15/06/2019 - 16:24

د. لينا دلاشة: المواطنة كمفهوم يتحدى المفهوم الاستعماري مرتبطة دائمًا بالهوية

خلق كيان "عرب إسرائيل" أريد له تهميشنا وإلغاء مطالبنا بالأرض | إخراجنا من التاريخ الفلسطيني لا يهمشنا فقط بل يضرب حلقة مهمة في تسلسله الزمني | حركة الأرض كانت محاولة تمرد على السقف الإسرائيلي وخلق تنظيم فلسطيني مستقل

د. لينا دلاشة: المواطنة كمفهوم يتحدى المفهوم الاستعماري مرتبطة دائمًا بالهوية

دلاشة

  • خلق كيان "عرب إسرائيل" أريد له تهميشنا وإلغاء مطالبنا بالأرض
  • إخراجنا من التاريخ الفلسطيني لا يهمشنا فقط بل يضرب حلقة مهمة في تسلسله الزمني
  • حركة الأرض كانت محاولة تمرد على السقف الإسرائيلي وخلق تنظيم فلسطيني مستقل

بعكس الاعتقاد الغالب، الذي يعتبر النكبة نقطة كسر في التاريخ الفلسطيني، تحاول الباحثة لينا دلاشة، بنت البعينة- النجيدات، التي درست وتدرّس اليوم في إحدى الجامعات الأميركية، ربط حلقات هذا التسلسل الزمني من خلال إعادة الاعتبار لتاريخ الفلسطينيين الذين بقوا داخل الوطن المحتل عام 1948 وأصبحوا مواطنين إسرائيليين، وألقي بهم خارج هذا التاريخ، لأن إعادة الاعتبار تلك ليست إعادة اعتبار لجزء من الشعب الفلسطيني فقط، بل للوحدة السياسية لتاريخ هذا الشعب الذي تعرض للتجزئة.

د. لينا دلاشة، التي حصلت مؤخرًا على درجة بروفيسور في التاريخ من جامعة "هامبولدت" في ولاية كاليفورنيا الأميركية، أجرت بحث الماجستير عن حركة الأرض وبحث الدكتوراه عن الناصرة كنموذج لكفاح الفلسطينيين الباقين في وطنهم وتحديهم لواقع الحكم العسكري، تقول في الحوار الذي أجريناه معها إنّ فداحة النكبة التي زلزلت الكيان الفلسطيني لم تنه هذا الكيان، الذي شهد حالات نهوض في الداخل والخارج بعد النكبة مباشرة على طريق ترميم كينونته الوطنية التي شكلت منظمة التحرير الفلسطينية عنوانها لاحقا.

الحوار تناول أبحاثها التي تمحورت في الفلسطينيين داخل الخطّ الأخضر وموقعهم من النضال والتاريخ الفلسطيني.

عرب 48: دائما اعتقدنا أنّ فلسطينيي 48 الذين بقوا في الوطن بعد النكبة قد همشوا فلسطينيا وأغمط دورهم وجرى تغييبهم عن الحاضر السياسي الفلسطيني، ولم يلتفت كثيرون منا إلى أنّ هذا التهميش مرده إخراجنا من التاريخ الفلسطيني ما بعد النكبة، كما تدعين.

دلاشة: حاولت في أبحاثي المذكورة تحدي الطريقة السائدة في عرض التاريخ الفلسطيني، الذي ينتهي وفقها أو يبدأ عام 1948. وهي الطريقة التي تفضي إلى نتيجة حتمية مفادها أنّ الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم المحتل بعد النكبة وصاروا قسرًا مواطنين في دولة إسرائيل أصبحوا خارج نطاق هذا التاريخ.

الصورة الشهيرة لعمليّات التهجير خلال النكبة (رويترز)
الصورة الشهيرة لعمليّات التهجير خلال النكبة (رويترز)

فنادرا ما يكتب عن الكيانات الفلسطينية الباقية والناشئة في منطقة 48 (داخل إسرائيل) لأن النتيجة الحتمية لتحديد التاريخ الفلسطيني في ما قبل الـ48 وما بعد الـ67 ، تكون ضياع هذه المجموعة وضياع تاريخها وبالتالي تجزئة التاريخ الفلسطيني وإلغاء شموليته، وذلك مسايرةً لواقع التجزئة السياسية، بينما النّظر إلى التاريخ الفلسطيني بشموليته يمكّننا من رؤية استمراريته وترابط حلقاته التي لم تنقطع أبدًا رغم فداحة النكبة.

عرب 48: الرأي السائد هو أن منظمة التحرير الفلسطينية أعادت بناء وتشكيل الهوية والكيانية الفلسطينية التي سحقتها النكبة؟

دلاشة: بناء أو إعادة بناء الهوية والكيانية الفلسطينية لم يكن من الصفر ولم يبدأ من عند منظمة التحرير الفلسطينية، كما أنّني أدعي أنّ النكبة، رغم أنّها زلزلت الكيان الفلسطيني، إلّا انها لم تنهه، وفي هذا السياق يرى المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد أنّ حركة الأرض هي مرحلة من إعادة صياغة الحركة الوطنية الفلسطينية في المراحل المبكرة في الداخل الفلسطيني (في الـ59)، وهي محاولة رافقتها، في الخارج، أيضًا، محاولات سابقة على تشكيل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالصيغ التي عرفناها لاحقا، ومن هنا ينبع الإصرار على الرؤية التاريخية الشاملة للزمن الفلسطيني.

أنا أنظر إلى التاريخ الفلسطيني كتاريخ متواصل، فأبدأ من الأربعينيّات والثلاثينيّات، ولا أنظر إلى الـ48 كنقطة كسر على الرغم من فداحة النكبة، فإذا نظرنا إلى التاريخ الفلسطيني كتاريخ متواصل، فإنّ فكرة الكيان الجديد المسمى "عرب إسرائيل" تصبح لاغية.

عرب 48: "الكيان" الذي أريد له سلخنا عن شعبنا الفلسطيني؟

دلاشة: في بحث للباحث هليل كوهين يتحدث عن مشروع إسرائيلي واع صمّمته الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، جهاز "الشين بيت" ومشتقاته في حينه، لخلق كيان بديل هو ما سمي بـ"عرب إسرائيل" بهدف تهميش كونهم جزءًا من الشعب الفلسطيني، وبالتالي إلغاء كل مطالباتهم وادعاءاتهم المرتبطة بالأرض\ الوطن.

فإذا ما نظرنا إلى التاريخ بشكل متواصل من الأربعينيّات إلى الخمسينيات، نرى أنّه لم تخلق هوية جديدة "عرب إسرائيل" ونرى استمرارية في الاستراتيجيات واستمرارية في الهوية لأنه رسميا في الكيان الانتدابي البريطاني كان هناك "مواطنة" للفلسطينيين، فقد جرى سن قانون "المواطنة" عام 1926، نعم هي مواطنة كاذبة، مواطنة كولونيالية، ولكن الفلسطينيين استعملوا هذا الحيز المتمثل بالمواطنة من أجل المطالبة بحقوقهم في وطنهم في فترة الانتداب، وهم مستمرّون في هذا النمط (أي في تقديم طروحات تدمج بين الهوية الفلسطينية والمواطنة) في الفترة الإسرائيليّة، أيضًا.

صحيح أنّ إسرائيل جاءت رسميا كنهاية للاستعمار البريطاني، ولكنها كيان استعماري استيطاني واصل السياسات الاستعمارية البنيوية ذاتها، وبالمقابل واصل الفلسطينيون، أو ما تبقى منهم، تطوير الإستراتيجيات ذاتها في نضالهم كفلسطينيين وكمواطنين.

عرب 48: أنت تحاولين إيجاد جذور تاريخية للمواطنة، لتقولي إنّ الدمج بين الهوية والمواطنة ليس اختراعًا جديدًا ابتكره التجمع الوطني أو الحزب الشيوعي، بل هي آليات جرى تطويرها مع تبدل الاستعمار؟

دلاشة: الفكرة الأساسية في بحثي هي أنه في جذر الهوية الفلسطينية داخل إسرائيل، كان هذا الدمج بين الهوية والمواطنة، وهو جذر يمتد إلى الفترة الانتدابية البريطانية، ما يعني أنّ الهوية الفلسطينية تعي بشكل كبير أهمية المواطنة بمفهوم يتحدى المفهوم الاستعماري السائد.

ففي العهدين، البريطاني الإسرائيلي، كانت هناك مواطنة رسمية، المواطنة كحيز أو كمنبر للدمج والاندماج، مقابل الوعي الشعبي بأنّ المواطنة تعطيكَ مكانة في داخل الدولة.

الناصرة تحولت إلى مدينة قسرًا (أ ب)
الناصرة تحولت إلى مدينة قسرًا (أ ب)

في هذا الإطار، تقول الباحثة الأميركية شيرا رابنسون، التي أصدرت كتابا عن الحكم العسكري، إنّ إسرائيل خلقت المواطنة في السياق الإسرائيلي كوسيلة لإقصاء العرب، وذلك بعكس المنطق السوي الذي يقف من وراء المواطنة، بمعنى أنّ إسرائيل خلقت المواطنة كتصنيف لإبعاد الفلسطينيين عن حقهم في الدولة.

الفلسطينيون، من جهتهم، تحدّوا هذا الطرح من خلال حيز تعني فيه مواطنتهم شيئا ما، خاصّةً حماية حقهم في التواجد المادي في وطنهم، وهو أمر لم يكن مفهوما ضمنًا، خاصّة وأن عمليات التهجير استمرت حتى عام 1952، في حين استمرت هذه العمليات في النقب حتى عام 1959.

عرب 48: أنتِ اخترت الناصرة نموذجًا لكفاح الفلسطينيين تحت المواطنة الإسرائيلية، إنْ صحَّ التعبير، خاصة في الخمسينيات والستينيات التي ساد فيها الحكم العسكري.

دلاشة: أنا أنظر إلى الناصرة كنقطة محورية، لأن الناصرة أصبحت، رغمًا عنها، المدينة الفلسطينية بعد تهجير وتغييب المدن الكبيرة، مثل يافا وحيفا واللد والرملة والقدس، فالناصرة كانت مدينة صغيرة رغم أنّها كانت مركزًا إداريًا بريطانيًا، وأصبحت قيادتها القيادة الفلسطينية تبني على طرح الهوية وطرح المواطنة من أجل الإصرار على التمسك بالأرض وعلى إجبار الدولة الإسرائيلية بتقديم الحقوق المستلزمة من المواطنة وتبعاتها.

والقيادات الفلسطينيّة التي بقيت في المدينة أصبحت تستغلّ الحيز السياسي الجديد الذي فيه إسرائيل مجبرة على إعطاء الفلسطينيين حق المواطنة، وتبني على النضال الذي كانت قد بدأته (أي القيادات) في العهد البريطاني لتطوير إستراتيجيات حق البقاء المادي والحضور كفلسطينيين.

وإذا فكّرنا بالواقع التاريخي، نرى أنّ الناس تتعامل مع الواقع الذي تعيش فيه بطرق مختلفة، وإذا فكّرنا بما فكرنا بما فعله رئيس بلدية الناصرة، يوسف الفاهوم، عندما صعد إلى الجبل وهو يحمل العلم الأبيض معلنا استسلام المدينة، يمكن اليوم أن نأتي من موقعنا المرتاح ونقول ما هذه الخيانة، ولكن في 15 تموز 1948، وبعد خروج جيش الإنقاذ تاركًا وراءه سياراته وعتاده وسقوط صفورية وشفاعمرو، وفي اليوم الذي جرى فيه احتلال اللد والرملة، آخر المدن الفلسطينية، ماذا كان أمام الناصرة أن تفعل؟

عرب 48: تقصدين أنّه من تلك النقطة بدأ فصل جديد في حياة البقية الباقية في الوطن في صراعهم من أجل البقاء؟

دلاشة: لقد بقي 156 ألف فلسطيني توزعوا بين الجليل والمثلث والنقب وفرض عليهم الحكم العسكري، وتقع عليهم مسؤولية بناء كيان فلسطيني يضمن تواجده المادي والمعنوي، وأهل الناصرة بصفتها "المدينة" وقياداتها المتبقية من الشيوعيين والقيادات الدينية والبلدية والاجتماعية ساهموا في خلق هذا الكيان.

وأنا لا أقول إنّه لم يكن تعاون مطلق مع إسرائيل، كانت هناك مجموعة معروفة وداخل تلك المجموعة كانت تباينات في طرق التعامل مع الواقع السياسي الجديد، فهناك من اختار المواجهة وهناك من تعامل بـ"جرجرة الأرجل".

عرب 48: داخل من اختاروا المواجهة كانت تباينات، أيضًا، على غرار التباين بين حركة الأرض والحزب الشيوعي؟

دلاشة: إذا نظرنا إلى التباين كنطاق وليس كتضاد، يمكن أن نفهم الواقعية السياسية أكثر بكثير، فمثلا حركة الأرض بدأت عام 1959 كتعاون بين الشيوعيين والقوميين في إطار الجبهة الشعبية، ثم اختلفت مكوّناتها على خلفية التناقضات الفكرية العربية والخلاف بين عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، ولكن حتى عام 1959 كان الشيوعيون هم الوحيدون الذين يعارضون سياسات إسرائيل بشكل واضح وصريح.

صحيح أنّه كانت هناك اختلافات، وكان هناك رضوخ لبعض المطالب الصهيونية وكانت هناك أخطاء، ولكن تجب محاكمة كل ذلك في إطار اللحظة التاريخية العينية.

عرب 48: التيارات التي كانت فاعلة في تلك الفترة لها امتداداتها في اللحظة الراهنة، وهي موجودة اليوم تحت سقف واحد، ولا أحد يخون الشيوعيين ولكن حركة الأرض كانت نقلة إلى الأمام؟

دلاشة: بالتأكيد، ولكن في لحظة تاريخية أخرى وأعني الـ59 وليس الـ49، وأنا أعتقد أن عملنا السياسي يجب أن يجري في محورين، الأول داخلي فلسطيني ينبني في إطاره وعينا السياسي حول تاريخنا، والثاني نحو الخارج للجمهور غير الفلسطيني ويؤكد على استمرارية الهوية الفلسطينية وبناء إستراتيجيات مواجهة.

من عمليات التهجير خلال النكبة (رويترز)
من عمليات التهجير خلال النكبة (رويترز)

وبالنسبة لحركة الأرض، فأنتَ تعرف أن هناك رومانسية كبيرة في التعاطي معها، فقد أقيمت في الـ59 واستمرت لمدة ست سنوات، أي حتى الـ65 وخلالها ذهبت ست مرات للمحكمة العليا، أي أن قياداتها قضت أغلب وقتها في محاولات الحصول على شرعية قانونية، لأن إسرائيل رفضت وجود أي عامل فلسطيني لا يخضع لحدود معينة، ويمكن اعتبارها في هذا السياق محاولة تمرد حاولت أن تتخطى السقف الذي عمل تحته الحزب الشيوعي ولكن ليس بنجاح كبير، علمًا بأنّها شكّلت نقلة أثرت على الخطاب الفلسطيني القومي وعلى الحزب الشيوعي ذاته داخليا.

عرب 48: تلمحين إلى انشقاق الحزب الشيوعي عام 1965 وإلى تعزّز الخطاب القومي داخل الشق الأصيل منه؟

دلاشة: حركة الأرض كانت محاولة أولى لخلق حيز فلسطيني مستقل عن الحيز "اليهودي"، ونحن نعرف أنّ قوة الحزب الشيوعي، والتي هي جزء من ضعفه أمام المجتمع الفلسطيني، هي في المكون اليهودي الذي ساهم في حمايته من القمع الإسرائيلي الذي حاول منع أي كيان عربي مستقل.  

عرب 48: لاحظت أنك قارنت بين أوراق التصور المستقبلي وخاصة وثيقة حيفا وبين رسالة حركة الأرض إلى الأمم المتحدة؟

دلاشة: نعم، هناك تواصل تاريخي ونحن لا يجب أن ندعي بأننا نخترع العجل كل مرة من جديد، فقضايانا ومطالبنا الوطنية واحدة وثابتة وما هو مطلوب في كل مرحلة وأخرى هو تطوير آليات ووسائل وإستراتيجيّات النضال التي تخدم هذه القضايا وتقربنا من تلك المطالب.


د. لينا دلاشة: بروفسور مشارك في قسم التاريخ في جامعة هامبولدت في ولاية كاليفورنيا الأميركية، حصلت على اللقب الأوّل من كلية الحقوق في الجامعة العبرية، وبعد حصولها على رخصة المحاماة عملت في مؤسسات تدافع عن حقوق الفلسطينيين. حصلت على الدكتوراه في مجالي التاريخ وعلوم الشرق الأوسط من جامعة نيويورك في الولايات المتحدة عام 2012، وعملت في عدة جامعات أميركية. ولها العديد من الأبحاث المنشورة في مجلات وكتب علمية أميركية وعالمية وعربية.

التعليقات