منصور: "بلفور منح الصهيونية أكثر من دولة وحدود سياسية"

مصطلح وطن قومي هو أوسع بكثير من مصطلح دولة، وحدوده أوسع من حدود سياسية لدولة، والقصد هو أن كل يهودي في العالم عليه أن يشعر أن له "وطن قومي"

منصور:

اللود أرثر بلفور (1848 - 1930)

100 عام سقط خلالها أكثر من 100 ألف شهيد فلسطيني وعربي في الصراع الذي اشتعل فور الإعلان عن هذا الوعد المشؤوم، الذي منح فيه من لا يملك، بريطانيا، التي لم تكن قد حصلت بعد حتى على تفويض الانتداب، علما بأن قواتها كانت تحتل جنوب فلسطين، لمن لا يستحق، الحركة الصهيونية، التي ادعت تمثيل اليهود الذين كانوا يشكلون في حينه 7% فقط من سكان فلسطين، وتجاهل 93% من سكانها، وهم أبناء الشعب الفلسطيني، الذي تسبب هذا التصريح باقتلاعه من وطنه وإحلال مهاجرين يهود على أرضه.

بعد 100 عام جرى خلالها استكمال الحركة الصهيونية لسيطرتها على كامل فلسطين التاريخية، وتوسعها باتجاه مناطق عربية مجاورة، بكل ما يرافق ذلك من احتلال وعدوان واستيطان وبطش واضطهاد يومي يلحق بأبناء الشعب الفلسطيني في الوطن وفي الشتات، تقف رئيسة وزراء بريطانيا، بوقاحة منقطعة النظير، لتعلن فخر حكومة جلالتها بدور بلادها في إقامة دولة إسرائيل، رافضة الاعتذار عن خطيئتها التاريخية التي تسببت، وما زالت بالظلم والويلات للشعب الفلسطيني.

وعد بلفور لم يكن مجرد تصريح مكتوب بلسان وزير خارجية، بل هو تعبير عن رغبة أو إرادة استعمارية عبرت عن ذاتها مباشرة بعد احتلال القوات البريطانية لجنوب فلسطين، بالسماح لـ"وفد النواب"، بالحضور إلى فلسطين والتصرف وكأنه الحاكم الفعلي للبلاد وليس الحكم البريطاني برئاسة الجنرال أللنبي.

وايزمن وأعضاء الوفد المرافق له استقبلوا استقبال الملوك، في القدس وتل أبيب والمستوطنات اليهودية، ورافقهم ضباط بريطانيون يهود بالزي العسكري (جيمس روتشيلد وأدوين صموئيل، ابن المندوب السامي البريطاني الأول، مما أضاف بعدا رسميا لظهورهم، كما يكتب شلومو أفنيري، الذي يقول إن وايزمن قرر أيضا وضع حجر الأساس للجامعة العبرية على جبل المشارف في القدس، على أساس حقوق ملكية أراضي كانت في أيدي الهستدروت الصهيونية).

وهكذا ودون تفويض من أحد، أقام وايزمن ووفد النواب، فعليا، البنية الأساسية لما سيصبح مستقبلا المؤسسة ذات الحكم الذاتي للاستيطان اليهودي في فلسطين ـ الكنيست والجمعية العمومية للمندوبين، حتى أن الجنرال اللنبي نفسه لم تعجبه هذه الخطوات، التي كانت بمثابة إنشاء نوع من الإدارة الموازية للحكم العسكري. وقد توجه باحتجاج للندن، لكن من دون فائدة.

وعد بلفور وضع حجر الأساس للمشروع الصهيوني الذي ابتلع الأرض واقتلع الشعب وبسط سيطرته على كامل فلسطين التاريخية، وما زال منذ 100 سنة يحظى بدعم دول الاستعمار القديم والجديد التي تحتضن دولته وترعاها، ولذلك لا نتوخى الاعتذار من بريطانيا ولا نستغرب أنها ما زالت تفخر بدورها في إقامة إسرائيل رغم انحسار دورها الاستعماري، كما يقول د. جوني منصور.

بمناسبة صدور كتابه "مئوية تصريح بلفور"، أجرى "عرب 48" المقابلة التالية مع د. منصور لإلقاء المزيد من الضوء، على حيثيات الوعد المشؤوم وتداعياته.

عرب 48: فهمنا أن الكتاب، الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، لم تصل نسخا منه إلى البلاد بعد، ولذلك لم يتسن لنا الاطلاع عليه، ماهي الموضوعات التي تناولها الكتاب؟

جوني منصور

منصور: الكتاب تناول ثلاثة محاور رئيسية تتعلق بتصريح بلفور، المحور الأول يرتبط بالخلفيات التاريخية التي أدت إلى إصداره ودور الشخصيات الصهيونية والبريطانية الفاعلة في تلك الفترة، كما تناول العلاقات بين الدول الاستعمارية، في حينه بريطانيا وفرنسا، وبين الحركة الصهيونية، وكذلك علاقات الأخيرة بروسيا وألمانيا، التي كان يمكن أن تصدر تصريح كهذا أيضا، لولا أن وايزمن وجد ضالة مصالحه في بريطانيا.

المحور الثاني يرتبط بالتصريح نفسه، الترجمة والتفسيرات، وقد اخترت أفضل الترجمات من الإنجليزية إلى العربية، وهي ترجمة هي الأقرب للنص بشكله الأصلي، وتوقفت عند مصطلح "وطن قومي" وهو بالإنجليزية "ناشيونال هوم" وبالعبرية "بايت لئومي"، ومصطلح وطن قومي هو أوسع بكثير من مصطلح دولة، وحدوده أوسع من حدود سياسية لدولة، والقصد هو أن كل يهودي في العالم عليه أن يشعر أن له "وطن قومي"، لأن كل يهودي في العالم لديه دولة هي الدولة التي يسكن فيها، وقد تقاطع ذلك مع ما تسميه الصهيونية بـ "كيبوتس غالويوت" أي "تجميع الشتات".

المحور الثالث هو تداعيات التصريح على اليهود والعرب وموقف البريطانيين، وقد تطرقت ضمن هذا المحور بإيجاز، رغم أن هذا ليس مجالي، إلى وضع التصريح في ميزان القانون الدولي، بمعنى هل ينطبق القانون الدولي على التصريح وكيف؟ وأجبت عن هذين السؤالين بالاستناد إلى دراسات قانونية أجريت في هذا المجال.

طبعا تطرقت في هذا المحور أيضا إلى تداعيات التصريح على الفلسطينيين، فهو الذي أوصلهم إلى النكبة التي ما زالت مستمرة إلى اليوم.

عرب 48: أهمية التصريح في كونه صدر عن وزير خارجية دولة كانت منتدبة على فلسطين من قبل المجتمع الدولي، رسميا على الأقل، فهي عمليا دولة استعمارية كانت فلسطين إحدى مستعمراتها، كيف ترجمت بريطانيا هذا التصريح؟

منصور: نجاح الحركة الصهيونية التي انتزعت تصريح بلفور، تمثل بتحويل هذا التصريح من رسالة صادرة عن وزير خارجية إلى قرار دولي بعد أن ضمنته بصك الانتداب، الذي صدر عن عصبة الأمم والذي شكل ستة بنود تعطي امتيازات للحركة الصهيونية في فلسطين، بينها الاعتراف باللغة العبرية إلى جانب العربية والإنجليزية، رغم أن عدد اليهود لم يتجاوز الـ7%. الاعتراف بالأعياد اليهودية. إلزام حكومة فلسطين بوضع اسم "بلستينة" باللغة العبرية والأحرف الأولى من "أرض إسرائيل" بين قوسين، على الطوابع والعملة والأوراق الرسمية. الاعتراف بالوكالة اليهودية الممثل الوحيد لـ "الشعب اليهودي"، بالمقابل فإن بريطانيا لم تعط شيئا للعرب، وعمليا تصدق فيها المقولة القائلة: إنها حكمت العرب ولم تحكم اليهود.

"مصطلح وطن قومي هو أوسع بكثير من مصطلح دولة، وحدوده أوسع من حدود سياسية لدولة، والقصد هو أن كل يهودي في العالم عليه أن يشعر أن له "وطن قومي"، لأن كل يهودي في العالم لديه دولة هي الدولة التي يسكن فيها، وقد تقاطع ذلك مع ما تسميه الصهيونية بـ "كيبوتس غالويوت" (تجميع الشتات)"

عرب 48: كما هو وعد بلفور كذلك، صك الانتداب لم يعترف بحقوق قومية للفلسطينيين، بل بحقوق دينية ومدنية، كما ورد في تصريح بلفور، هل يعنى هذا أن بريطانيا انحازت ودون وجه حق منذ البداية لصالح الحركة الصهيونية؟

منصور: هي لم تكتف بتصريح بلفور وتضمينه بصك الانتداب، بل إنها عينت يهوديًا صهيونيًا كأول مندوب سامي في فلسطين هو هربرت صموئيل، الذي وصفه حاييم وايزمن لدى استقباله في البلاد بـ "صموئيلنا"، والذي صادق خلال السنوات الأربع التي أمضاها في فلسطين، على منح امتياز مشروع الكهرباء لشخص يهودي هو روتنبرغ، رغم تقدم مقاولان عربيان للمناقصة هما فؤاد سعد وأبو طاجي من حيفا، وبعد أن أقام مولدات الكهرباء في الباقورة، على نهر الأردن، بادعاء أنها تعمل بواسطة المياه، تبين لاحقا أنها تعمل بواسطة المازوت، وأنه كان يغش الحكومة البريطانية خلال كل تلك الفترة السابقة.

عرب 48: لنعد قليلا إلى الوراء، فمعلوم أنه وفق اتفاقية سايكس بيكو، كان يفترض أن تقسم فلسطين بين بريطانيا وفرنسا، وبهذا المعنى فإن بريطانيا لن يخضع لها الجزء الشمالي من فلسطين، هذا ناهيك عن أن الاتفاقية أبرمت قبل احتلال البلدان العربية، والوعد قطع قبل سيطرة بريطانيا على كامل فلسطين...

منصور: جرى تقسيم المناطق العربية بين بريطانيا وفرنسا، وقسم أعطي حكما ذاتيا، ما عدا فلسطين، جرى تدويلها وأعطي قسمها الشمالي لفرنسا وقسمها الجنوبي لبريطانيا، إلا أن الأخيرة ضغطت بمساعدة الحركة الصهيونية كي تتنازل فرنسا عن حصتها، لأن الإنجليز كانوا معنيين بالسيطرة على حيز جغرافي "يحمي" قناة السويس، أو إيداع هذا الحيز بأيدي حركة استعمارية تتوافق مع مصالحهم، هي الحركة الصهيونية، وهذا ما حصل.

'مئويّة تصريح بلفور (1917 - 2017): تأسيس لدولة، وتأشيرة لاقتلاع شعب'

عرب48: تحت الانتداب البريطاني، وفي ظل الامتيازات التي أعطيت للحركة الصهيونية، كان من الطبيعي أن يزدهر الاستيطان اليهودي، لتصل نسبة اليهود عشية قرار التقسيبم إلى حوالي 30%...

منصور: قبل ذلك بعشر سنوات، أوصت لجنة بيل البريطانية، التي تشكلت عام 1937، بتقسيم فلسطين إلى دولتين، فبريطانيا أيضا هي من زرعت الفكرة رغم عدم عدالتها، ولأجل إقامة دولة يهودية، كان يفترض اقتلاع سكان البلاد الأصليين، وافقوا على قرار التقسيم أم لم يوافقوا.

وجاءت الترجمة الرسمية للوعد بتضمينه في صك الانتداب على فلسطين، وتحويله من وثيقة بريطانية إلى وثيقة دولية، ونقله إلى حقل الممارسة العملية السياسية، لتأتي لجنة بيل عام 1937 بفكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية.

عام 1947 أعادت بريطانيا الانتداب للأمم المتحدة، ليتسنى إصدار قرار التقسيم 181، الذي أعطى للحركة الصهيونية الحق بإقامة دولة يهودية على 55% من أرض فلسطين، رغم أن اليهود كانوا يشكلون 30% من السكان، وكما هو معلوم فإن الحركة الصهيونية لم تكتف بالأراضي المخصصة للدولة اليهودية، بل زحفت على الأراضي المخصصة للدولة العربية، ففي مثل هذه الأيام من عام 1948 قامت بحملة "حيرام"، حيث احتلت الجليل وطردت سكانه العرب.

بريطانيا نسقت انسحابها مع القوات الصهيونية، فكانت تنسحب قبل الموعد المحدد، كما حدث في حيفا ويافا لتمكين القوات الصهيونية من السيطرة على "أغلى" المواقع التي تنسحب منها بهدوء، فقد كان مقررا مثلا أن يكون المندوب السامي آخر من يغادر فلسطين من ميناء حيفا، وفعلا فقد غادر في حزيران من ميناء حيفا.

ولكن عندما كانت المدينة بقبضة القوات الصهيونية، التي سيطرت عليها في 17 نيسان/ أبريل، أي قبل شهر تقريبا من انتهاء انتدابها على فلسطين، أما نوايا الحركة الصهيونية، التي أحكمت سيطرتها عام 1967 على كامل فلسطين التاريخية، وتحاول اليوم سحب سيادتها القانونية عليها، فباتت لا تخفى على أحد.

 

التعليقات