الغابسية: رمضان يروي فصولا من النكبة والتهجير

بين كفر ياسيف والكابري في الجليل الغربي داخل أراضي الـ48 مسافة فاصلة لا تتجاوز 7 كيلومترات، تتوسط طريقهما بلدة الغابسية المهجرة، يمر بينهما شارع طويل بطول الانتظار ومكابدة الصُبّار،

الغابسية: رمضان يروي فصولا من النكبة والتهجير

الغابسية، مساء أمس (عرب 48)

بين كفر ياسيف والكابري في الجليل الغربي داخل أراضي الـ48 مسافة فاصلة لا تتجاوز 7 كيلومترات، تتوسط طريقهما بلدة الغابسية المهجرة، يمر بينهما شارع طويل بطول الانتظار ومكابدة الصُبّار، ويحيطها عدد من القرى المهجرة وقرية الشيخ دنون العامرة بأهلها وبأعداد المهجرين الذين يقاربون نصف سكان البلدة. طريق مليء بالذكريات، تحكي مشاهد الوجع والتشريد والتهويد، ومرارة وحسرة لا تغيب لحظة عن أهلها.

توافد العشرات من أبناء عائلات الغابسية إلى أراضي البلدة المهجرة، مساء أمس السبت، قادمين من القرى المجاورة التي هجروا إليها في عام النكبة 1948، من بلدات الشيخ دنون والمزرعة وكفر ياسيف وغيرها، واجتمع الأهالي لأول مرة على مائدة الإفطار الرمضانية خلف مسجد البلدة الذي بقي منتصب وحيدا، ورفع الأذان وسط خشوع وحسرة لافتة على وجوه الحاضرين، واستمع الحضور لشرح بعض فصول النكبة ممن عايشها من كبار السن.

الحاج صالح داود زيني (88 عاما) استذكر في حديثه بعض المشاهد، واعتذر عن الحديث مطولا فقد أرهقته النكبة وعمّق التهجير آلامه.

وقال المُهجّر زيني لـ"عرب 48": "كان عمري 17 عاما، أكثر مشهد أذكره أنه عندما استعصت المقاومة أمام جيش مدجج قابلته بإمكانيات شبه معدومة خرج بعض الأهالي بالعلم الأبيض حفاظا على حياة الناس والبقاء بالبلدة إلا أنهم فتحوا النار وقتلوا عددا من الأهالي، كما أنهم قتلوا والدي حين تواجد على سطح المسجد، يحضرني هذا المشهد الذي لا يمكن أن أنساه. وبعدها أخرجونا إلى منطقة وعرية خارج البلدة لخمسة أسابيع متعهدين بأنهم سيسمحوا لنا بعدها بالعودة، لكن مر 70 عاما ول ازال هذا الحلم بالعودة للبلد يراودني".

وأكد أنه "إن لم أعد أنا فسيعود الأبناء والأحفاد، الظلم لن يدوم".

أما المهجر أنور داود الذي وصل من مدينة القدس الذي يعيش فيها حاليا، فقال لـ"عرب 48" إنه "ينتابنا في هذا اللقاء مع أهل بلدي مزيج من الشعور، فمن جهة أنا مرتاح بهذا اللقاء مع أهل بلدي المُشتتين في البلدات المختلفة لنحوّله إلى لقاء دائم ومتواصل، ومن جهة أخرى أشعر بغصة عميقة وأنا استذكر هذه الفاجعة التي لا زالت حية تذكرنا بهول المأساة التي لا زالت تلاحق كل المهجرين، ونحن نسعى لاستعادة الحياة على هذه الأرض واستعادة الأمل لجيلنا وجيل الشباب ضمن العمل المتواصل من حالة اللجوء لإحقاق حق العودة من خلال الممارسة الفعلية". وأضاف أنه "ولدت مهجرا في قرية دنون وأذكر جيدا حين كنت أرافق جدي وهو يصر أن يعود ليحرث ويفلح أرضه في الغابسية بحيث استطاع الوالد والجد نقل الرواية للأبناء". وأكد أنه "الأهم هو العمل على مواصلة تمرير رسالة العودة للأبناء كأصحاب حق شرعي، وسنواصل هذا التواصل والتمسك بحقنا وتفنيد المقولة الصهيونية بأنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وها نحن هنا بالغابسية ولم ننقطع عنها، من الجيل الأول وحتى الجيل الرابع".

وعن مسيرة العودة الكبرى التي انطلقت من غزة، قال داود، "إنها تعيد لنا الأمل، وهي تحمل حلمنا، وعلينا جميعا المشاركة الفاعلة وعدم الانصياع لإرهاب إسرائيل لمنع الناس من المشاركة، لكن واضح أنه رغم كل هذا القمع هناك تزايد في حجم المشاركة الجماهيرية".

وقال الشاب مراد عوض، وهو مُهجّر من سكان المزرعة، لـ"عرب 48" إنه يشارك ويزور الغابسية منذ أن كان طفلا مع أهله وقبل أن يعي هول النكبة والتهجير.

وأكد أنه "بعد أن أصبحت طالبا جامعيا تزايد اهتمامي لقراءة تاريخ شعبنا وتاريخ الغابسية وسماع الرواية الشفوية من الأجداد، وازداد اهتمامي بكل نشاط يتعلق بالغابسية والمهجرين، وتأثرت جدا ممن عايشوا النكبة والتهجير، من الآباء والأجداد، حيث بادرنا لترميم المكان وإقامة فعاليات مختلفة ومخيمات العودة على أرض البلدة، وتطورت أكثر، وبشكل مؤثر، عندما أتاحت شبكة التواصل الاجتماعي التواصل مع المهجرين في الخارج من الأقارب وأهالي الغابسية في الشتات".

وأضاف عوض أنه "نعمل على مواصلة هذه النشاطات وإشراك الجيل الجديد في سبيل التوعية وترسيخ الذاكرة، للحفاظ على روايتنا الوطنية التي تعرضت في السابق لمحاولات منهجية لطمسها، لكن اليوم نحن على قناعة أن هذا الحق لن يسقط مهما طال الزمن خصوصا وأن السلطات فشلت في طمس الرواية التي بقيت حية ونابضة في وعي وضمير الأجيال المتعاقبة".

من الشيخ دنون إلى الغابسية

في الطريق من دنون إلى الغابسية، رافقنا خليل خلف الله، وقد شارف على الثمانين من العمر، وحفرت سنوات الأسى على وجنتيه تجاعيد بعمر التهجير ومرارة الانتظار، وهو رجل لا يؤمن بدوام الظلم والظالم.

بعد مسافة كيلومترين من سكنه بالشيخ دنون انعطفنا يمينًا في طريق ترابي باتجاه الغابسية التي تقع على رابية لا زالت خضراء رغم أسى التهجير وغياب أبنائها، وعلى مدخل البلدة من جانبي الطريق تنتصب شواهد النكبة بملامح أهلها، وينتصب الصُبار على هوامش الطريق تتوسطها أشجار اللوز ومثلها، والشواهد الصامتة التي أبت الاقتلاع، وقبور الأطفال التي تنتظر أهلها على يمين الطريق بعد أن فارقها أهلها 70 عامًا دون خبر.

وفي مركز البلدة، لا زال المسجد ينتظر مصليه، ورغم صمت المعابد تنتابك لحظات من الخشوع، ولك أن تسمع همس الابتهالات وتهاليل الفجر تحكي الطمأنينة والسكينة قبل فظائع النكبة وحكاياتها النازفة.

التعليقات