د. مناع: لا بطولة وراء نجاتنا من التهجير

كان عمره سنة واحدة عندما تم حشر أفراد عائلته مع العديد من الأهالي، في إحدى الشاحنات العسكرية التي نقلتهم غربا إلى البروة، ومن هناك باتجاه مرج ابن عامر وصولا إلى وادي عارة، حيث أنزلوهم وهم يصرخون "إلى الملك عبد الله".

د. مناع: لا بطولة وراء نجاتنا من التهجير

(عرب 48)

*هناك مجموعات ساعدها وضعها وهناك من ساعد نفسه وحاور وداور ليبقى

*لا أساس لادعاء الوقوف أمام سيارات التهجير وهناك من كذبة الكذبة وصدقها

*دعم الشيوعيين قولا وفعلا لإقامة إسرائيل كان ترجمة لتأييد ستالين لقرار التقسيم

في المقابلة التي أجرتها معه لـ "هآرتس" مؤخرا، اختارت دالية كاربل الإمساك بالقضية الشخصية لعادل مناع التي روى من خلالها قضية الناجين من النكبة، في كتابه "نكبة وبقاء"، مسلطة الضوء على تحميل أفراد عائلته مع المئات من أهالي مجد الكروم والقرى المجاورة في شاحنات وطردهم إلى شرق الأردن، وذلك بعد شهرين من انتهاء المعارك في تشرين ثاني/نوفمبر من عام 1948.

د. عادل مناع

كان عمره سنة واحدة عندما تم حشر أفراد عائلته مع العديد من الأهالي، في إحدى الشاحنات العسكرية التي نقلتهم غربا إلى البروة، ومن هناك باتجاه مرج ابن عامر وصولا إلى وادي عارة، حيث أنزلوهم وهم يصرخون فيهم قائلين "إلى الملك عبد الله".

من هناك بدأت رحلة اللجوء، حيث بات أفراد العائلة ليلة في أحد مساجد قرية عارة، قبل أن يكملوا مسيرتهم إلى نابلس مشيا على الاقدام، ليقضوا شتاء 1949 الشديد في خيام مكتظة وظروف صعبة، قبل أن يغادروا المخيم في نيسان/إبريل بتشجيع من الأردنيين، إلى لبنان عبر سورية ليستقروا في مخيم عين الحلوة.

عشرات وربما مئات الأطفال الفلسطينيين لم يحالفهم الحظ في تجاوز رحلة اللجوء تلك، إلا أن مؤلف "نكبة وبقاء" نجا رغم المرض الذي اقعده عن المشي لسنتين ونصف. وفي عام 1951 عادت العائلة في زوق صيد إلى شاطئ عكا ومن هناك إلى مجد الكروم، حيث تمكنوا من البقاء لأنهم كانوا متواجدين في البلدة خلال التعداد السكاني الذي أجرته إسرائيل في كانون أول/ديسمبر عام 1948 وحصلوا على أرقام هويات.

كان طفلا في العاشرة عندما سمع هذه القصة من والده، للمرة الأولى، بعد أن عاد فرحا بحصوله على دورين في عرض بمناسبة مرور الذكرى العاشرة لـ "استقلال إسرائيل" وأراد إشراك والده بهذه الفرحة. يومها عرف الفرق بين "الاستقلال" و"الاستحلال" بعد أن سمع من والده حكاية عائلته وبلدته التي عرف لاحقا إنها جزء من حكاية ونكبة شعب كامل.

كتاب عادل مناع "نكبة وبقاء" الذي يحتل "الباقون" في وطنهم دور البطولة فيه، يعيد إلى الواجهة إشكالية النزوح والبقاء، وتساؤل فيما إذا كان الباقون في الوطن أبطالا في الواقع أيضا أم أقعدهم الخوف؟ مقابل سؤال هل كان النازحون مجرد جبناء أم جرى تهجير بلداتهم بالذات لأنها قاومت؟ وما هي الحقيقة التي تستتر خلف الرواية التي ترددت على لسان الشيوعيين بأننا نحن من صمدنا وبقينا؟

مناع: رواية الشيوعيين وكأنهم هم من وقفوا أمام سيارات التهجير ومنعوا الناس من النزوح لا أساس لها من الصحة، لأنها تفتقر إلى حقائق تاريخية تسندها، فهم (الشيوعيون) اضطروا، مثل غيرهم أيضا، أن ينقذوا أنفسهم ويهربوا من القصف في حيفا وغير حيفا. الفرق إنهم عادوا، ولكن ليس لأنهم عملاء كما يحلو للبعض الادعاء، ولكن لأن إسرائيل لم تشأ إغضاب الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي الذي كانت بحاجة لدعمه منحتهم معاملة خاصة، هذا ناهيك عن الدعم الذي تمتعوا به من "مبام" التي كان لها وزيرين من 12 في الحكومة المؤقتة.

عرب 48: ولماذا احتاجت إسرائيل لدعم الاتحاد السوفييتي ومنظومته، بعد موافقته في الـ 47 على قرار التقسيم، الذي شرعن قيامها على الأراضي الفلسطينية؟

مناع: لأن إسرائيل لم تكتف بقرار التقسيم، بل احتلت كما هو معروف أجزاء واسعة من الأراضي التي كانت مخصصة للدولة الفلسطينية مثل الجليل والنقب، وهي كانت تتخوف من أن يلزمها العالم بالانسحاب من هذه المناطق، أو أن يمس ذلك بمكانتها كدولة معترف بها من الأسرة الدولية، ولذلك راعت "مشاعر ومصالح" دول المعسكر الاشتراكي في قضية التعامل مع الشيوعيينن مثلما راعت مشاعر الدول الغربية في التعامل مع المسيحيين.

عرب 48: إذا، رواية نحن الذين صمدنا وبقينا لا تتعدى امتياز أو حظوة معينة، فاز بها بعض الأشخاص من قيادة الشيوعيين ممن عادوا من لبنان أمثال أميل حبيبي؟

مناع: للإنصاف موقف الشيوعيين كان محكوما بموقف الاتحاد السوفييتي وستالين بالذات، الذي لسبب ما اقتنع إن الصهيونية ذاهبة لإقامة دولة اشتراكية في فلسطين ولذلك غير موقفه منها، وهو تحول بدأت تظهر ملامحه منذ عام 1945 وترجم بخطاب غروميكو في الأمم المتحدة ثم الموافقة على قرار التقسيم عام 1947، وترجمة لتأييد هذا القرار دعم الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية والشيوعيين في البلدان العربية وفلسطين الحركة الصهيونية في حربها من أجل إقامة دولتها الذي نص عليها هذا القرار قولا وفعلا عبر مدها بالسلاح المطلوب (صفقة السلاح التشيكية التي شملت نحو 60 طائرة) والتي كان لها تأثير حاسما في إنهاء المعركة لصالح الحركة الصهيونية.

ولكن للإنصاف فإن الشيوعيين الفلسطينيين يهودا وعربا، ما كانوا من القوة بحيث يغير موقفهم مجرى الأحداث، لا على التأثير على موقف الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ولا في المستوى الميداني والسياسي في فلسطين، وهم تحملوا أصلا وزر موقف الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية بسبب ضغفهم.

أما بالنسبة لنا، الذين بقينا بعد النكبة، فنحن لا أبطال ولا خونة، وفي هذا المقام يحضرني ما كتبه محمود درويش على إثر صدور كتاب غسان كنفاني حول الأدب الفلسطيني المقاوم عام 1966 والذي عرف العالم العربي بشعراء المقاومة، فانهالت علينا قصائد المديح والتمجيد من العالم العربي الذي كان يعتبرنا قبل ذلك خونة، وقتها كتب درويش "رحمونا من هذا الحب القاتل" وقال نحن لسنا أبطالا ولا خونة، وصدق مئة بالمئة، هناك من كذبوا الكذبة وصدقوا نفسهم، وكأنهم ساهموا في منع تهجيرنا وتغنوا بصمود وهمي، كما إننا لسنا أبناء مقعدين لم يتمكنوا من العدو تحت زخات الرصاص مثل الباقين.

عرب48: قلت في مقابلتك الأخيرة مع "هارتس" إنك "بوقاحتك" لم تكتف بخطف الرواية من بيني موريس وأمثاله من المؤرخين اليهود، ممن انتقدوا كتابك بل استخدمت مصطلح بقاء "הישרדות" الذي أصبح بعد الحرب العالمية الثانية حكرا على اليهود، علما إنك أكدت أن الفلسطينيين لم يتعرضوا لإبادة ماذا تقصد بالبقاء، أو غريزة البقاء؟

مناع: عند وقوع الكارثة وقد وقعت في فلسطين، هناك مجموعات سكانية ساعدتها وضعيتها وهناك مجموعات "ساعدت نفسها" وهناك من ناور وداور وخاطر لينجو من التهجير، علما إن البقاء لا يقتصر على النجاة من التهجير، بل إن صراع البقاء أستمر بعد الـ 48 وخاصة من بقي في الوطن ولكن في الشتات الفلسطيني أيضا.

في الجليل الأعلى، مثلا، أدرك الناس أنه إذا تركت بلدك فإن إسرائيل ستمنعك من العودة فتشبثوا بالبقاء أكثر، وذلك لأن محاولات التهجير جرت في نهاية الحرب وكل الذين هجروا من حيفا وغيرها حاولوا العودة وإسرائيل، منعتهم، وهناك عائلات خاطرت ومنها من قضى على طريق العودة ومنها من نجا مثل عائلة محمود درويش التي عادت إلى دير الأسد.

وفي مجد الكروم، مثلا، وبعد أن وقع صك تسليم كما حدث في الكثير من البلدات، بعد أسبوع أي في 5-6 آب عادت فرقة أخرى من الجيش الإسرائيلي وارتكبت مذبحة على ساحة العين لتخويف الناس، وعندما لم يتركوا عاد بعد شهرين وحمل الناس بشاحنات وطردهم.

عرب 48: أتريد القول إن الناس بعد أن خسرت المعركة أصبحت تصارع على البقاء؟

مناع: صحيح، الناس رأت بأم أعينها كيف خسر النازحين الوطن، وسمعوا عن الظروف التي يعيشون فيها في مخيمات اللجوء ولذلك تشبثوا بأرضهم أكثر، رغم القتل والمذابح. في عيلبون بعد ارتكاب المذبحة مشى الجيش الإسرائيلي مع الأهالي حتى الحدود اللبنانية، ولكن رجال الدين الذين بقوا في الكنائس وبعض كبار السن اتصلوا بالناصرة، التي ظلت عامرة ومن هناك جرى الاتصال بكنائس العالم وبالفاتيكان، كما أن بطريرك الموارنة الذي كان صديقا لإسرائيل أبدى انزعاجه، فقامت الدول الأوروبية بتشكيل ضغط على إسرائيل واضطرتها إلى التراجع واعتبار ما حدث وكأنه وقع بالخطأ.

عر48: وهذا السبب هو ما أبقى الناصرة عامرة؟

مناع: بن غوريون كان واعيا منذ عام 1947 إنه في أي حرب قادمة يجب مراعاة وضع ثلاث مدن، هي بيت لحم والقدس والناصرة لحساسيتها لدى العالم الغربي، بسبب قدسيتها للديانة المسيحية ويسكن فيها مسيحيون.

بيت لحم وشرقي القدس لم يتم احتلالهما، والناصرة ساعدها أيضا إنه جرى احتلالها بعد أسبوع فقط من تهجير سكان اللد والرملة والقرى المحيطة بهما وما أثاره ذلك من ردود فعل عالمية، فقد جرى تهجير أهالي اللد والرملة في رمضان ومشى الناس في الجبال في طريقهم لرام الله، وهم صائمون وفي أكثر يوم حرارة من شهر تموز، حيث مات في الطريق أكثر من 20 شخصا وخرجت صحيفة نيويورك تايمز وغيرها ضد الملك عبد الله الذي لم كان جيشه يرابط في اللطرون على بعد 3-4 كيلومترات من اللد ولم يجرؤ على تحريكه لمساعدة الناس.

بن غوريون تخوف من تكرار ذلك في الناصرة بعد أسبوع فقط، 12 تموز اللد والرملة و17 تموز الناصرة، ولذلك أصدر أمرا مكتوبا يقضي بعدم المس بالمواطنين وأملاكهم وأماكنهم الدينية وأمر باطلاق النار على كل جندي يخالف هذا الأمر.

بالرغم من ذلك، فقد جاء في اليوم التالي أمرا شفهيا من بن غوريون بطرد أهالي الناصرة، الا أن قائد الفرقة المسؤولة في الناصرة وهو كولونيل كندي يدعى دولكنمان، حارب في الحرب العالمية الثانية، وجاء ليتطوع في صفوف الحركة الصهيونية، هذا لم يكن مثل ديان ورابين والون ينفذ أوامر بن غوريون، بالإشارة فطلب أمرا مكتوبا وأصر على أن إلغاء الأمر المكتوب الأول يجب أن يتم من خلال أمر مكتوب آخر، عندها اقترح كرمل قائد المنطقة الشمالية استبداله وتنفيذ العملية بواسطة قائد آخر، إلا أن الموضوع لم يخرج إلى حيز التنفيذ لأنه كان قبل يوم واحد من دخول وقف إطلاق النار في الجليل في 19 تموز.

ولكن حتى لو كان الأمر سيخرج إلى حيز التنفيذ ما كانوا ليطردوا المسيحيين بسبب الحساسية التي ذكرتها آنفا.

عرب 48 : هناك مجموعات سكانية أخرى لم تنج بسبب الحساسية المذكورة بل لأسباب أخرى كما جاء في كتابك، مثل الدروز والبدو وقرى الزعبية؟

مناع: قد يحتاج ذلك إلى حلقة أخرى.

التعليقات