71 عاما على النكبة: الحملات الصهيونية الأخيرة لكسب الحرب (26 – 2)

كانت موافقة موشيه شاريت، وزير الخارجية الصهيوني، على تنفيذ الحملة العسكرية ضد الجيش المصري، مشروطة بأن تعمد إسرائيل إلى إيهام العالم بأن المصريين هم من خرقوا الهدنة، ويجب أن يكون ذلك واضحا وضوح الشمس للعالم أجمع

71 عاما على النكبة: الحملات الصهيونية الأخيرة لكسب الحرب (26 – 2)

من الأرشيف

الحلقة الثانية من الحملة الأولى: انطلاق حملة "يوآڤ" وبدء حصار الفالوجة 

"مساءً، اتخذنا اليوم في الحكومة أخطر قرار منذ أن قررنا إعلان إقامة الدولة"، هكذا كتب داڤيد بن غوريون في مذكراته بتاريخ ٦ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، بعد أن أقرت الحكومة الصهيونية تنفيذ هجوم على الجيش المصري في الجنوب بعيد عيد "الغفران" لليهود، والذي ينتهي في ١٤ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨.

كانت خطة الهجوم جاهزة، كما تقدم في الحلقة السابقة، وينتظر أصحابها ساعة الصفر، عند صدور الأوامر بالتنفيذ. لم يكتفِ بن غوريون بأغلبية ثمانية أعضاء الحكومة، بل أبرق لوزير الخارجية، موشيه شاريت، والذي كان في زيارة رسمية لباريس "كي يسرع في إرسال ملاحظاته، وردة فعله، ورأيه في قرار الحكومة"، وأشار في مذكراته إلى أن "القرار النهائي بشأن العملية في يد اللجنة الخماسية (للأمن) بعد وصول رد موشيه".

كان بن غوريون يهتم بشكل كبير بالدبلوماسية العالمية، ويرمي دائما إلى عدم تعقيد الأمور مع الأمم المتحدة، فهو ما زال بحاجة إليها من أجل ضمان عدم الضغط على الدولة الصهيونية "الفتية" لتنفيذ ما لا تريده، من تنازلات تؤدي إلى إلغاء نتائج انتصاراتها العسكرية.

وجاء ردّ موشية شاريت بالموافقة، في ١٠ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، في أوج التحضيرات لحملة "يوآڤ"، وتقرر أن تبدأ الحملة بتاريخ ١٤ تشرين أول/ أكتوبر، ولكنها فعليا تأخرت يوما واحدا، وانطلقت في ليلة ١٥-١٦، حيث ان الأسلوب الذي اتبعته القيادة العسكرية الصهيونية طوال الحرب، يقضي بأن الليل يستغل للهجوم، وفِي النهار الذي يليه تتحول القوة إلى الدفاع من أجل المحافظة على المواقع التي احتلتها ليلا.

الشيء الوحيد الذي عكر صفو التحضيرات الصهيونية هو الخلاف الذي كان بين بن غوريون رئيس الحكومة ووزير الدفاع، وبين يغئال ألون قائد الجبهة الجنوبية وحملة "يوآڤ"، وذلك بسبب الأوامر الذي أصدرها بن غوريون في ٧ تشرين أول/ أكتوبر، والتي تقضي بحل القيادة الخاصة لألوية "الپلماح" (القوة الضاربة في "الهاغاناه") خلال أسبوع، وإتباعها مباشرة إلى الجيش، مما أثار حفيظة ألون الذي أرسل رسالة شديدة اللهجة إلى بن غوريون، أعلمه فيها أنه يرى بأن هذا القرار من شأنه التأثير على مجريات الحرب عموما، وحملة "يوآڤ" خصوصا. رغم هذا الاستنكار إلا أنه لم يتمرد وأي من قادة "الپلماح" واستمرت التحضيرات للحملة العسكرية ضد الجيش المصري، وفِي المقابل لم يتراجع بن غوريون عن موقفه هذا، حتى حل منظمة "الپلماح" تماما بعد انتهاء حرب ١٩٤٨.

قافلة وهمية تطلق حملة "يوآڤ"

كانت موافقة موشيه شاريت، وزير الخارجية الصهيوني، على تنفيذ الحملة العسكرية ضد الجيش المصري، مشروطة بأن تعمد إسرائيل إلى إيهام العالم بأن المصريين هم من خرقوا الهدنة، ويجب أن يكون ذلك واضحا وضوح الشمس للعالم أجمع. وكان شاريت يعتقد أن الحملة ستكون قصيرة، ولن يكون بالإمكان الاستمرار بها أكثر من خمسة إلى ستة أيّام فقط، إذ أن الأمم المتحدة ستقوم بالضغط وبشدة على إسرائيل من أجل وقف الحرب، ولذلك يجب أن تكون الضربة الصهيونية سريعة وساحقة.

في الساعة الثانية عشر ظهرا، من يوم ١٥ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، خرجت قافلة إمدادات صهيونية من كراتيا الواقعة بالقرب من الفالوجة باتجاه مستعمرات النقب المحاصرة، وقامت إسرائيل قبل خروج هذه القافلة بتبليغ  مُراقِبي الأمم المتحدة بشأنها. انطلقت القافلة عبر الطريق الترابية والتي تمر على بعد ٣٥٠ مترا فقط من مواقع الجيش المصري.

مرّت القافلة، ولكن الجيش المصري لم يحرك ساكنا ولَم يحاول إيقافها، وذلك بعكس المرات السابقة عندما مرت قوافل أخرى. كان جميع الصهاينة بانتظار الضربة المصرية ولكنها لم تحدث. كان التوتر شديدا، بسبب اتفاق مع المصريين على السماح بمرور قوافل الإمدادات في ساعات معينة من اليوم، فهذا الاتفاق من شأنه أن يمنع المصريين من إطلاق النار على القافلة، مما سيسبب فشل خلق الحجة لبدء الحملة. لم يطلق المصريون النار على القافلة، فلجأ الصهاينة إلى الحيلة المتفق عليها، فقاموا بإشعال شاحنة وقود والتي سرعان ما انفجرت، وتسبب هذا الانفجار بخروج المصريين عن هدوئهم حيث قاموا بإطلاق النار على القافلة ودمروا شاحنتين في مقدمة القافلة، عندها أعطيت الأوامر لقائد القافلة بالانسحاب إلى الخلف، حيث أن الهدف قد تحقق، إذ قام الجيش المصري "بخرق الهدنة"، وأعطى الحجة المطلوبة لموشيه شاريت وبن غوريون لمواجهة مجلس الأمن في حالة تدخله لوقف المعارك.

كما كان مخططا منذ البداية، ابتدأ "الردّ" الصهيوني بقصف جوي مكثف، فيما سمي بحملة "إچروف" (أي "القبضة" بالعربية)، عند الساعة ١٧:٠٠ من نفس اليوم، أي ١٥ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨. قصفت أربع طائرات C-46، وطائرتان من نوع "داكوتا" مراكز القيادة العسكرية لقوات المشاة المصرية في غزة والمجدل، وألقت عليهم عشرة أطنان من المتفجرات، وقصفت مطار العريش بطنّين من المتفجرات عند الساعة ١٨:٠٠، فدمرت بضع طائرات مصرية على الأرض، وتحقق الهدف الصهيوني من القصف، وهو مفاجأة الجيش المصري وطائراته على الأرض، وتدمير ما يمكن منها، وبذلك يكون التفوق الجوي للطائرات الصهيونية، وهذا ما كان بالفعل إذ أن مطار العريش أصبح غير صالح للاستعمال تقريبا.

عادت الطائرات وقصفت غزة والمجدل مرة أخرى، وكذلك بيت حانون، وفِي صباح اليوم التالي تم قصف الفالوجة ودير سنيد وأسدود، وتجمعات للجيش المصري في منطقة شمال النقب. كانت الطائرات الصهيونية من نوع "مسرشميط" و"سبيتفاير" خلال عمليات القصف تطير على ارتفاع ١٠٠٠٠ قدم، وتلقي قذائف بوتيرة قذيفة بوزن ٥٠ كغم كل ثانية، أي بمعدل ثلاثة أطنان في الدقيقة. وخلال ستين طلعة جوية في اليومين الأولين للحملة القت الطائرات الصهيونية أكثر من ٣٤ طنا من المتفجرات.

هذه كانت المعركة الأولى خلال حرب ٤٨، التي بدأت بقصف جوي صهيوني، أراد له منفذوه أن يحسم الحملة من بداياتها، وبالفعل كان للتفوق الجوي الصهيوني أكبر الأثر على سير المعارك فيما بعد، حيث أن سلاح الجو المصري، والذي تلقى ضربة شديدة، وهو على الأرض، لم يعد باستطاعته أن يقصف مدينة تل أبيب أو أي هدف صهيوني هام، كما كان يفعل قبل هذه الضربة،  حيث كان عدد الطلعات الجوية الصهيونية خلال حملة "يوآڤ" أكثر بثمانية أضعاف من عدد الطلعات الجوية المصرية.

بدء العمليات في الليلة الأولى للهجوم البري

ابتدأ الهجوم البري، في ليلة ١٥-١٦ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨ بغارات قامت بها الكتيبة التاسعة من لواء "هنيچڤ" في قطاع غزة - رفح، وكان هدف الغارات تدمير طرق مواصلات وتفجير خطة سكة الحديد، وبالأساس تحويل أنظار المصريين عن الهجمات الأساسية الهادفة إلى إحداث اختراقات في صفوف الدفاع المصرية، ودق أسافين تمكن الجيش الصهيوني من فصل وحدات الجيش المصري عن بعضها البعض، كما تقدم في الحلقة الماضية عن خطة حملة "يوآڤ".

كانت القوة الصهيونية الأولى مؤلفة من اثني عشر سيارات "جيب" ومدرعتين، وانطلقت على ضوء القمر باتجاه طريق غزة- خان يونس. ولم تستطع القوة المهاجمة من تحقيق هدفها بتدمير خط السكة الحديد، حيث انتبه المصريون للقوة المتقدمة تحت جنح الظلام، وقاموا بإطلاق نيرانهم عليها، وخرجت إحدى الشاحنات، المحملة بالجنود المصريين، من ثكنة مصرية في الطريق، وهاجمت القوة الصهيونية، واشتبكت معها وأجبرتها على الانسحاب بعد معركة شديدة استعملت فيها الأسلحة الرشاشة بكثافة كبيرة من الطرفين.

خرجت قوة صهيونية ثانية من الكتيبة التاسعة/ لواء "هنيچڤ" مكونة من أربع مدرعات عند الساعة ٢٠:٠٠، باتجاه طريق بئر السبع-غزة ومن ثم إلى مستعمرة "باروت يتسحاك"، وهناك أطلقت نيرانها الرشاشة باتجاه الثكنة المصرية القريبة من المستعمرة، وجرى تبادل إطلاق نار بين الطرفين لمدة قصيرة، ثم انسحبت عندما اقتربت الساعة من ٠١:٣٠ صباحا.

قوة ثالثة من نفس الكتيبة أرادت أن تفجر جسرا مقاما على وادي غزة، ولكنها لم تفلح في ذلك بسبب أن نصف المجنزرة التي حملت المتفجرات، انفجرت انفجارا كبيرا بعد مرورها على أحد الألغام، فتنبه المناضلون من المنطقة للقوة الصهيونية فقاموا بفتح نيرانهم عليها، مما اضطرها إلى الانسحاب على أعقابها مع مجنزرتين معطوبتين. أما القوة الرابعة من الكتيبة التاسعة فقد نجحت بزرع ألغام على جوانب الشارع شمال مخيمات رفح.

تنفيذ خطة الهجوم ودق الأسافين

في نفس الليلة، انطلقت قوة من لواء "يفتاح" من أجل أن تحدث اختراقا في الخطوط المصرية، وتدق إسفينا في قلبها. كانت المنطقة الواقعة بين المستعمرات الصهيونية الثلاثة "چيڤر عام" و"نير عام" و"دوروت"، تشكل نقطة انطلاق لدق الإسفين، إذا تم توسيعها باتجاه طريق الجيش المصري. وتقدمت القوة الصهيونية إلى الغرب من "نير عام" وسيطرت على مخافر تبعد ٢-٤ كم من المستعمرة، شرق وشمال شرق بيت حانون، وكذلك تمت السيطرة على مخفرين آخرين (تلة ١١٢.٩ و تلة ٩٥.٦) يطلان على شمال القريتين العربيتين ديمرا ونجد. في الناحية الجنوبية قامت قوة أخرى بالسيطرة على تلة رقم ١١٠.٧. وابتدأت القوات الصهيونية التي سيطرت على هذه المخافر والتلال بالتحصن فيها على الفور، من أجل إبقاء الإسفين الهادف إلى صد الطريق أمام حركة القوات المصرية على شارع المجدل – غزة.

تم احتلال المخافر والتلال المذكورة بدون مقاومة تقريبا، ما عدا تلة رقم ٨٤.٤، حيث سيطرت عليها قوة صغيرة من المناضلين المحليين، الذين حاولوا مرتين استردادها دون جدوى.

في نفس الليلة أيضا، أي ليلة ١٥-١٦ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، قامت الكتيبة الثالثة من لواء "چڤعاتي" بدق إسفين آخر، في الشارع الموصل بين المجدل وبيت جبرين، شرقي عراق المنشية، وتمركزت الكتيبة من طرفي الشارع وبذلك سيطرت عليه تماما، وأنهت مهمتها عند الساعة ٢٢:٤٥.

قامت السرية الثالثة من هذه القوة باحتلال التلة رقم ٢٢٤.٩، والسرية الرابعة احتلت تلة خربة المصرارة من أجل إغلاق الطريق، أما السرية الأولى فقامت ببناء التحصينات وتخندقت في التلال المحتلة.

الهجوم على عراق المنشية

اقترح يتسحاك ساديه قائد لواء "شموني" المدرع، أن يتم الهجوم على عراق المنشية في اليوم الثاني لبدء المعارك، أي تقديم موعد هذا الهجوم بيوم كامل، وذلك لاعتقاده بأن احتلال عراق المنشية أسهل من الهجوم على الفالوجة المحصنة جيدا، وأسهل من احتلال تقاطع طريق المجدل-عراق سويدان، وهذا من شأنه أن يحقق الهدف في فتح الطريق إلى مستعمرات النقب المحاصرة بخسائر أقل بكثير من المتوقع. تم قبول الاقتراح في قيادة الحملة، رغم معارضة يتسحاك رابين ضابط عمليات حملة "يوآڤ"، إذ أراد أن يستمر استعمال الطريقة المتبعة لدى الجيش الصهيوني، بتنفيذ هجمات ليلية، واعتبر موافقة يغئال ألون قائد الحملة على اقتراح يتسحاك ساديه بأنها وقعت في نقطة ضعف لدى يغئال ألون. بالموافقة على اقتراح ساديه أصبح الهجوم معتمدا بالأساس على دبابات ومدرعات لواء "شموني".

كانت القوة التي ستنفذ الهجوم مكونة من الكتيبة السابعة من لواء "هنيچڤ"، والكتيبة الثانية من لواء "شموني" والتي ضمت دبابتين من نوع "كرومبل" وسبع دبابات "هوشكس"، وكتيبة دعم مجهزة بست عشرة راجمة قنابل عيار ٨١ مم، وسرية مدرعة من لواء "چڤعاتي"، وسرية أنصاف مجنزرة من نفس اللواء، وثلاث بطاريات مدفعية ٧٥ مم، وراجمتي قنابل ثقيلة. بالإضافة إلى دعم جوي من سلاح الطيران.

كان على القوة المهاجمة أن تحتل مدرسة عراق المنشية، وتلة تشرف على القرية من الناحية الشمالية، والسيطرة على الطريق الواقع على بعد كيلومتر واحد شرق الفالوجة، أما الكتيبة الثالثة من لواء "چڤعاتي" فكان عليها احتلال المخافر المصرية الواقعة شرق عراق المنشية. أما الكتيبة الخامسة "چفعاتي" فكان عليها منع وصول دعم للقوات المصرية في عراق المنشية، بواسطة قصف طريق المواصلات التي تستعملها القوات المصرية.

ابتدأ الهجوم، في الساعة ٠٥:٠٠ صباحا من يوم ١٦ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، بقصف مدفعي شديد لم تشهد مثله القوات المصرية من قبل.

هزيمة صهيونية كبيرة

في الساعة ٠٥:٣٠، أعلن قائد سرية الكتيبة السادسة المصرية المواجهة لمستعمرة "جت"، "أن العدو يتقدم بالدبابات"، وكانت هذه صدمة كبيرة للقوات المصرية وضابط عمليات الكتيبة السادسة جمال عبد الناصر، إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي تستعمل فيها الدبابات في النقب، ولَم يكن لدى القوة المصرية في عراق المنشية إلا مدفعين مضادين للدبابات عيار ٦ أرطال، ولكنها لم تستطع استعمالهما بسبب أن القصف المدفعي الشديد كان قد طالهما، وأصيبا بقنابل الهاون إصابة مباشرة، مما أدى إلى تعطيلهما تماما.

تقدمت القوات الراجلة الصهيونية قبل الدبابات، وتحت غطاء القصف المدفعي الشديد على عراق المنشية وتقدمت الدبابات حتى وصلت إلى مواقع المشاة، واستمرت في مسيرها والمشاة من خلفها، مطلقة مدافعها بشدة، ونيران المدافع الرشاشة وبنادق الجنود المشاة، بهدف إحداث ضربة صاعقة في القوات المصرية وإجبارها على الانسحاب أو الاستسلام. يصف عبد الناصر في مذكراته المشهد قائلا: "كانت البلدة في هول مخيف. القنابل تنفجر في كل ناحية. ضجيج المعركة يملأ الآفاق. طلقات الرصاص تئز مجنونة لا تلوي على شيء".

نجحت الدبابات في اختراق الأسلاك الشائكة ونطاق الدفاعات المعدة حول مواقع الجيش المصري، ووصلت إلى قلب عراق المنشية، مما أدى إلى خروج كل من يقدر على حمل السلاح من المصريين، من الطباخين والسائقين من أجل مواجهة الدبابات المتقدمة بكل شجاعة وقوة.

تقدمت فصيلة الحمالات المصرية إلى وسط حقل مزروع بالتين الشوكي، مواجها لتقدم الدبابات الصهيونية. كان جنود هذا الفصيل مزودين بمدافع "الفيات" الصغيرة، والتي باستطاعتها تدمير الدبابة من مسافة قريبة فقط.

تقدمت الدبابات نحو فصيلة الحمالات المصرية، والتي صمد جنودها في أماكنهم، بل تقدموا لإغلاق الثغرة التي فتحتها الدبابات المهاجمة. وتقدم أحد الجنود حاملا مدفعه واختبأ بين الأشواك، وظل ينتظر الدبابات، حتى صارت إحداهما على بعد عشرة أمتار منه، فأطلق عليها مدفعه وأصابها إصابة مباشرة دمرتها على الفور.

في نفس اللحظة، أطلق قائد الفصيل الذي اكتسحته الدبابات، قذيفة من مدفع "فيات" فأصاب دبابة أخرى فأعطبها. دبابة ثالثة واجهت لغما أرضيا فانفجرت.

تعطلت ثلاث دبابات من الست المهاجمة، فوجدت القوة الصهيونية الراجلة نفسها في وسط القرية عند المدرسة، بدون قدرة للدبابات على حمايتها، وانطلقت قنابل الهاون من الفالوجة تقصف القوة المهاجمة، وكذلك المدافع الرشاشة من التلة رقم ١٢٣.٦ التي تسيطر عليها فصيلة مصرية. تجمدت القوة الصهيونية المهاجمة في مكانها بين مدرسة عراق المنشية والتلة الشمالية، لم يعد بإمكانها التقدم أكثر، خاصة وأن إحدى الدبابات المتبقية، حاولت الصعود إلى التلة ولكنها ووجهت بنيران قوية فعادت على أعقابها.

صدرت الأوامر الصهيونية بالانسحاب فورا، عند الساعة ١٠:٣٠. كان عدد القتلى الصهاينة من الضباط كبيرا، مما أدى إلى تنفيذ الانسحاب بدون قيادة، فتحول خلال لحظات إلى فوضى مما أدّى إلى ترك الكثير من الجرحى والقتلى على أرض الميدان، مما اضطر الصهاينة إلى تنفيذ هجوم آخر من أجل حسم المعركة، وكان هذا الهجوم أيضا، يعتمد على لواء المدرعات (لواء "شموني")، بدون أن يعرف المهاجمون أن المصريين كانوا قد نجحوا في إحضار ثلاثة مدافع مضادة للدبابات عيار ٦ أرطال من كراتيا، خلال الهجوم الأول.

تقدمت ست دبابات من نفس المكان الذي اخترقته الدبابات الأولى، نحو الأسلاك الشائكة، معتقدة أن بإمكانها احتلال المدرسة بقوة نيرانها، ولكنها تعرضت لإطلاق من المدافع المضادة للدبابات، فأصيبت اثنتان منها، فانسحبت باقي الدبابات عائدة لا تلوي على شيء.

في الساعة ١٦:٣٠، حاولت الدبابات الصهيونية اختراق الدفاعات المصرية مرة أخرى، ولكنها فشلت وعادت على أعقابها. من هنا، اكتفى الجيش الصهيوني بالقصف المدفعي الشديد على مواقع القوات المصرية، من أجل التغطية على سحب جثث القتلى، ونقل الجرحى بعيدا عن ساحة المعركة، واستمر القصف المدفعي حتى آخر النهار. وتجاوزت الخسائر الصهيونية المائة قتيل وجريح. 

هجمات للسيطرة على مخافر المفرق

ونقصد هنا بالمفرق، تقاطع طريق المجدل - بيت جبرين وعراق سويدان مع الطريق التي تربط جولس بكوكبة والحليقات، وهي نفس الطريق المتجهة إلى المستعمرات الصهيونية الجنوبية، التي يحاصرها الجيش المصري، منذ دخوله إلى فلسطين.

كانت تبة الخيش، والتي يسميها الصهاينة تلة ١١٣، هي الأهم بين المخافر المصرية الواقعة على التبب (أو التلال) التي تحيط بالمفرق، وتقع شمالي المفرق وتحاذيها التبة أو التلة رقم ١٠٠، وعلى المفرق تماما تقع تلتان واحدة شمال طريق المجدل - بيت جبرين، والأخرى موازية لها جنوبي نفس الطريق. كانت الخطة الصهيونية تقضي بوجوب احتلال هذه التلال من أجل السيطرة على المفرق، ومن ثم احتلال كوكبة والحليقات، وذلك من أجل فتح الطريق إلى مستعمرات النقب التي يحاصرها الجيش المصري.

بعد الهزيمة النكراء في عراق المنشية، وهبوط المعنويات الجيش الصهيوني بعد تدمير كل دباباته تقريبا في المعركة، أراد يغئال ألون تحقيق انتصار سريع يرفع معنويات جنوده من جهة، ويقربه من تحديد أهداف الحملة من جهة أخرى.

كان النظام الدفاعي المصري في منطقة المفرق منظما بشكل جيد. تمركزت سرية واحدة على تبة الخيش، وسرية أخرى على تلال المفرق من الناحيتين، وسرية سعودية في مخفر الحليقات وبيت طيما، وسرية في كوكبة، وسرية في المنطقة الجنوبية الغربية. كانت قيادة هذه السرايا متمركزة في شرطة عراق سويدان التي تبعد كيلومترين عن المفرق، وكانت كل المحاولات السابقة للجيش الصهيوني في احتلالها قد فشلت، ولذلك تقرر أن يتم الهجوم على مخافر المفرق في اليوم الأول، ومن ثم الهجوم على شرطة عراق سويدان في اليوم التالي.

أوكلت مهمة السيطرة على مخافر المفرق للكتيبة الأولى من لواء "چڤعاتي"، وتقررت ساعة الصفر لتحرك الكتيبة عند الساعة ٢٢:٣٠ ليلة ١٦-١٧ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، وأن يتم الهجوم من الجهة الغربية للمفرق، وليس كما توقع المصريون أن يأتي الهجوم من الجهة الشرقية.

ابتدأ القصف الصهيوني لتبة الخيش ومخافر المفرق وشرطة عراق سويدان، بمدافع الهاون عند الساعة ١٦:٤٥ يوم ١٦ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨. وردت الكتيبة التاسعة المصرية مشاة على القصف الموجه من مستعمرة "نچبا"، وبعدها بنصف ساعة تمت المحاولة الأولى لاحتلال تبة الخيش إلا أنها فشلت، وارتد المهاجمون على أعقابهم.

معركة شرسة على تبة الخيش وسقوط مخافر المفرق

مع اقتراب ساعة الصفر، اشتد القصف بمدافع الهاون الثقيلة على تبة الخيش (تبة رقم ١١٣) والتبة رقم ١٠٠، ثم انطلقت مدافع الميدان والرشاشات المتوسطة. انطلقت الكتيبة الأولى/ "چڤعاتي" عند الساعة ٢٢:٣٠، وخلال نصف ساعة كانت قد احتلت التبة ١٠٣ الواقعة غرب تبة الخيش والتبة ١٠٠، وبذلك فتحت الطريق إلى احتلال تبة الخيش، التي تفاجأ الجنود المتمركزون عليها بالهجوم من الجهة الغربية، إذ أنهم استعدوا بشكل جيد، لهجوم من الجهة الشرقية، أي من مستعمرة "نچبا".

على الفور قامت إحدى الفرق باجتياز الطريق، وعبور السياج حول تبة الخيش، وصار جنودها يطلقون القنابل اليدوية والطلقات من بنادقهم ورشاشاتهم الخفيفة، ثم أصبحت معركة وجها لوجه، استعملت فيها الحراب المشهرة، وخلال ساعتين أو أقل تمكنت القوة الصهيونية من احتلال تبة الخيش، رغم الخسائر الفادحة التي منيت بها، والتي قدرت بسبعة وعشرين قتيلا وعشرات الجرحى. خلال وقت قصير كانت التبة رقم ١٠٠ قد احتلت أيضا وسقطت في أيدي قوة "چڤعاتي".

انطلقت قوة أخرى من نفس الكتيبة وفِي ساعة الصفر، من أجل احتلال مخفري المفرق، وانقسمت الفرقة إلى قسمين، الأولى ذهبت لاحتلال المخفر الجنوبي لطريق المجدل - عراق سويدان، والثانية انطلقت لاحتلال المخفر الشمالي لنفس الطريق، وهذه تم كشفها على يدي القوة المصرية المتمركزة على المخفر الجنوبي، وتصدت لها بنيران قوية، فقام قائد المجموعة المهاجمة بتغيير الخطة، والهجوم على المخفر الجنوبي، وصعد جنوده التلة بعد معركة شديدة بالقنابل اليدوية والأسلحة الخفيفة.

بادئ الأمر، لم تستطع المجموعة التي هاجمت من الجهة الجنوبية أن تصعد التلة بسبب قوة النيران المصرية، ولكنها استطاعت بعد الاستعانة بالقوة الشمالية من التقدم إلى الأعلى، وبذلك تم احتلال المخفر الجنوبي للمفرق. نظم المصريون هجوما مضادا بسرعة، ورغم وقوع خسائر فادحة بالقوة الصهيونية إلا أنها صمدت حتى الصباح، وفِي اليوم التالي واجهت أربع هجمات مصرية مضادة، وقصفا جويا مصريا، واستطاعت الصمود بفضل الدفاعات القوية المنظمة والتي بناها الجيش المصري عندما سيطر على التلة.

في المساء، أرسلت التعزيزات للقوة الصهيونية على التلة الجنوبية لتثبيت احتلالها، مما اضطر القوة المصرية المتمركزة على التلة الشمالية للمفرق للانسحاب باتجاه المجدل غربا، وعراق سويدان شرقا، وبهذا تمت السيطرة على المفرق، ومحاصرة القوات المصرية المتواجدة في عراق سويدان وعراق المنشية والف لوجة، فيما سمي فيما بعد بجيب الفالوجة، والذي بقي محاصرا حتى نهاية الحرب تقريبا.

سقط المفرق بأيدي الجيش الصهيوني، فيما اعتبر نجاحا جزئيا فقط، حيث بقيت الطريق إلى مستعمرات النقب مغلقة تقريبا، ولن يتم فتحها إلا باحتلال كوكبة والحليقات جنوب المفرق.

يتبع ....


 المصادر:

١. "بيني موريس"، ١٩٤٨- تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى؛
٢. محمد حسنين هيكل، جيوش وعروش- الجزء الثاني؛
٣. "أبراهام ألون"، لواء "چڤعاتي" في مواجهة الغازي المصري؛
٤. د. رفعت سيّد احمد، وثائق حرب فلسطين- الملفات السرية للجنرالات العرب؛
٥. "نتانائيل لورخ"، سيرة حرب "الاستقلال"؛
٦. إبراهيم شكيب، حرب فلسطين ١٩٤٨- رؤية مصرية؛
٧. "داڤيد طال"، حسم عسكري في ظل مشاجرة سياسية، كتاب: حرب "الاستقلال" ١٩٤٨-١٩٤٩ نقاش مجدد، تحرير "ألون كديش"؛
٨. "داڤيد بن غوريون"، يوميات الحرب ١٩٤٧-١٩٤٩؛٩. جمال عبد الناصر، كلمة صريحة- موعد في الأرض المقدسة؛
١٠. د. عبد الوهاب بكر محمد، الجيش المصري وحرب فلسطين ١٩٤٨-١٩٥٢؛
١١. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود؛
١٢. الجيش الإسرائيلي، معارك ١٩٤٨، ٢٣ قصة معركة في حرب الاستقلال؛
١٣. أحمد خليفة (مترجم)، حرب فلسطين ١٩٤٧-١٩٤٨؛
١٤. "موشيه چڤعاتي"، في طريق الصحراء والنار، سيرة الكتيبة التاسعة؛
١٥. الجيش الإسرائيلي، لواء النقب في الحرب؛
١٦. "عميعاد برزنر"، النقب في الاستيطان والحرب؛
١٧. "زكي شالوم"، عن علاقة المستوى السياسي بالمستوى العسكري، انضباط عسكري وأخلاق حربية، شهادة. 

التعليقات