجير عائلة قردحجي إلى سورية ولبنان، بينهم عمي سالم قردحجي، الذي كان مالكًا كبيرًا في طبرية، قبل أن يخسر كل شيء، وينهب اليهود جميع الحواصل والكراجات والبيوت.

بعد شهرٍ مِن النكبة، دفعنا 10 ليرات للسائقٍ كي نستعيد ما تبقى لنا في البيت، فوافق الحاكم العسكري. ولمّا عُدنا إلى طبرية لم نجد شيئا في البيت سوى الحجارة، ويُعتبر تصرف الحاكم العسكري، غدرًا ولؤمًا. وكنّا حين نود زيارة المدينة نحتاج إلى تصريحٍ ينتهي قبل الغروب، فصرتُ أشعرُ بمزيدٍ من الاغتراب والشوقِ والضياع، فقللتُ من الزيارات، خاصةً أنني لم أستطع أن أستعيد شيئًا من أملاكنا التي بقيت في طبرية، وأقيمت عيادة صحيّة في بيتنا، بينما تحوّلت البيوت العربية في طبرية إلى فنادق'.

بين طبرية والناصرة

وأضاف قردحجي أن 'طبرية كانت من أوائل المدن الفلسطينية التي سقطت بيد اليهود، تلتها حيفا، وفي حينه هجر ستة آلاف عربي تحت التهديد بالسلاح، بعد تواطؤ الانتداب البريطاني مع العصابات الصهيونية، انتهى حالُ الطبرانيين فأصبحوا لاجئين في الوطن والغربة، معظمهم انتقل إلى الناصرة ويافة الناصرة، وآخرون هجروا للأردن ولبنان وسورية. وقيل أنّ العلاقات بين اليهود والعرب كانت جيدة، وكانت الأعراس مشتركة في المدينة، وظل الوضع على ما هو عليه، حتى جاء قرار 'التقسيم'، فقرّر العرب، الذود عن النفس لمواجهة مطامع اليهود في سلب الأراضي، وشُكلت لجنة قومية برئاسة الشيخ كامل الطبري، ووصلت مساعدات من سورية مع مناضل من طبرية يدعى صبحي شاهين، عبارة عن 25 بندقية، وبعض الذخيرة في حين بلغ عدد المقاتلين اليهود في طبرية ألف مقاتل مدججين بأحدث الأسلحة، أما الدعم المحلي فوصل من الناصرة بقيادة محمد العواريني وذياب الفاهوم، ليصل عدد المدافعين عن المدينة لـ200 مقاتل مقابل 1000 صهيوني، تحضيرًا للمعارك. في الرابع من نيسان/ إبريل بدأت المناوشات تشتد، فغادر اليهود الذين كانوا يسكنون بجوار العرب إلى أحياء يهودية خالصة، واستمر القتال نحو أسبوع، قبل ان يتدخل الضابط البريطاني إيفانس'.

وأوضح أنه في تلك الحقبة، 'لم يرُق للضابط البريطاني الوضع، فأرسل في الحادية عشرة ليلا سيارة عسكرية لإحضار صاحب البنك العربي، صدقي طبري، ورئيس البلدية اليهودي 'دهان' وحمّلهما مسؤولية أي أعمال عنف تحصل، مهددًا أنّ المدفعية البريطانية ستقصف المنطقة التي سيصدر منها إطلاق نار. بعد الهدوء ليومين أو ثلاثة، عادت المناوشات من جديد، فأصدر البريطانيون أمرًا بمنع التجول، وكان واضحًا منذ البداية أنّ البريطانيين مع اليهود، ثم جاءت 'المؤامرة الكبرى' وإذ بالعصابات اليهودية تحتل فندق الجليل، وبدأوا بقصف الأحياء والبيوت العربية في المنطقة السفلى والسوق، فسيطروا على المنطقة، فانسحب المناضلون، منهم من لجأ إلى قرى وبلدات أخرى وآخرون ركبوا الزوارق وأبحروا بها إلى الشواطئ الشرقية للبحيرة.

وأعلن الجيش البريطاني 'أنّ اليهود لا يريدون العرب في المدينة، لذلك عليكم الخروج إما إلى الأردن أو الناصرة من دون أخذ أي شيء معكم، فقط ما ترتدونه'. إلاّ أنّ القصة لم تنته هنا، فرغم قرار التهجير واصلت العصابات جرائمها وبدأت تطلق النار، فقتل اثنين من العرب هما صبحي حموي والقشقوش وأصيب ثالث، فأثار ذلك حفيظة كاهن رعية الروم الكاثوليك، الأب نتانئيل شحادة، الذي توجه للضابط البريطاني مطالبا بوقف المهزلة، فطلب الضابط من اليهود وقف ذلك ليخرج أبناء طبرية من مدينتهم، الذين اختاروا الأردن حيث نُقلوا بالشاحنات العسكرية إلى جسر المجامع، فيما استقل آخرون باصات 'الجليل' وأخرى بريطانية إلى الناصرة وهم يرمقون مدينتهم بنظرات طافحة بالأسى والخوف من المجهول. بعد أسبوعين من وصولنا قال لنا البريطانيون أنّه بإمكاننا أن نستقل شاحنات ونذهب إلى طبرية وننقل ما بقي لنا من أدوات وأغراض في بيوتنا.

ويتابع: حين وصلنا فوجئنا بعدم وجود أي شيء في البيوت، لقد نهبوها لم يتركوا حتى اللبنة والجبنة، سرقوا كل شيء، ثم عدنا إلى الناصرة بخفي حُنين، بعد أن دفع كل واحد منا 10 ليرات أجرة الشاحنة التي استأجرها. سكنت العائلة وعائلات لاجئة أخرى في 'الكازانوفا' بالناصرة لعشرة أعوام، بعدها تشكلت لجنة بمساعدة المطران حكيم وقاموا ببناء مساكن لهم. وفي العام 1954 تزوّجت من مرتا الداي وأنجبنا 3 أولاد وأربع بنات. وعملت في مصنع لصهاريج البنزين حتى سن التقاعد'.

غريبٌ في وطني!

وأنهى قردحجي أنه يشعر بالغربة في الوطن، لأنَّه لا يستطيع العودة إلى طبرية إلا زائرا، غريبًا في وطنٍ فارقه وهو في العقد الثالث، ويحن جبرا لطبرية، إذ كان زبونًا في المقاهي والمطاعم، والمتربول لعائلة قهوجي، ومطعم أبو إلياس الطبراني، والعكاوي ومقهى منير أبو علي، وآخر لمحمد علي... (غريبٌ في وطني) قالها بحزن وأسى وتوقف عن الكلام.

التعليقات