شهادة مُهجّر: رحلة إلى بيسان ما قبل النكبة

توقف محمد سرحان طويلا، ثم تفجرت مشاعره فجأة. احتضن شجرة في حديقة البلدية وبكى. وقال: "هذه الشجرة هي أنا. إنها جزئي الباقي في بيسان. هذه الشجرة زرعتها بنفسي... أنا من زرعها".

شهادة مُهجّر: رحلة إلى بيسان ما قبل النكبة

بيسان المُهجرة، أيار 2018 (عرب 48)

توقف محمد سرحان طويلا، ثم تفجرت مشاعره فجأة. احتضن شجرة في حديقة البلدية وبكى. وقال: "هذه الشجرة هي أنا. إنها جزئي الباقي في بيسان. هذه الشجرة زرعتها بنفسي... أنا من زرعها".

كانت بيسان قبل النكبة مدينة فلسطينية عامرة بأهلها وزوارها ومبانيها وأشجارها. وتَذكَّر بيوتها السوداء، بسبب بنائها بحجارة البازلت، ببركان تفجر قبل عهود طويلة. وبيسان أشبه بواحة في غور الأردن، تبعد مسافة قصيرة عن نهر الأردن، لكن طقسها حار وجاف بسبب موقعها الجغرافي في الغور. رغم ذلك، يصفها أهلها الفلسطينيون المهجرون بأنها "جنّة"، في حنين وتوق للعودة مجبول بحزن التهجير إبان النكبة.

سقوط بيسان في 12 و13 أيار/مايو العام 1948، مثلما هو سقوط واحتلال مئات المدن والقرى الفلسطينية وتهجير أهلها في أعقاب مجازر العصابات الصهيونية، في ذلك العام المشؤوم، تروي قصة الوطن المسلوب.

محمد سرحان، المهجر من بيسان عندما كان في الثامنة عشر من عمره، يذكر مدينته جيدا. وهو يسكن اليوم في قرية الفريديس. وقال لـ"عرب 48" إن "بيسان كانت جنة صغيرة على الأرض، تحمل بين أحيائها جماليات إبداع الخالق، وصورة مصغرة عن المدينة الشرقية المتطورة في تلك الأيام، مقارنة بأبهى مدن الشرق. ولا أخفيك، ففي بيسان كانت أيضا معالم طبقية واضحة، أغنياء وفقراء، طبقة مثقفة وعوام، الجيد والقبيح، ولكنه الوطن الصغير الذي نعشقه داخل هذا الوطن الكبير الذي أحيكت ضده المؤامرة".

يرتفع منسوب الحزن لدى سرحان عندما يقف أمام بيته المهدوم، لدرجة أن دموعه أخذت تخنق صوته. ويشير بإصبعه إلى تلة نُصب في أعلاها مدفع. وقال إنه "جرى نصب هذا المدفع يوم تمكن اليهود من التسلل إلى أعلى تلة ’حوسان’ واحتلالها من الشباب المقاوم، في العاشر من أيار/مايو عام 1948. ومنها راح الصهاينة يقصفون المدينة على فترات متقطعة. كانت معنويات أهل المدينة في الحضيض، خاصة مع توارد أنباء عن سقوط صفد، حيفا، معركة القسطل ومذبحة دير ياسين وغيرها من أنباء سقوط أرجاء الوطن. وأرسلت القوات الغازية رسالتها للمدينة: إما الاستسلام والأمان، أو مواصلة القصف واحتلال المدينة عنوة. وآثرت القيادة المحلية حينها الاستسلام، خاصة وأن المقاومين لم يكونوا إلا عشرات الشبان مع أسلحة خفيفة. وكانت تصلنا الأنباء عن حشد جيوش عربية لتحرير فلسطين. وهكذا تم الاتفاق على الاستسلام مع بقاء السكان في المدينة. وفعلا بقينا لفترة دون حرب، ولكن فوجئنا بعد ذلك بمداهمة الغزاة للمدينة وتجميع الأهالي، وكان المصير المشؤوم".

وأضاف سرحان أنه بعد تجميع الأهالي "جاءت الحافلات لتنقلنا، دون أي استعداد مسبق وتحت ذريعة أن المدينة ستتعرض لقصف الطيران العراقي والجيوش العربية، ناكثين بذلك اتفاقية تسليم المدينة وبقاء أهلها بأمان. أجبروا أهالي المدينة على صعود الحافلات ونقل الأهالي إلى التشريد، معظمهم إلى سوريا والأردن، وقلة لجئوا إلى الناصرة والجليل".

النزوح إلى الشام

سرحان نفسه نزح إلى الشام، كما يقول. وعمل هناك في مكتب محام حتى عام 1951. "في ذلك العام وصلتني رسالة من أهلي، تقول إن أبي قد توفى وأخي في السجن، وأخواتي وحدهن. عندها عدت الى فلسطين تهريبا عبر الحدود وصولا إلى قرية الرينة، حيث وجدت أن والدي لا زال على قيد الحياة وأخي لم يسجن. لقد أرادوا بهذه الرسالة دفعي إلى العودة. وبقيت مختبئا وممنوع من الخروج لمدة ثلاثة شهور، إلى حين إصدار بطاقة هوية، لكن دون نجاح. وقررت تسليم نفسي للشرطة، التي كانت تعيد كل من يعود عبر الحدود إلى الأردن، ولكن شاءت الأقدار أن تمت الموافقة على منحي بطاقة هوية عبر موظف بسيط في دائرة قيد النفوس في المسكوبية في الناصرة".

بدأت جولتنا مع سرحان من محطة القطار التاريخية في بيسان، والتي وصفها "مدخل الغزاة" وكانت من أولى النقاط التي سقطت بيد عصابة "جولاني"، ثم توقفنا أمام بيته المهدوم كليا، وعلى مقربة منه بقي بيت الجار أحمد الرشيد، الذي كان يعمل سكرتيرا لمحكمة بيسان وهُجّر إلى الأردن، حيث وقفت الحافلات التي نقلت المهجّرين.

وانتقلنا إلى بيت مديرة مدرسة البنات المعلمة "أولغا". سرحان ما زال يتذكر كل هذه الأماكن، رغم مرور 70 عاما. يميّز بين البيوت القديمة، وصولا إلى منطقة "خِرَب اليهود"، التي بنيت عام 1936 قرب المدينة العربية. ثم إلى موقع دائرة الصحة، وقربها بيت إبراهيم حبيبي، طبيب الصحة في بيسان، وصولا الى منطقة الشريعة وبركة السباحة العامة في بيسان، والتي تتوسط شارع بيسان القدس وشارع النخيل. وشارع النخيل يحده من طرفي الشارع اشجار نخيل قديمة تعود زراعتها إلى أكثر من قرن. عند الشريعة، قدم سرحان شرحا وافيا عن معالم منطقة الشريعة والبيوت العامرة بأسماء أصحابها، ومنها انتقلنا الى شارع شرحبيل ابن حسناء قرب مساكن آل حلوبني والعجاوي.

تفجر الذكريات

توجهنا إلى ساحة السرايا العثماني وحديقة البلدية، وهناك حدثنا سرحان عن البيوت المحيطة بالسرايا والتي هدمتها سلطات الانتداب البريطاني، بعد واقعة مقتل مدير الشرطة البريطاني. وقال إن هذه بيوت كل من محمد ياسر محمود، آدم السالم، محمد سعيد حلبوني، عبد سليم حلبوني، يوسف العساف والحاج يوسف شلبية. ثم تحدث عن حديقة البلدية، التي عمل فيها والده قبل النكبة كجنائني البلدية، وصولا إلى الشجرة المعمرة، التي لا زالت راسخة في مكانها. هناك، توقف سرحان طويلا، ثم تفجرت مشاعره فجأة. لم نفهم السبب. احتضن الشجرة وبكى. و قال: "هذه الشجرة هي أنا. إنها جزئي الباقي في بيسان. هذه الشجرة زرعتها بنفسي... أنا من زرعها. كنا في مرحلة نهاية العام الدراسي، وطلب مني المدرس أن نجعله درس زراعة في حديقة البلدية. جئت إلى الحديقة وكان بحوزة والدي شتلتي أشجار زينة. زرعت واحدة ووالدي زرع الأخرى. بقيت الشتلة التي زرعتها، بينما حرقت شجرة والدي في سنوات سابقة من قبل زوار حديقة البلدية".

قرب المدرسة، قال سرحان: "هنا كان بيت فريد فخر الدين. وكان من أطهر الوطنيين في فلسطين. قائد وطني منذ العشرينيات من القرن الماضي، وكان أول بيت استهدفه الغزاة وهدموه لدى احتلال بيسان". وهذه المدرسة الابتدائية التي تعلم فيها سرحان حتى الصف الثالث الابتدائي. وهو يتذكر عدد فصولها وعدد البنوك التي كانت في كل صف، أسماء مربي الصفوف، خلانه، أبناء الذوات في الصف وغيرها من الذكريات المؤلمة وبيوت المعلمين القريبة من المدرسة. ثم تحدث عن ساحة الاحتفالات في بيسان، والتي اعتادت البلدية إقامتها في الأعياد. ثم وصلنا إلى دار البريد، المؤلفة من طابقي سكن. الطابق العلوي كان يسكنه موظف البريد جورج قندلفت. وعلّقت السلطات الإسرائيلية أمامها لافتة تشرح أنها دار البريد الأول في بيسان، متجاهلة اسم صاحب البيوت جورج قندلفت، وذكرت اسم الغازي المحتل الذي سكنه بعد الاحتلال "موشيه زكنئوفسر". واصطحبنا سرحان إلى وسط المدينة التجاري، معددا أسماء أصحاب الحوانيت الواحد تلو الآخر، وصولا إلى جامع بيسان الكبير المغلق حاليا، والذي يحمل اسم الفاروق بيسان، وكان السلطان عبد الحميد الثاني آخر من جدده.

ختام الجولة وحلم العودة

آخر محطة زرناها كانت قبر والدته زبيدة أحمد عبد الفتاح. القبر ما زال موجودا حتى اليوم كما معظم قبور بيسان المبعثرة، إلا أن الشق الثاني من المقبرة دُمّر نهائيا "وفيه قبر أخي".

ما زال سرحان يحلم بالعودة إلى بيسان. "أريد العودة وأن أسكن في بلدي، ولو في براكية أو خشة. أرجع كي أتمرغ بتراب بيسان. أرجع إلى المشرع الذي منعوا مياهه في بيسان، فهو روح البلد. كلما أنظر إلى الشجرة أرى نفسي. دار البلدية، مدرستي التي تعملت فيه... شعور يصعب شرحه. قلبي يحترق في الداخل. عرضوا عليّ الأذناب (العملاء) أن اسكن فيها ولكن ما هكذا تكون العودة. أنا أرجع بشرفي وكرامتي لبلدتي وحبيبتي. لا أرجع كعميل لا سمح الله. أرجع حقيقة إلى بلدي، أعيد قنوات المياه إلى هذه الحديقة، حتى تعلم الأجيال أن هنا كان وطنا وكانت لنا فيه بيوت نسكنها".

وعن معلوماته الهائلة عن بيسان وسببها أجاب سرحان: "عملت في مرحلة الصبا راصدا جويا في بيسان، وجاء ممتحنون من الانتداب وامتحنوني وأجبت بامتياز، عن الرطوبة وحالة الطقس وأظهرت معرفة واسعة في طقس بيسان، وحصلت على تقدير امتياز وتوصية بالتعليم في لندن. لكن الحالة الاقتصادية منعت سفري، ثم عملت لاحقا في مكتب إحصاء البلدية، وكانت آخر مهمة لي في البلدية تسجيل البيوت، عددها وأسماء أصحابها، وهكذا أحصيت 480 بيتا في بيسان وكان ينقصني بضع عشرات البيوت يوم سقطت بيسان. واحتفظت بالدفتر لسنوات بعد ذلك، وكان عدد سكان المدينة قبل النكبة 5 آلاف نسمة".

التعليقات