70 عاما على النكبة: كوارث طبيعية من الذاكرة الفلسطينية (14)

هذه الحلقة تتناول الزلزال الكبير، والذي ضرب أنحاء فلسطين عام ١٩٢٧، وكان له تأثير مدمر على البلدات التي أصابها، وقصة "انكسار الغيمة" عام ١٩٣٤، الذي نكب طبرية بفيضان مدمر، وقصة الجراد مدمر الزرع الذي صال وجال في فلسطين

70 عاما على النكبة: كوارث طبيعية من الذاكرة الفلسطينية (14)

أرشيفية

قصة عام الجراد ١٩١٥ وسنة الهزة الكبيرة ١٩٢٧ وفيضان طبرية ١٩٣٤


في هذه الحلقة لن أتطرق إلى معارك جرت، أو ثورات فلسطينية نشبت أو اشتعلت، قبل وخلال عام ١٩٤٨، بل إن هذه الحلقة، ستتناول قصة أحداث جسام، كان لها أكبر الأثر على حياة الفلسطينيين، وشغلتهم بصورة كبيرة، رغم أنه ليس فيها يد لا للمستعمر البريطاني ولا للمغتصب الصهيوني، إذ أنها بفعل قوى الطبيعة الخارقة، والتي تستطيع بساعات قليلة، أو دقائق معدودات، تغيير الحاضر والمستقبل، وكتابة عدة أسطر في كتب التاريخ أحيانا، وصفحات كثيرة مثيرة أحيانا أخرى.

هذه الحلقة تتناول الزلزال الكبير، والذي ضرب أنحاء فلسطين في شهر تموز/ يوليو ١٩٢٧، وكان له تأثير مدمر على المدن والقرى التي أصابها، فأسقط القتلى والجرحى، وهدم البيوت، وشلّ الاقتصاد، مما أدى إلى تسمية هذه الحالة بنكبة الزلزال.

كما سنتناول قصة "انكسار الغيمة"، في شهر أيار / مايو عام ١٩٣٤، في طبريا، والذي تسبب بفيضان ساحق، دك البيوت، وأزهق الأرواح، وجعل البلدة القديمة خرابا، فكانت نكبة طبريا كبيرة.

أما الجراد مدمر الزرع، فقد صال وجال في فلسطين عام ١٩١٥، فأكل الأخضر، وقضى على اليابس الذي استعمله الفلاحون لإشعال الحرائق، من أجل التخلص من هذا الضيف الثقيل الدم، والذي جاء من بعيد، حاجبًا أشعة الشمس، ومغطيًا كبد السماء، فإن وقع على الأرض دمر محاصيلها، وجعلها هباء منثورًا.

الجراد باختصار

الجراد هي حشرة طائرة تنتقل محملة بالرياح إلى مسافات بعيدة جدا، من أجل البحث عن الطعام، وتكمن خطورتها بأعدادها الهائلة، حيث أنها تطير في أسراب حمراء اللون تحتوي الملايين من الأفراد، لمسافة عدة كيلومترات في اليوم، وعندما تهبط على الأرض والأشجار، تأكل أوراق النباتات والزهور والثمار والبراعم وقشور الجذوع، مما قد يؤدي إلى موت الشجرة.

ويتحول لون الجرادة إلى الصفرة، وعندها تضع بيوضها، فتضاعف أعدادها بشكل كبير، حيث تضع الأنثى بين ١٠٠-١٥٠ بيضة في كل مرة، وما أن تفقس البيوض، حتى يخرج منها ما يسمى بالحوريات، ويسميها سكان المغرب العربي بالحجاج، وهذه تستطيع أكل ١٠٠ كيلو غرام من النباتات الخضراء للدونم الواحد في اليوم، حيث تتواجد خمسون الف جرادة في الدونم الواحد، وكل واحدة تأكل ما معدله غرامين في اليوم.

وكان الفلاحون قديما يكافحون الجراد بإشعال النار وحرق الجراد، وخنقه بدخانها، ثم يحفرون خنادق لمنع الحوريات من التقدم، ولكن الخنادق سرعان ما تمتلأ بالجراد، فتعبر الحوريات الأخريات بأعدادها الهائلة إلى الطرف الآخر، وأحيانا يملأون الحفر بالماء، إذا وجد، ولكن ذلك لا ينفع ولا يمنعها من الاستمرار في أكل كل ما هو أخضر. فيقومون بإشعال النار في الحفر، ولكن كثرتها الهائلة تتغلب على كل من يحاول إيقافها.

موجات الجراد إلى فلسطين

ليست سنة الجراد المشهورة عام ١٩١٥، هي الوحيدة التي عانت فيها بلادنا من آفة الجراد، بل إنه هاجم بلادنا في عدة مناسبات قبل هذا العام وبعده.

ففي السابع من كانون أول / ديسمبر ١٨٣٨، مرت أسراب الجراد في فلسطين، قادمة من الجنوب الغربي، وحطت ملايينها حتى غطت كل جنوب فلسطين، حتى شمال القدس، ولأن الرياح أحضرتها إلى بلادنا حيث انتهى موسم الحصاد، بل كان موسم الشتاء، بقيت لأيّام معدودات، ثم سرعان ما صعدت إلى السماء، فغطتها وطارت مسرعة إلى مكان يتوفر فيه الغذاء، ليس قبل أن يأكل منها الناس ما طاب لهم، وبكميات كبيرة، فهذا طعام جاء من السماء، بدون سابق إنذار.

وهذا ما حصل أيضا في الثاني من كانون ثانٍ / يناير ١٨٤٥، إذ وصلت القدس عند الساعة الثانية بعد الظهر، أسراب هائلة من الجراد الأحمر، والمتجهة شمالا إلى الجليل. ويقال إن مدة مرور سرب الجراد فوق كل نقطة كان لمدة ثلاثة أرباع الساعة من الزمن. بعد هذا السرب الرهيب حضر سرب ثانٍ وثالث، ثم أسراب أخرى أصغر عددا، واستمر هذا الحال لمدة أسبوعين. نزلت كل هذه الأعداد الرهيبة في شمالي البلاد والجليل وأعملت بهما خرابا كبيرا، حتى كان هناك خطر انتشار المجاعة، لولا قدوم المطر، وتخليصه الناس من شر الجراد الزاحف أو الحوريات الفاقسة من ملايين البيوض.

وكانت هجمة قوية للجراد عام ١٨٦٥، فقد وصل الجراد في السابع من كانون ثانٍ/ يناير، بأعداد هائلة، ووضع الجراد بيوضه في كل أنحاء فلسطين مما أدى إلى كارثة زراعية، خلال أيّام قلائل، ثم ودع بلادنا متجها إلى شرقي الاْردن. ولَم تمر عدة أشهر حتى عاد الجراد بكميات أكبر بكثير، إذ وصل إلى البلاد في الثاني من تموز / يوليو من نفس السنة، وأحدث دمارا هائلا، حيث التهم كل المحاصيل والثمار الصيفية، فأكل التين والعنب والمشمش وكل شيء، وهكذا استطاع الجراد أن يدمر محاصيل الشتاء ومحاصيل الصيف في نفس السنة.

وكان كذلك في صيف عام ١٨٧٦، حيث كان بكميات هائلة أيضا، ودمر محاصيل الصيف.

وفِي نهاية عام ١٨٧٨، هاجم الجراد منطقة الخليل والقدس وقضاءيهما، وغطى أراضيها لعدة أيّام، وكذلك عام ١٨٩٨، حيث وصل الجراد بكميات هائلة إلى فلسطين، وأكل كل ما هو أخضر في المناطق التي هاجمها. وهذا ما حصل أيضا في شهر حزيران/ يونيو عام ١٨٩٩.

وإذا تجاوزنا عام ١٩١٥ نجد أن هجمة كبيرة منه كانت في عام ١٩٣٠، وذلك في نهاية شهر شباط/فبراير، وقد حط الجراد بكثرة في أراضي بئر السبع، وتقدر المساحة التي سيطر عليها الجراد بحوالي ربع أراضي قضاء بئر السبع، أي ما يعادل جزءا من إثني عشر جزءا من أراضي فلسطين الزراعية، وكذلك وصل الجراد إلى يافا وغزة والخليل والقدس، واستمر المزارعون بالقضاء عليه بالوسائل المتاحة أكثر من شهر كامل.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفلاحين العرب هم من حارب الجراد لوحدهم، من استعمال قاذفات اللهيب، وجمع البيوض لإتلافها، وحرث الأراضي التي انتشرت فيها البيوض، مستعملين خيولهم وجمالهم وبقرهم وبغالهم وحميرهم، وكأن الجراد كان يقع على أراضي العرب ويبعد عن أصدقائه الصهاينة. ولذلك احتج العرب لدى حكومة الانتداب لأنها فرضت مكافحة الجراد على العرب فقط من دون اليهود.

وفِي عام التقسيم أي ١٩٤٧، في الخامس من شهر آذار/ مارس اكتسح الجراد منطقة نابلس وطولكرم وجنين وبيسان وقراهما، وقد بلغت الأراضي التي هبط فيها الجراد بحوالي ٤٠ الف دونم، واستمرت أعمال القضاء على الجراد لمدة ثلاثة أشهر.

هجوم الجراد الكبير ١٩١٥

كل الهجمات السابقة، وإن كان بعضها كبيرا ومضرا، إلا أنها لم تكن شيئا يذكر، بالنسبة لما حصل مع الجراد عام ١٩١٥، وما سمي فيما بعد بعام الجراد، لشدته على الناس، وقضائه على الحرث والنسل، وتحويل الكثير من الناس إلى الفقر المدقع، حتى أصبح بعضهم متسولين من أجل لقمة العيش.

ففي ٢١ من شهر آذار/ مارس ١٩١٥، ظهر الجراد في سماء فلسطين، ومن كثرته، حجب أشعة الشمس في وضح النهار، ومن كثافته أعتمت الدنيا أينما حلّ، وأصبحت ظلاما دامسا، كانت كميات الجراد هائلة بما لم يعهده أحد، أو يسمع عنه من قبل.

غطى السرب السماء لعدة ساعات، ثم نزل الجراد إلى الأرض، وصار يأكل كل أخضر يقف في طريقه، فأكل كل الشجر من كروم عنب، وحمضيات، وكل براعم الزيتون، وقضى على كل الموسم لكل أنواع الفواكه والأشجار المثمرة.

أسراب هائلة الحجم من الجراد، استمرت بالقدوم إلى فلسطين خلال الأسابيع القادمة، وكل سرب يحط فلا يبقي ولا يذر، ثم يطير إلى ارض أخرى تنعم بالخضرة والثمار وأوراق الشجر، ليس قبل أن تبيض الجرادات مئات الملايين من البيوض، ليأتي الجراد الزاحف، ليستمر في عملية "قحط" الأرض.

كان هذا الجراد من نوع أكبر من كل نوع آخر وصل إلى البلاد سابقا، وأجنحته أكبر وأقوى، ويقفز قفزات أبعد من الجراد العادي المعروف لهذه البلاد، مما سهل عليه الانتقال من شجرة إلى أخرى.

عندما كان سرب الجراد يحط على الأرض، كان يغطيها لارتفاع عدة سنتيمترات، وخلال عدة دقائق، يختفي كل ما على هذه البقعة لينتقل إلى أخرى، وهكذا دواليك.

ابتدأ العرب الفلسطينيون بمحاربة الجراد، فأشعلوا النيران، وأحدثوا ضجيجا بواسطة النقر على التنك، ولكن ذلك لم يجد نفعا، بل إن الجراد استمر بالتكاثر، واستمرت "الحوريات" بأكل الأشجار والثمار، وعندها تدخلت الحكومة التركية، لرفع العتب عن نفسها، إذ كانت مشغولة بالحرب العالمية الأولى، وليس لديها القدرات والمقدرات من أجل مساعدة أهالي فلسطين في مصابهم المروع.

عهد جمال باشا حاكم البلاد إلى العالم اليهودي المصري الشاب أرون أرونسون، ابن التاسعة والثلاثين مهمة إيجاد حل للقضاء على الجراد، فكان هذا يزور القرى وينصحهم بحفر الخنادق وإشعال النار فيها لمنع تقدم الجراد الزاحف، ولكن ذلك لم يجد نفعا، ولَم يتمكن الناس من القضاء على واحد في المائة من الجراد.

يعتقد أن أحد الأسباب المركزية، في عدم جدوى محاربة الجراد، أن الرجال الأقوياء الأشداء كانوا في جبهة الحرب العالمية، ولذلك لم يشاركوا في الحملة، فما كان من جمال باشا إلا أن زاد الطين بلة على الناس، فأمر كل من لم يذهب إلى الحرب من سن خمسة عشر عاما، حتى الستين، بجمع ما وزنه عشرين كيلوغراما من بيوض الجراد لتدميرها، وإلا دفع غرامة مقدارها ليرة "عصملية"، بل ويقال أربع ونصف ليرة.

"سفر برليك" وقشرة البرتقالة

ما أن اعتقد الناس أنهم أصبحوا يسيطرون على الجراد، ويقضوا عليه، حتى عادت أسراب كبيرة منه في التاسع من تشرين أول /اكتوبر من العام نفسه، وغطت الأرض وصارت تأكل كل ما أبقته الأسراب التي قدمت قبلها بعدة شهور. وفِي الواحد والعشرين من شهر كانون أول / ديسمبر، عاد الجراد مرة أخرى بكميات هائلة جدا، وكان لونه بنيا يميل إلى الحمرة، وحجمه أكبر من سابقيه، وهذا أيضا قضى على كل ما تبقى من أخضر هذه الأرض.

في تلك السنة لم يبق الجراد أكثر من عشرين بالمائة من محاصيل الفواكه والخضراوات، ودمَّر عشرين بالمئة من الحبوب كالقمح والشعير، ولذلك كان سعر كيلو الدقيق يصل إلى حوالي خمسة عشر دولارا، والبطاطا تضاعف سعرها ست مرات، وأصبح السكر عملة نادرة، وفقدت النقود قيمتها فلم يتداولها الناس تقريبا.

كان أهل بلدنا صفورية الكبار، يصفون الحال في تلك السنة وما تلاها، فيقولون: "إن الناس في فترة "السفر بَرْلِك" كانوا يأتون إلى القرى التي ما زال يتوفر الطعام بها، ويزوجون بناتهم بمهر قيمته حبة برتقال أو حتى قشرة برتقالة"، وذلك للتخلص من نفس، وجب عليهم إطعامها، حيث لا يتوفر الطعام، فصاروا يزوجوهن لمن يقدر على إطعامهن.

ويقصدون بالسفر برلك الحرب العالمية الأولى، ومعناها الصحيح هو "الترحيل القسري" والذي كانت تمارسه الدولة العثمانية ضد من تعتقد أنهم سيؤثرون سلبا على أدائهم في الحرب الكونية الأولى، فكانت تنقل سكان منطقة معينة إلى أمكنة اخرى من أجل التخلص منهم.

كانت سنة الجراد هذه قاسية إلى أبعد الحدود، فقد ضربت بلدا، أغلبية سكانه يعتمدون على الزراعة، فأصبح البعض يعتاش على التسول وانتقل الناس من أماكن سكناهم إلى أماكن أخرى، وبحث الفلاحون عن عمل في المدينة، فلم يجدوه، أما أهل البادية، وحيث فقدوا الكلأ وتضورت قطعانهم جوعا، صاروا يبيعونها بأبخس الأثمان بحثا عن لقمة العيش، وقدم قسم منهم إلى القرى، علّه يجد الطعام والمأوى عند الفلاحين.

هذه الأحوال السيئة جدا، مع شُح إمكانيات الدولة العثمانية، بل انشغالها بالحرب عن أمور الشعوب التي تعيش في كنفها، أدت إلى انتشار الأمراض الخطيرة في السنة التي تلتها كالكوليرا والتيفوئيد وغيرها.

الزلزال الكبير ١٨٣٧

بلادنا تقع في منطقة الشق السوري الأفريقي، والتي تعتبر من المناطق المعرضة لحصول هزات ارضية فيها، ولذلك من المرجح أن يحصل زلزال كبير كل مائة عام تقريبا.

كان الزلزال الذي ضرب فلسطين في كانون ثان/ يناير من عام ١٨٣٧، من أقوى هذه الزلازل، إذ كان مركزه في مدينة صفد، وقد أدى إلى هدم البلدة القديمة بشكل كامل تقريبا، وأودى بحياة ألفي شخص من المدينة.

هذا الزلزال، أدى أيضا إلى مصرع ٧٠٠ شخص من طبرية، وتدمير بلدتها القديمة، وكذلك تضررت مدينة بيسان، وتدمر حي كامل من مدينة نابلس، ولحقت الأضرار بكثير من القرى في فلسطين، مما تسبب في مقتل ٥٠٠٠ شخص تقريبا، ووقوع عشرات الآلاف من الجرحى. كانت قوة زلزال عام ١٨٣٧، من ٦.٥ إلى ٧.٣ درجة على مقياس ريختر، ولكن حجم التدمير كان كبيرا بما لا يقاس مما يمكن لزلزال بنفس القوة أن يفعله في المدن الحديثة اليوم.

الهزة الكبرى ١٩٢٧

بعد ظهر يوم الإثنين، الموافق للحادي عشر من تموز / يوليو عام ١٩٢٧، وفِي تمام الساعة الثالثة وخمس دقائق بعد الظهر، حدثت هزة عنيفة بقوة ٦.٥ بمقياس ريختر، ودامت هذه الهزة لمدة تتراوح بين عشرين الى ثلاثين ثانية، وكانت تصحبها أصوات هزيم كهزيم الرعد، وأصوات تكسير ودمدمة شديدة، فهزت المساكن، وتمايلت بفعلها العمارات، مما أدى إلى انهيار بعضها على من فيها، وتصدع الكثير منها فأصيبت بتشققات كبيرة، ثم علا الغبار السماء، في أماكن كثيرة بسبب انهيار المباني، وكان صوت الصراخ والصياح مرعبا، والنَّاس تهرب من بيوتها جزعا وخوفا على حياتها الغالية عليها، ومن الناس من استطاع أن ينقذ أولادا له، ومنهم من لم يفلح في ذلك، فصار الناس يبحثون عن بعضهم البعض، وقسم انهمك فورا في إنقاذ أشخاص كانوا تحت الأنقاض، خاصة أحبائهم وفلذة أكبادهم.

كان مركز الهزة الكبيرة، في البحر الميت وغور أريحا ووادي الاْردن، ولكن المتضرر الأكبر كان مدينة نابلس والقرى القريبة منها، ولذلك يسمي البعض هذه الهزة بزلزال نابلس، لكثرة القتلى والجرحى من أهلها، نسبة إلى عددهم من ضحايا فلسطين كلها.

بعد هذا الزلزال الكبير، حدثت ثلاث هزات ارتدادية خفيفة، الأولى بعد منتصف ليل الإثنين، أي بعد الزلزال بتسع ساعات، ثم لحقتها أخرى في الساعة الخامسة والنصف صباحا من يوم الثلاثاء، والثالثة في تمام الساعة الثالثة وعشر دقائق من نفس اليوم، أي أنها أتبعت الزلزال بأربع وعشرين ساعة تقريبا، مما أدى بجميع الناس إلى البقاء خارج بيوتهم، وإمضاء الليلتين القادمتين بل وأكثر في العراء، خوفا من زلزلة الأرض مرة أخرى.

أضرار الزلزال في نابلس

كانت المدينة الأشد تضررا من الزلزال هي نابلس، فقد مات أكثر من سبعين شخصا، وجرح أكثر من ٣٥٠ شخصا، وتضرر بشكل كبير حوالي ٥٠٠ عائلة، وتهدم بشكل كامل أكثر من ٤٠٠ بيت.

وكانت أكثر عائلة نكبت هي عائلة عبده، وتهدم لها أربعون بيتا، ما عدا الدكاكين، وقدرت خسارتهم بثلاثين ألف جنيه، وتهدم لعائلة المصري ثلاثة وعشرين بيتا، وأما امرأة حسين العمد فتهدم لها سبعة بيوت، وعائلة الخياط فقدت سبعة بيوت، وتصدع لها سبعة آخرون، وكذلك تضررت عائلة حمامة والحنبلي والتميمي. أما أكبر الخسارة في الأرواح فقد كانت من نصيب عائلة العكليك، ولولا لطف الله ودعوة قسم كبير منهم عرس، لكانت خسارتهم في الأرواح أكبر وأشد. وتهدم أغلب البيوت في حي "الحبلة" وتضررت محلات الياسمينة والجبلية والسمرة وسوق الكبابجية ضررا كبيرا.

وتهدم جامع النصر، ونسفت مئذنته المتبقية بالديناميت، وتهدمت مئذنة جامع الأنبياء، واختل رأس مئذنة جامع الخضر، وسقطت دار على جامع العين فاختل بسببها وتصدع، وسقط رأس مئذنة جامع سبسطية الأثري، وقدرت خسارة أوقاف المسلمين في نابلس بخمسة عشر ألف جنيه.

أما طائفة السامريين اليهود والتي كانت تعد ١٦٠ فردا، فقد تهدم لهم أربعة بيوت، وتصدع الباقي، فكانوا في حالة يرزى لها.

وقدرت الخسائر المالية الإجمالية بأربع مائة الف جنية، مئتي ألفا ثمنا للمنازل، ومئة ألف للأثاث والعفش، ومئة ألف أخرى بسبب الشلل الذي أصاب الحركة الاقتصادية في المدينة.

ألّف أهل المدينة لجنة لإطعام المنكوبين، وتتألف من رئيس البلدية والسادة أمين بك التميمي، وحافظ آغا طوقان، وفريد أفندي العنبتاوي، وسعيد أفندي كمال، وأحمد أفندي الشكعة، والحاج نمر أفندي النابلسي، بالإضافة إلى حاكم منطقة نابلس مستر بدكوك.

وسرعان ما ابتدأ الناس بإغاثة أهل نابلس، بالمعونات المادية والغذائية، وأحضروا من شواطئ بحيرة طبرية من نبات الحصير الضخم (يشبه الحلفى) فعملوا منه العرائش والحصص لمن بقي بلا مأوى.

وأرسلت الحكومة جنودها، وعتادها الثقيل من أجل رفع الأنقاض والردم، وهدم البيوت الآيلة للسقوط، منعا لكوارث أخرى.

أضرار الزلزال في المناطق الأخرى

في اللد، لقي ثلاثون شخصا حتفهم، وجرح سبعون آخرون، وتهدم قسم كبير من البيوت، خاصة بيوت الحارة الشرقية وسقطت مئذنة الجامع. أما في الرملة فلقي اثنا عشر شخصا مصارعهم، وجرح خمسة وعشرون. في حيفا تصدعت بعض البيوت ولَم تقع إصابات في الأرواح. في عكا تهدمت عشرة بيوت قديمة، وكانت الحصيلة خمسة ضحايا وعشرين جريحا، كما سقط إيوان جامع الجزار. في طبرية سقط كنيسان ولقي شخصان مصرعيهما. في الناصرة تهدمت عدة بيوت وتصدع الكثير منها، أما في قرية الرينة فتهدمت عدة بيوت، ولقي عدد من الأشخاص مصارعهم، وجرح الكثيرون، وتهدم في صفد بيتان دون وقوع ضحايا، وانهدم الجامع في سمخ وعدة بيوت وبعض الجرحى، وفِي أريحا انهدم فندق نزال، ولقيت مصارعهن جراء ذلك ثلاث نساء هنديات يعملن في الفندق، وسقط الفندق نفسه على سيارة كان بها شخص فلقي مصرعه. في رام الله وقع بيت واحد، في القدس تهدمت عدة بيوت في البلدة القديمة، ولقي شخصان مصرعيهما وجرح عشرة على الأقل، وفِي قرية الطور بجانب القدس هدمت مئذنة الجامع، وتصدعت بناية الألمانية المتخذة مقرا للمندوب السامي، وأصبحت غير قابلة للسكن، وتصدعت الجامعة العبرية في جبل الزيتون وأصابها عطل كبير، أما المسجد الأقصى فقد تصدع بناؤه القديم، وتشقّقت أروقته، كما أن السور حوله قد تصدع أيضا في بعض الجهات، وفِي جهة باب الأسباط سقط القسم العلوي من مئذنة الحرم. في جنين لقيت امرأة مصرعها، وجرح ثلاثة رجال، وهدم أربعة منازل، وتصدع أكثر من ثلاثين بيتا، وتشقّقت مئذنة الجامع الكبير، وفِي قرية جبع تصدع مئة وخمسون بيتا.

وهكذا شملت الخسائر في الأرواح والممتلكات أغلب أنحاء فلسطين، وكذلك الأمر في شرق الاأردن إذ سقط ما مجموعه ٦٨ شخصا جراء الزلزال ضحايا، وأصيب أكثر من مائة.

في فلسطين كلها، بلغ حجم الخسائر في الأرواح أكثر من مئتي قتيل، وسبعمائة جريح، نصفهم جروحهم خطيرة، وتضرر أكثر من الف بيت. ومنذ ذلك الحين صار الناس يسمون هذه السنة بعام الهزة الكبيرة، والتي كان لها أثر كبير على نفوس الناس وغضبهم على حكومة الانتداب والتي لم تبذل جهودا كبيرة من أجل تعويض الناس وإخراجهم من نكبتهم، بل عملت ما عملته من باب رفع العتب فقط، حيث لا مصابين من جماعتهم الصهاينة.

طوفان طبرية ١٩٣٤

في الحادي عشر من أيار/ مايو، من عام ١٩٣٤، كانت طبرية تنعم بالهدوء والسكينة، ولا شيء ينغص عيشة أهلها، كان يوم أحد عاديا، الشمس ساطعة في يوم ربيعي حار. فجأة في الساعة الحادية عشر صباحا تغير كل شيء، فتلبدت السماء بالغيوم الكثيفة، ولمع البرق بشدة، منذّرا بقدوم المطر، ثم قصف الرعد قصفة رهيبة هزت المدينة بمجملها، وابتدأ المطر بالانهمار بكميات لم يعهدها أحد من قبل، وخلال نصف ساعة سقط أكثر من ٥٥٠ مليمترا من المطر، أي أكثر من المعدل السنوي للأمطار في منطقة طبرية.

بعدها بعدة دقائق، انحدرت السيول من أعالي التلال والجبال الغربية لطبرية، وحملت معها كميات هائلة من التراب والوحل والصخور الضخمة، وتوجهت في لحظة واحدة الى المدينة المنخفضة، فجرفت كل ما اعترض طريقها، من بشر وأمتعة وحيوانات وسيارات وأثاث وبسطات، كل شيء، حتى أنها هدمت السور الإسمنتي الذي يحمي متنزه المدينة وجعلته بركة ماء كبيرة، ليس قبل أن تجعله هباء منثورا، وتحمل اليه الحجارة والتراب. وحتى بلاط الشوارع والأرصفة، لم يسلم من الطوفان الكبير، لأن الطوفان أخذه معه إلى البيوت والدكاكين والمخازن، وصار ينزع الأبواب، ويكسر النوافذ، ويدخل البيوت فيخربها، ويصرع من تسول له نفسه باعتراض هذا السيل الهادر، والذي وصل ارتفاعه إلى حوالي ثلاثة أمتار، ويمشي بسرعة كبيرة لا تمكن أحدا من الهروب منه. التهم الطوفان الشوارع، وجعل طرقات البلدة القديمة ترعات ماء عكر، من كثرة ما احضر الطوفان معه من كل شيء مر به، ثم سحب كل هذه المجروفات وألقاها في البحيرة.

أكثر من اثنين وعشرين شخصا، سقطوا صرعى بسبب هذا الفيضان المهول، من سكان طبرية الأصليين، من كافة طوائفها. من بين القتلى زكية شعبي، ومعزل عطية، والحاخام إسحاق موشه يفراح، وزوجته عليا يفرح، والحاخام أزماجا، وطبول مخلوف وغيرهم. كما وجرح العشرات، وتضرر أربعمائة بيت تضررا كبيرا، جعلها غير صالحة للسكنى، ويقدر أن عدد العائلات المتضررة كان ثلاثمائة وعشرين عائلة، وعدد أنفارها مجتمعة حوال ١٥٠٠ شخصا، وتحولت البلدة القديمة من بيوت وشوارع، إلى أكوام من الحجارة والطين وقطع الأخشاب والأثاث المتكسر، فكانت نكبة حقيقية، حتى أن البعض قال إنه لو استمر المطر عشر دقائق أخرى، لما بقيت طبريا موجودة، ولدمرها الطوفان عن بكرة أبيها.

استمرت حملات الإنقاذ لعدة أيّام، ثم إن الترميمات وإزالة الأوساخ، وإصلاح البيوت وتنظيفها، وهدم ما لا يصلح منها، استمرت عدة أشهر، وتداعت القرى والمدن الأخرى لدعم هذه المدينة المنكوبة، وهنا كان حالها أحسن من حال نابلس عام ١٩٢٧، إذ أن رئيس بلديتها اليهودي، وأغلبيتها اليهودية، وفرت معونات جمة أيضا من الحركة الصهيونية ومدينتها الرئيسيّة تل أبيب خاصة، ودعم من حكومة الانتداب، شيء استفاد من المواطنون العرب أيضا. وحتى الْيَوْمَ لم تشهد بلادنا مشهدا مشابها، وحالة "انكسار غيمة" بهذه الشدة والشراسة.

خاتمة

تطرقنا في هذه الحلقة إلى معارك قاسية خاضها الإنسان الفلسطيني، وبقيت محفورة في ذاكرته، وجعلها جزءا من روزنامته، وإن لم تكن بفعل الإنسان، بل بفعل الطبيعة الهادئة الوادعة في أغلب أحيانها، ثم فجأة تكشر عن أنيابها، فتدمر المساكن وتزهق الأرواح، وتأخذ النفوس، ولكنها مع ذلك كانت أرحم على الإنسان الفلسطيني من "الجراد" القادم من المناطق الباردة في أوروبا، طمعا في هذه الأرض الطيبة، وأقل ضررا من "الطوفان" المهاجر إلى البلاد ليغتصبها إلى الأبد، وأخف وقعا على الفلاحين البسطاء من "زلزال" أتاهم بعد حين فنكبهم نكبة كبيرة إلى يوم الدين، فالطبيعة تفعل فعلها في زمن معين أو مكان معين ثم تعيد الأرض إلى أصحابها، عساهم يعتبرون.

 

التعليقات