71 عاما على النكبة: الحملات الصهيونية الأخيرة لكسب الحرب (26 – 4)

استمرت مجزرة الدوايمة عدة أيام قام الجنود بقتل كل من سوّلت له نفسه بالرجوع إلى القرية، حتى وصل عدد الشهداء إلى أكثر من ٤٥٥ شخصًا، كما أحصى مختار القرية آنذاك الشيخ محمود هديب، منهم نحو ١٧٠ امرأة وطفل

71 عاما على النكبة: الحملات الصهيونية الأخيرة لكسب الحرب (26 – 4)

الحلقة الرابعة والأخيرة من الحملة الأولى: سقوط بئر السبع ومجزرة الدوايمة وانتصار صهيوني


يمكن القول إن حملة "يوآڤ" استطاعت تحقيق أحد أهدافها الرئيسية، وهو فتح الطريق إلى مستعمرات النقب التي حاصرها الجيش المصري طوال أشهر عديدة، ولكن هذا الإنجاز يبقى صغيرًا أمام الذي أراده الصهاينة من هذه الحملة، وهو إنهاء الوجود المصري في فلسطين، أو حصار ما يبقى من وحداته، ومن ثم القضاء عليها.

كانت الخطة الأصلية للحملة تقضي بمهاجمة الجيش المصري المتمركز في غزة، بعد فتح الطريق إلى النقب، وبذلك يتم تحقيق الهدف الرئيسي للحملة، ولكن القرار الذي اتخذته الأمم المتحدة بشأن وقف إطلاق النار في ١٩ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، ورغم مماطلة بن غوريون بإعطاء جواب الكيان الصهيوني للوسيط الأممي، إلا أنه كان يعرف أن ليس لديه أكثر من يومين أو ثلاثة على الأكثر حتى يدخل وقف إطلاق النار إلى حيّز التنفيذ، ولذلك يجب على يغئال ألون قائد الحملة أن يغير وجهة الحملة، لأن غزة محصنة جيدًا، والهجوم عليها مصيره الفشل المحتم، خاصة أن الوقت محدود جدا، وليس لديه خطة محكمة تمكنه من كسر الجيش المصري، الذي حارب جنوده حتى الآن بشجاعة، واستطاعوا صد هجمات صهيونية كبيرة، ودافعوا دفاعًا شرسا، بنيران كثيفة، وبأجسادهم إذا اضطروا إلى ذلك، كما حصل مع المصريين والسودانيين في معارك المفرق، أو مع السعوديين والمصريين في معارك الحليقات.

إذًا، كان على ألون أن يجد مخرجًا آخر، يمكنه من تحويل الإنجاز الذي تحقق إلى نصر حقيقي كبير. فقرر أن يحوّل الهجوم إلى مدينة بئر السبع، حيث أنها تعتبر مركزًا هاما يربط بين الخليل والنقب، وهي المعبر إلى أم الرشراش على البحر الأحمر، واحتلالها سيؤدي إلى حصار الجيش المصري المتواجد في الخليل وجنوب القدس، وفصله عن باقي وحدات الجيش المصري في الغرب. وأخيرًا احتلال بئر السبع بالنسبة للصهاينة هو المنصة التي من خلالها يمكنهم الوصول إلى سدوم، وكذلك فإن احتلالها سيحدث تواصلا جغرافيا مع المستعمرتين "نباطيم" و"بيت إيشل" الواقعتين شرقها، وحسب قرار التقسيم كانتا ستبقيان ضمن الدولة العربية مع مدينة بئر السبع.

الوضع العسكري لبئر السبع قبل الهجوم

كان يقطن بئر السبع عام ١٩٤٨، حوالي ٧٠٠٠ فلسطيني، وعند اقتراب الانسحاب البريطاني من فلسطين، كوّن سكانها لجنة قومية تشرف على إدارة المدينة ونضال سكانها ضد المستعمرات الصهيونية، أسوة بباقي المدن الفلسطينية. كذلك تأسست حامية للدفاع عن المدينة مكونة من أفراد الشرطة الوطنية والهجانة في قطاع بئر السبع، وعددهم ٦٠ شخصا، ومن مناضلين من المدينة وكان عددهم حوالي ١٠٠ مناضل، وقد تدرب هؤلاء المناضلون في العريش لمدة شهرين على أيدي ضباط مصريين.

كانت الأسلحة التي يملكها المناضلون قليلة، ولا تفي بغرض الدفاع عن المدينة، وأغلبها كان اقتناؤه على حساب الأهالي، ليس هذا فحسب بل إن المصريين الذين قدموا إلى المدينة في  ١٧ أيار/ مايو ١٩٤٨، قاموا بمصادرة كمية كبيرة من أسلحة المناضلين، وأخذوها لاستعمال الجيش المصري، وضمت الأسلحة المصادرة مدافع رشاشة من نوع "هوشكس" و"برن"، ومدافع مضادة للطائرات، وبنادق وألغاما ومسدسات وذخيرة وغيرها.

كان في المدينة عند الهجوم عليها، بطارية مدفعية عيار ٣.٧ إنش فيها أربعة مدافع، وبطارية مدفعية عيار رطلين مكونة من أربعة مدافع أيضا، وبطارية مدفعية عيار ٨١ ملم تضم ستة مدافع، وبعض المدافع من عيار إنشين، وفصيل أسلحة رشاشة. نصبت هذه المدافع عند المحطة شمال المدينة، وفِي حرش قائم بين المدرسة والمقبرة العسكرية غرب بئر السبع، وتركت التلال المرتفعة والتي تحيط بالمدينة خالية، ولم تستغل من أجل الدفاع عن المدينة.

تواجدت في المدينة عند الهجوم عليها، كتيبة المشاة المصرية الأولى، وكان عدد جنودها حوالي المئتين، بالإضافة إلى مئتين تقريبا من المناضلين العرب من مصر والسودان وفلسطين ينتمون إلى لواء المتطوعين بقيادة شوكت بك. وكانت هذه الكتيبة جزءًا من القوة المصرية المرابطة في عوجا الحفير في الجنوب، مرورا ببئر عسلوج، بئر السبع، حتى جبال الخليل، حتى جنوب القدس، وكان مركزها في بيت جبرين. كانت بئر السبع مرتبطة بثلاث طرق: شارع الخليل من الشمال الشرقي، وشارع غزة من الشمال الغربي، وشارع عوجا الحفير من الجنوب. وقد حفر الجيش المصري خندقا مضادا للدبابات في شمالي المدينة يصل بين شارع الخليل وشارع غزة، ووضع حوله أسلاكًا شائكة، وكذلك الأمر في المنطقة غربي مدينة بئر السبع. في الشرق والجنوب كان وادي بئر السبع الواسع يشكل عقبة أمام كل هجوم من هاتين الناحيتين. بالإضافة إلى كل ما تقدم، أقام المصريون ٢٦ استحكاما دفاعيًا، وبنوا حول المدينة ستة أبراج، من أجل الإشراف على العوائق الأرضيّة.

كان مركز قوة الجيش في محطة القطار التي تقع في شمالي المدينة، أما حاكم المدينة فكان مقره مركز الشرطة، والذي كان يعتبر حصنا منيعا، ولَم يكن يقل مناعة عن مركز شرطة عراق سويدان، والذي سبق ذكره وكان يعتبر عقبة كأداء أمام القوات الصهيونية.

خطة الهجوم على بئر السبع وقوام القوة الصهيونية

ألقى يغئال ألون مهمة احتلال بئر السبع على ناحوم ساريچ، قائد لواء "هنيچڤ"، والذي خسر الكثير من المعارك في حربه ضد الجيش المصري، على أن تنضم إليه كتائب من لواء "شموني" المدرع، الذي مني بهزيمة في عراق المنشية، وذلك لإعطاء "يتسحاك ساديه" قائد هذا اللواء و"ساريچ" فرصة لرد اعتبارهما بواسطة احتلال بئر السبع قبل إعلان وقف إطلاق النار.

كانت القوات التي ستشارك في الحملة، التي أطلق عليها حملة "موشيه"، مكونة من:

١. الكتيبة التاسعة من لواء "هنيچڤ"، بقيادة "يسرائيل كرملي"، ومؤلفة من سرية مدرعة، وسرية نصف مجنزرة، وسرية "الكوماندو الفرنسي"، وسرية مشاة من الكتيبة السابعة/ "هنيچڤ"؛

٢. الكتيبة السابعة/ "هنيچڤ" بقيادة "عوزي نركيس"، وكانت مكونة من سرية مشاة، وسرية سلاح مساعد، وسرية مدرعة من الكتيبة الثامنة من لواء "شموني"(الكتيبة ٨٢)، وسرية نصف مجنزرة من الكتيبة ٨٢ أيضا، وفصيل مساعد من الكتيبة الثامنة/ "هنيچڤ" لحراسة الأسلحة، وفصيلين هندسة من لواء "هنيچڤ" ولواء "شموني" من أجل إزالة الألغام وتفجير بيوت مدينة بئر السبع؛

٣. سلاح مساعد بقيادة "فردي بلوم" وضمت بطارية مدفعية عيار ٦٥ ملم (أربعة مدافع)، ومدفعين عيار ٢٠ ملم موضوعة على أنصاف مجنزرتين، وثمانية مدافع هاون عيار ٨١ ملم من الكتيبة الثامنة من لواء "شموني"، وطاقمي مدفع يدوي ضد الدبابات من نوع "M-2".

كانت الخطة تقضي بأن يبدأ قصف جوي شديد على بئر السبع في الساعة ١٨:٠٠ من يوم ٢٠ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨. في الساعة ٢٣:٠٠ يبدأ هجوم تمويهي في جنوب المدينة بواسطة فصيلي سيارات "جيب"، وفصيل أنصاف مجنزرات من الكتيبة التاسعة/ "هنيچڤ". في نفس الوقت ينطلق فصيلا سيارات "جيب" من مستعمرة "نبطيم"، ويقومان بتفجير جسر موجود على وادي الخليل بجانب الظاهرية، وبذلك تغلق طريق الخليل - بئر السبع.

في الساعة 03:45 يبدأ قصف بمدافع الهاون وبراجمات القذائف على المدينة. وعندها تنطلق القوة الرئيسية المهاجمة من منطقة التجمع بجانب مستعمرة "مشمار هنيچڤ"، وتعبر على طريق غزة - بئر السبع، ثم تسيطر على تبة رقم ٣١٥.٢ على بعد ثلاثة كيلومترات من المدينة. ومن هناك تنطلق الكتيبة التاسعة أولا ثم الكتيبة السابعة، وعليها أن تخترق الدفاعات العربية من ناحية الحارة الجديدة في شمالي شرقي بئر السبع، بواسطة أنصاف مجنزرات، وتحت غطاء من المدافع الرشاشة الثقيلة، ومدفعية ٢٠ ملم ومضادات الدبابات من نوع "M-2".

بعد احتلال الحارة الجديدة، تتجه قوة الكوماندو الفرنسي إلى الخندق المضاد للدبابات بأنصاف المجنزرات، ومن هناك تقتحم الخندق مشيا على الأقدام إلى المقبرة الإسلامية، ومن خلفها تدخل الكتيبة السابعة للمشاركة في احتلال المدينة.

قصف بالطيران وانطلاق الهجوم على بئر السبع

قصفت بئر السبع منذ بداية حملة "يوآڤ"، ففي ليلة ١٥-١٦ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، ألقي على المدينة قنابل بأوزان ٥٠ و ٢٠ كغم ومجتمعة تصل إلى ١،٨٨٠ كغم. وكذلك الأمر في الليلة التي تلتها، حيث ألقي على مركز الشرطة والمدرسة حوالي ٨٠٠ كغم من المتفجرات عن ارتفاع ٥٠٠٠ متر، وكانت كل قنبلة تزن ٥٠ كغم. في ليلة ١٨-١٩ ألقيت على المدينة أكثر من أربعين قنبلة، وزن الواحدة منها ٢٠ كغم. في صباح ١٩ تشرين أول/ أكتوبر ومع اقتراب الهجوم على المدينة، ألقيت ١٦ قنبلة وزن كل واحدة منها ١٠٠ كغم على مقر الشرطة، بدون أن تتعرض طائرة "الديكوتا" التي قامت بالقصف لنيران من مضادات للطائرات، مما دلّ على ضعف دفاعات المدينة.

في مساء ١٩ تشرين أول/ اكتوبر ١٩٤٨، قصفت المدينة في الساعة ٢١:٢٦ بواسطة أربع طائرات من نوع "نورسمان"، وفِي الساعة ٢٣:٤٧، قامت طائرة من نفس النوع بقصف المدينة بعشرين قنبلة تزن الواحدة منها ٢٠ كغم. وبذلك كان مجمل وزن القنابل التي ألقيت على بئر السبع بين ١٧-٢٠ تشرين أول/ أكتوبر هو ٧،٠٩٦ كغم في ١٨ طلعة جوية. 

استمر القصف الجوي الصهيوني لمدينة بئر السبع حتى الموعد المخطط لانطلاق الهجوم، يوم ٢١ تشرين أول/ أكتوبر، لكن موعد الهجوم البري تأجل إلى الساعة ٠٤:٠٠ بسبب تأخر بعض الوحدات عن الوصول إلى نقطة التقاء القوات المشاركة في الهجوم.

في الساعة ٠٢:٠٠ انطلقت القوة الصهيونية من مفرق بجانب مستعمرة "مشمار هنيچڤ"، على طريق غزة - بئر السبع, ووصلت إلى التلة رقم ١٣٥.٢ واحتلتها وتمركزت عليها.

في الساعة ٠٣:٤٥ يوم ٢١ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، ابتدأ قصف مدفعي على المدينة من بطارية مدافع هاون عيار ٨١ ملم متمركزة على بعد ٢ كيلومترا غربي المدينة، وبطارية من نفس النوع تمركزت شمالي المدينة، وبطارية مدفع ميدان عيار ٦٥ ملم تمركزت عند مستعمرة "حتساريم". في نفس الوقت نفذ فصيل مدرعات وفصيل أنصاف مدرعات من الكتيبة التاسعة/ "هنيچڤ"، هجوما تمويهيا من جهة الجنوب الغربي للمدينة، أطلقت خلاله نيران كثيفة على مواقع الجنود المصريين جنوب غربي المدينة وعلى مركز الشرطة.

كذلك انطلق فصيل مدرع آخر من نفس الكتيبة، وطوق المخارج الجنوبية لبئر السبع، حسب الخطة الموضوعة.

اقتحام المدينة من شمالها

كان الهجوم من الجنوب والجنوب الغربي غرضه إشغال الجيش المصري والمناضلين عن جهة الهجوم الحقيقية، حيث انطلقت قوة من سيارات الجيب من مستعمرة "حلوتسا" بغرض سد الطريق الموصلة بين بئر السبع والخليل، وتمركزت القوة على تلة ٢٨٣ عَلى بعد ٨٠٠ متر شمال المدينة، ونصبت ٨ مدافع رشاشة من نوع "بزا"، ومدفعين عيار ٢٠ ملم، وقاذفتين ضد المدرعات من نوع "M-2".

ابتدأت هذه القوة بإطلاق شديد لنيرانها على مراكز الجنود المصريين، وتحت غطاء هذه النيران، تقدم فصيل أنصاف مدرعات، وسرية من سيارات الجيب، وهاجما المدينة من ناحية الحارة الجديدة. ردّ الجنود المصريون على الهجوم بنيران مدافعهم الرشاشة، وحاولوا ببسالة إيقاف القوة المندفعة، والتي تتفوق عليهم بالعدة والعدد والعتاد، ولكنهم لم يستطيعوا الصمود بعد معركة قصيرة واستشهاد عدد كبير منهم، أي الجنود المصريين. عند الساعة ٠٤:١٥، كانت القوات الصهيونية قد احتلت الحارة الجديدة.

بعد احتلال الحارة الجديدة، أعطيت الأوامر باقتحام الخنادق المضادة للدبابات، بواسطة فصيلين محملين على أنصاف المجنزرات من الكوماندو الفرنسي، واستطاع هؤلاء أيضًا التغلب على القوة المصرية التي تدافع عن الخنادق شمالي المدينة، وبعد اشتباك قصير استعملت فيها المدافع الرشاشة من الطرفين، كانت الغلبة للقوة المهاجمة، مما مكن باقي القوة من الوصول إلى البيوت الشمالية للمدينة. عندها ابتدأ الجنود الصهاينة بإلقاء القنابل اليدوية إلى داخل البيوت وإطلاق نيرانهم الكثيفة على كل زقاق أو شارع يدخلونه.

عند الساعة ٠٥:١٥ دخلت المدينة، القوة التي احتلت الحارة الجديدة، ومعها سرية الاحتياط من الكتيبة السابعة / "هنيچڤ". طوال هذه الفترة ومنذ بداية اقتحام المدينة، استمر المصريون بقصف التلال المحاذية للمدينة، والتي تمركزت عليها القوات الصهيونية، ولكن إصاباتهم لم تكن دقيقة.

نجاح الهجوم واحتلال المدينة

رغم نجاح الكوماندو الفرنسي باقتحام المدينة، إلا أنه تكبد خسائر فادحة من جرحى كثيرين وبعض القتلى، وفي الساعة ٠٦:٠٠ وصلت عنده النجدة التي قدمت من الحارة الجديدة، واشتبكت مع قوة مصرية صغيرة حاولت تنفيذ هجوم مضاد وتغلبت عليها، ولكن كثرة الإصابات الصهيونية، أدت إلى تغيير في الخطة، وبدل استمرار الاقتحام من الحارة الجديدة، أعطيت الأوامر لسرية أنصاف المجنزرات من الكتيبة الثانية/ "شموني"، بالهجوم مباشرة من التلال التي سيطرت عليها القوة الصهيونية شمالي المدينة إلى محطة القطار جنوبي المدينة، وكان ذلك عند الساعة ٠٦:٠٠ صباحًا. عندما وصلت أنصاف المجنزرات إلى الخندق المضاد للدبابات تفجرت تحتها الألغام، فدمرت أربع منها، وانسحبت الأخريات تحت وقع النيران المصرية الشديدة، وتقدم الجند المصريون، الذين اعتقدوا وكذلك الصهاينة، أن مصير هذا الهجوم سيكون الفشل الذريع.

في تلك الأثناء وصلت الأخبار إلى القيادة الصهيونية بأن هناك قوات مصرية تنسحب من جنوبي المدينة إلى بير عسلوج، فأعطيت الأوامر إلى السرية الثانية مشاة من الكتيبة السابعة/ "هنيچڤ" بالانقضاض على المدينة من الشمال، بينما تهاجم كتيبة سيارات الجيب من الجنوب، وتدخل المدينة وتطرد السكان من بيوتهم ما استطاعت. في الساعة ٠٧:٥٠ انطلقت السرية الثانية مشاة من منطقة التلال الشمالية إلى محطة الشرطة في المدينة، مستعينة بفصيل مدرعات من الكتيبة الثانية/ "شموني"، وهاجم فصيل منها محطة القطار، وفصيل آخر هاجم من ناحية المقبرة الإسلامية. كانت محطة القطار خالية من الجند المصريين الذين انسحبوا قبل وصول القوة الصهيونية، وكذلك الأمر عند المقبرة الإسلامية، حيث أسر حوالي ٢٠ جنديا مصريا، وأطلق الجند الصهاينة النار عليهم بعد أسرهم، وقتلوا عددا منهم، وتم ذلك عند الساعة ٠٨:٤٥.

في الساعة ٠٨:٠٠ قامت القوة التي دخلت الحارة الجديدة بعد الكوماندو الفرنسي باحتلال المسجد، ونصبت مدفعًا استعملته في قصف مركز الشرطة، الذي احتوى على أكثر من ٥٠ جنديا مصريا وسودانيا، والذين حاربوا بشجاعة حتى نفذت ذخيرتهم، فقام الصهاينة بإنذارهم بضرورة الاستسلام خلال ربع ساعة، وإلا تم قصفهم بمضادات الدبابات من نوع "M-2"، والتي تم استعمالها لأول مرة في حرب ١٩٤٨، في هذا الهجوم، ولما رفضوا ذلك،  أطلقت قذيفة باتجاه خزان المياه، فانفجر، وجرت المياه متدفقة على المدافعين، فسقط بعضهم إلى الخارج وانهارت المقاومة، فاستسلم من بقي من القوة، وذلك عند الساعة ٠٨:٤٥ من يوم ٢١ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، وكان هذا موقع المقاومة الأخير في المدينة، التي سرعان ما وقعت كلها في أيدي الصهاينة الذين قاموا بطرد من تبقى من سكانها في اليوم التالي، وتم أسر أكثر من ١٢٠ جنديا مصريا.

باحتلال مدينة بئر السبع، تحول الإنجاز الذي حققته الحملة بفتح الطريق إلى مستعمرات النقب التي كانت محاصرة من قبل الجيش المصري، إلى انتصار كبير، فتح بدوره الطريق إلى احتلال مجمل النقب في مرحلة متقدمة من الحرب.

فشل صهيوني آخر في شرطة عراق سويدان

فشل الصهاينة ست مرات في احتلال مقر شرطة عراق سويدان، وكانت إحدى هذه المحاولات خلال حملة "يوآڤ" في ليلة ١٩-٢٠ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨ (انظر الحلقة السابقة ٢٦/٣). بعد احتلال بئر السبع، تقرر أن ينفذ هجوم أخير على شرطة عراق سويدان، قبل موعد وقف إطلاق النار من أجل احتلالها، ومنع القوات المصرية المحاصرة في جيب الفالوجة (المكون من الفالوجة وعراق المنشية وعراق سويدان) من تنفيذ هجوم مضاد على القوات الصهيونية التي احتلت الحليقات ومخافر المفرق. كان بن غوريون يدفع بشدة نحو الهجوم على عراق سويدان، واعتبر عدم احتلالها في الهجوم السابق فشلا ذريعا، ولذلك أعطى جوابه للأمم المتحدة بخصوص وقف إطلاق النار في ظهر يوم ٢١ تشرين أول/ أكتوبر، وبذلك تكون لديه ليلة أخرى من أجل محاولة أخرى لاحتلال شرطة عراق سويدان، وهذا ما كان، بل إن ضابط التربية على مستوى الألوية العسكرية الصهيونية، كان قد أعد نشيدا يدور حول احتلال الموقع، بسبب الثقة بأن ذلك سيحصل هذه الليلة.

توفرت لدى القوات الصهيونية الكثير من المعلومات عن مركز الشرطة، بعد سقوط مخافر المفرق، ووضع اليد على وثائق مصرية هامة، تحتوي على وصف دقيق للقوة المتواجدة في المركز، وخطوط دفاعاتها وخطط طوارئها، وعن تحصينات العمارة ومداخلها ومخارجها، وعن الأسلحة الموجودة فيها. تغيرت خطة الهجوم وفقا لهذه المعلومات القيمة، وصار احتلال مركز عراق سويدان قاب قوسين أو أدنى، أو هكذا اعتقد المهاجمون.

كان الهجوم مخططا لليلة ٢١-٢٢ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، ويقضي بأن يبدأ بقصف مركز من الطائرات الصهيونية، وقصف مدفعي مكثف، ثم يحمّل المهاجمون بسيارات عسكرية حتى يصلوا إلى السياج المحيط بمركز الشرطة بسرعة، وهؤلاء يقومون باقتحام الأسلاك الشائكة، ثم تتقدم قاذفات اللهب وتحرق كل من يقف في طريقها، وبعدها تأتي مدرعة محملة بطنّ من المتفجرات، وتقترب حتى أسوار المركز، فيقوم خبير المتفجرات بإشعال فتيلها، لتحدث فجوة كبيرة تمكن المهاجمين من دخول المبنى واحتلاله.

ابتدأت الغارات الجوية عند الساعة ١٨:٠٠، وعند الساعة ٢٣:٣٠ ابتدأ القصف المدفعي الشديد، ثم تقدمت قوة من "چڤعاتي" من أجل تنفيذ الخطة، وتضم فصيلا من السرية الرابعة للكتيبة الأولى، مهمتها "تطهير" مقر الشرطة، وفصيل خبراء متفجرات من الكتيبة الأولى، وفصيل خبراء متفجرات من الكتيبة الخامسة، ومهمتهما تفجير أسوار مركز الشرطة، وفصيل مشاة من الكتيبة الخامسة، مهمتها تأمين الأسلحة المساعدة، وضمت رشاشات متوسطة وقاذفات القنابل من نوع "دويدكا"، وبطارية مدفعية عيار ٧٥ ملم ونصف مجنزرة حاملة لمدفع ٦ رطل.

كان المدافعون المصريون يدخلون إلى الملجأ خلال القصف الصهيوني، وعند توقفه يعودون إلى مواقعهم، ويدافعون عن المركز بنيرانهم القوية، مما تسبب بوقوع الكثير من الجرحى والقتلى في صفوف الصهاينة، ولكن هذا لم يردعهم عن الوصول إلى الأسلاك الشائكة، ويقتحموا صفين منها، فتقدمت قاذفات اللهب وأطلقت نيرانها الحامية باتجاه عمارة الشرطة، ولكنها لم تنجح في الوصول إليها بسبب المسافة الكبيرة والتي تقدر ب ١٢٠ مترا. في هذا الوقت، كانت القوات المصرية تصليهم بنيرانها الشديدة، وتتصدى للمهاجمين بشجاعة فائقة.

خلال ذلك، تقدمت المصفحة المحملة بالمتفجرات، وعندما اقتربت من جدران مركز الشرطة، أطلقت عليها قذيفة من مدفع "فيات" مصري فأصابتها بشكل مباشر، فطار بابها والفتيل الذي سيفجر الحمولة، وانفجرت انفجارا عظيما، ولأنها بعيدة أكثر من ثلاثين مترا عن المبنى، لم يحدث انفجارها أي ضرر في جدران مبنى الشرطة، ولكن كل العوائق والأسوار دمرت وأزيلت بالكامل من قوة الانفجار، وأصبحت الطريق مفتوحة حتى المبنى نفسه.

تحت غطاء ناري كثيف تقدم خبراء المتفجرات، واستطاعوا تفجير باب المركز، ولكن النيران المصرية الكثيفة منعت تقدم القوة الصهيونية إلى داخل المبنى، وكل من تقدم إلى الدخل أصيب برصاصة أو شظية، ومنهم قائد القوة المهاجمة، مما اضطر القوة الصهيونية إلى الانسحاب مع طلوع الفجر، لأن الهجوم سيصبح أصعب، وستسهل عملية قنص الجنود المهاجمين في وضح النهار. وبذلك انتهت هجمة أخرى على مقر شرطة عراق سويدان، بدون أن تحقق أهدافها، وبقي الجنود المصريون في مواقعهم صامدين.

احتلالات في منطقة القدس

خلال معارك النقب وبالتحديد في ليلة ١٨-١٩ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، ابتدأ لواء "هريئيل" الصهيوني بحملة عسكرية أطلق عليها حملة "إلى الجبل"، وفي الليلة التالية تحرك لواء "عتسيوني" بقيادة موشيه ديان، ضمن حملة عسكرية أخرى سميت بحملة "مصنع النبيذ" (ييكِڤ). وكانت الحملتان موجهتين ضد قوات المتطوعين المصريين ضمن الجيش المصري ومناضلين فلسطينيين محليين، عند عين شمس وبيت لحم في منطقة القدس بهدف توسيع رقعة الاحتلال، بل إن موشيه ديان اعتقد أن بإمكانه احتلال البلدة القديمة في القدس، واستعادة مستعمرات "چوش عتسيون" التي دمرها الجيش الأردني ومناضلون فلسطينيون قبل ذلك بعدة أشهر. (انظر/ي الحلقة السابعة بعنوان: سقوط محراك الشر).

 هاجم لواء "هريئيل" المصريين بأربع كتائب وفِي   ليلة ١٨-١٩ تشرين أول/ أكتوبر، استطاعت الكتيبة الخامسة أن تسيطر على عدة مخافر يتمركز فيها الجيش المصري، وذلك خلال معركة قصيرة استعملت فيها مدافع عيار ٦٥ ملم، وراجمات القذائف. وقبل منتصف الليل كانت المخافر محتلة بالكامل، ومن هناك انطلقت نفس الكتيبة واحتلت قرية عين شمس بعد مقاومة ضعيفة. في الساعة الثانية صباحا وصلت الكتيبة الخامسة حتى قرية بيت جمال، وبمساعدة الكتيبة الرابعة من نفس اللواء احتلت القرية والدير الموجود فيها.

في نفس الليلة احتلت الكتيبة الرابعة/ "هريئيل" قرية دير الهوا، بعد معركة قصيرة، ثم احتلت قرية دير أبان، وفي الصباح دخلت إلى قرية علّار ووادي فوكين ورأس أبو عمار والقبو.

في ليلة ١٩-٢٠ تشرين أول/ أكتوبر انطلقت الحملة مجددا، فقامت الكتيبة الخامسة باحتلال قرية بيت عطاف، أما الكتيبة الرابعة ففشلت بعد مقاومة شديدة من احتلال مفرق الشوكة الذي يربط بين بيت جبرين ودير الهوا - الخضر. في الليلة التالية انشغل الجند الصهاينة بتدمير بيوت القرى المحتلة، وطرد من تبقى من السكان. في ليلة ويوم ٢٢ تشرين أول/ أكتوبر، استمرت الحملة، وتم احتلال مفرق الشوكة، ومن ثم احتلال القرى دير الشيخ وجرش وسفلى وبيت نطيف وحوسان التي تبعد ١٠ كم فقط عن بيت لحم.

أما لواء "عتسيوني" فقد هاجم في ليلة ١٩-٢٠ تشرين أول/ أكتوبر في منطقة بيت جالا، بهدف احتلال القرية ومن ثم مهاجمة بيت لحم، إلا أن مقاومة شديدة ونيران كثيفة من قسم مدفع رشاش مصري، استطاعت منع تقدم الكتيبة الثامنة من لواء "عتسيوني" من تسلق المرتفعات إلى بيت جالا مما أدى إلى فشل الحملة. ورغم ذلك نجحت القوة الصهيونية في احتلال قرية الولجة الواقعة غربي القدس.

زلَم يعاود موشيه ديان الكرّة في الليلة التالية بسبب رفض قيادة الجيش الصهيوني ذلك، لأن بن غوريون خاف من تعقيد الوضع إذا شارك الجيش الأردني، المتواجد في بيت لحم، في المعركة، وبذلك يخفف من الضغط على الجيش المصري في معارك النقب، حيث أن وحدة أردنية مكونة من سريتين متحركتين وفصيل مدرع، انتقلت من رام الله إلى بيت لحم في الساعات الأخيرة قبل موعد وقف إطلاق النار، وذلك لمنع الصهاينة من احتلال منطقة رام الله وبيت لحم. 

محاولة صهيونية فاشلة، وإغراق بارجة مصرية

في نفس ليلة الهجوم الأخير على شرطة عراق سويدان، وبالتوازي معه، أي ليلة ٢١-٢٢ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، هاجمت الكتيبة الثالثة من لواء "چڤعاتي" مخافر القوات المصرية على الطريق الالتفافية التي بناها الجيش المصري بعد المعارك في الأيام العشرة بين الهدنتين، الطريق التي تصل بين عراق المنشية وعراق سويدان مرورًا من جنوب كراتيا. كان هدف الهجوم هو احتلال المرتفعات أو المخافر التي يسيطر عليها الجيش المصري، بهدف تضييق الخناق على الجنود المصريين المتواجدين في جيب الفالوجة. لكن هذا الهجوم فشل فشلًا ذريعًا، بعد أن تكبدت القوة المهاجمة خسائر فادحة، بفعل النيران المصرية الشديدة، بل إن فصيلا من القوة المهاجمة انسحب هاربا بدون تلقي أوامر بذلك.

في البحر تلقى المصريون ضربة قوية، بعد أن هاجمت ثلاثة زوارق بحرية صهيونية البارجة المصرية المسماة "الأمير فاروق"، وهي بارجة أدميرال الجيش المصري، وكانت ترافقها سفينة كاسحة ألغام مصرية، تمت مهاجمتها أيضا، مما أدى إلى غرق البارجة في البحر، وإعطاب كاسحة الألغام، وسحبها إلى ميناء الإسكندرية على يد الأسطول المصري.

نفذ الهجوم على البارجة في ليلة ٢١-٢٢ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨ وقبل دخول الهدنة بعدة ساعات، حيث كانت السفينتان تسيران في البحر بأضوائهما الكاملة، ظنا من طواقمهما بأن الهدنة قد دخلت حيز التنفيذ. كانت الطريقة التي اتبعتها البحرية الصهيونية تقضي بأن تصطدم ثلاثة زوارق بحرية مليئة بالمتفجرات بالسفينتين وبذلك يتم إغراقهما. اصطدم الزورق الأول بالبارجة المصرية عند الساعة ٢٢:١٠، وبعد ست ثوان اصطدم الزورق الثاني، ثم اصطدم الثالث بكاسحة الألغام بعده بثماني ثوان. على إثر ذلك، فتحت السفينتان المصريتان النار من مدافعهما باتجاه البحر بشكل عشوائي، ثم ابتدأت البارجة بالغرق، وخلال اربع دقائق كانت قد اختفت تحت الماء، وقفز منها البحارة المصريون إلى البحر، فقتل البعض منهم، وتم إنقاذ أغلبهم على يدي البحرية المصرية. اعتبرت هذه الضربة نصرا استراتيجيا في حرب ٤٨ على صعيد الأساطيل البحرية.    

وقف إطلاق النار وتوسيع السيطرة الصهيونية

في الساعة ١٥:٠٠ من يوم ٢٢ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، صدرت الأوامر من الطرفين، الصهيوني والمصري، بوقف إطلاق النار وإنهاء المعارك، تماشيا مع قرار مجلس الأمن. انتهت الحملة رسميًا، ولكن الأمور لم تنته عند هذا الحد، فهناك طرف خاسر وهو الطرف المصري الذي وجد جيشه في فلسطين محاصرا في عدة مناطق، وكان هناك خطر حقيقي على الكتيبة الثانية المصرية في منطقة المجدل وأسدود، أي شمالي بيت حانون التي احتلت خلال الحملة من قبل لواء "يفتاح"، وقرر قائد الجيش المصري في فلسطين، أحمد المواوي، بوجوب انسحابها مهما كلف الثمن، ولذلك قامت وحدات الهندسة المصرية بإيجاد طريق التفافية من المجدل حتى غزة قريبة من شاطئ البحر، وتم إلقاء شبكات حديدية على طول الشاطئ، مكنت مرور العربات المصرية، فتم الانسحاب بقوافل ليلية طوال أسبوعين بعد وقف إطلاق النار.

على إثر الانسحاب، دخلت القوات الصهيونية إلى أسدود في ٢٨ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، واحتلت المجدل في ٤-٥ تشرين ثان/ نوفمبر ١٩٤٨. كانت أسدود قرية كبيرة عدد سكانها أكثر من خمسة آلاف، وعدد سكان المجدل أكثر من عشرة آلاف، تم طردهم جميعًا ما عدا ألف شخص في المجدل، وكذلك طرد جميع السكان من القرى الموجودة في المناطق التي انسحب منها الجيش المصري، وأصبحت خالية من أهلها. في يوم احتلال أسدود سيطر الجيش الصهيوني على مستعمرة "نيتسانيم" التي احتلها الجيش المصري قبل عدة أشهر، وفي يوم احتلال المجدل تمت السيطرة على مستعمرة "يد مردخاي" أيضا، والتي وقعت في أيدي الجيش المصري عند دخوله فلسطين في أيار/ مايو ١٩٤٨ (انظر /ي الحلقة ١٩/٤ بعنوان معارك الجيش المصري عام ١٩٤٨ قبل الهدنة الأولى).

هذا ما كان في الناحية الغربية، أما في الناحية الشرقية فقد احتلت وحدات من لواء "چڤعاتي" ولواء "شموني" القرى: كدنة، ورعنا، وذكرين، وعجور وزكريا وغيرهم، وذلك في المنطقة التي تقع شمال بيت جبرين، وذلك بين ٢٢-٢٤ تشرين أول/ أكتوبر، وتم احتلالها جميعا بعد مقاومة ضعيفة جدا. وفي ٢٧ تشرين أول/ أكتوبر احتلت الكتيبة التاسعة من لواء "شموني" بيت جبرين نفسها ومركز الشرطة فيها، والذي تعرض طوال يومين سابقين إلى هجمات فاشلة من لواء "چڤعاتي"، ولكن قوة الهجمات أدت بالمدافعين إلى الانسحاب، فاحتلتها الكتيبة التاسعة من لواء "شموني" بدون مقاومة. وكانت هذه الكتيبة قد اعترضتها مدرعات أردنية واشتبكت معها في معركة قصيرة، انتهت بعد أن قتل من كل طرف عدة جنود، وهذه كانت المعركة الأخيرة التي اشتبك فيها الجيش الأردني مع الجيش الصهيوني خلال حرب ١٩٤٨. لم تمنع هذه المعركة  القصيرة، الكتيبة التاسعة الصهيونية من احتلال مركز الشرطة في بيت جبرين بعد انسحاب المدرعات الأردنية، وباحتلال بيت جبرين ضاعت الفرصة الأخيرة للقوات المصرية المتواجدة في الفالوجة، للانسحاب عبر الشرق بمساعدة الجيش الأردني وما تبقى من فلول المتطوعين المصريين والمناضلين الفلسطينيين في المنطقة الواقعة شرقي كيس الفالوجة.

في اليوم التالي، أي ٢٨ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، احتلت الكتيبة التاسعة نفسها قرية القبيبة والمخفر المصري المطل عليها، بعد مقاومة ضعيفة، وفي اليوم الذي يليه قامت باحتلال قرية الدوايمة، التي تعرض سكانها إلى مجزرة حقيقية.

لم تتوقف الحملات والهجمات العسكرية الصهيونية على الجيش المصري، حتى التاسع من تشرين ثان/ نوفمبر ١٩٤٨، وذلك بعد أن قام لواء "چڤعاتي" باحتلال قرية عراق سويدان، واحتل اللواء "شموني" مركز شرطة عراق سويدان، وبذلك تقلص كيس الفالوجة، وأصبح طوله ستة كيلومترات من الغرب إلى الشرق، وعرضه من الشمال إلى الجنوب حوالي أربعة كيلومترات، ويتواجد فيه حوالي أربعة آلاف جندي مصري من الكتيبة الأولى والثانية والثامنة، واستمروا في صمودهم حتى نهاية الحرب.

لم يتوقف التوسع الصهيوني وطرد السكان طوال شهر تشرين ثان/ نوفمبر ١٩٤٨، وفي آخر يوم منه بالتحديد قامت وحدات "چڤعاتي" باقتحام وطرد السكان من القرى: حمامة والجورة وخربة الخصاص ونعليا وبربرة وبيت جرجة ودير سنيد والجلدية. أما لواء "هنيچڤ" فقام بحملة عسكرية سميت بحملة "لوط"، وقامت خلالها كتيبتان من هذا اللواء باحتلال كل الأراضي الواقعة بين جنوب البحر الميت وشمال النقب ومن ضمنها سدوم وبئر مليحة وعين حُصُب، وكانت هذه تعتبر جزءا من الدولة اليهودية حسب قرار التقسيم، وقد تم هذا بين ٢٣-٢٥ تشرين ثان/ نوفمبر ١٩٤٨.

مجزرة الدوايمة

تقع قرية الدوايمة على بعد ٢٥ كم غربي مدينة الخليل، وكان عدد سكانها حوالي ألفي نسمة، وأصبحوا ستة آلاف بعد قدوم الكثير من اللاجئين إليها إثر المعارك وتهجير سكان القرى المجاورة لها. كانت  قرية بيت جبرين تقع على حدودها الشمالية، وقرية القبيبة على حدودها الغربية، وكانت القرية الأولى قد احتلت في ٢٧ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، والثانية في اليوم التالي، وبذلك أصبحت قرية الدوايمة لقمة سائغة للجيش الصهيوني، وتقرر أن تحتلها الكتيبة التاسعة من لواء "شموني"، والذي يقوده يتسحاك ساديه، مؤسس "الپلماح" وهو القوة الضاربة لـ"الهاغاناه"، مباشرة بعد احتلال القبيبة للتخلص من سكانها الكثر.

انطلقت المدرعات الصهيونية من قرية القبيبة قبل ظهر يوم الجمعة الموافق ٢٩ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، واتجهت شرقًا إلى قرية الدوايمة، ومرت عبر وادي الغفر ثم رسم أم عروس، وسارت ببطء نحو جورة سلمى، وهناك اكتشفها المدافعون عن القرية، والذين لم يتجاوز عددهم العشرين، وابتدأوا بإطلاق النار على المدرعات من أسلحتهم الخفيفة، ولكن هذه لم تخترق الدروع، فاستمرت القوة المهاجمة بالتقدم بدون أن تتأثر بنيران أسلحة المدافعين الضعيفة. هاجمت المدرعات القرية من ثلاثة محاور: بئر السبل من الشمال، وقناة عدوان من الجنوب، ووادي السمسم من الغرب، ثم وادي حزانة الشرقي في الناحية الجنوبية، بينما تركت الناحية الشرقية فارغة من أجل هروب سكان القرية منها.

دخلت عشرون مصفحة من الكتيبة التاسعة إلى الدوايمة بعد صلاة الجمعة بثلاثين دقيقة، ووصلت إلى مركز القرية بسرعة وبدون مقاومة تذكر، فقد كان في القرية عدد صغير من المناضلين الذين لم يكن باستطاعتهم فعل شيء لمواجهة هذه المدرعات الثقيلة. رغم الاحتلال السريع إلا أن سكان القرية لم يتركوها ظنا منهم أن استسلامهم السريع سيضمن لهم السلامة، ولكن هيهات، إذ قفز الجنود الصهاينة من عرباتهم المصفحة، وصاروا يطلقون النار على السكان بعشوائية بغرض القتل، فهرب الكثير إلى مسجد "الزاوية" في القرية، معتقدين أن وجودهم في الجامع قد يحميهم من الرصاص، ولكن الجنود دخلوا الجامع وقتلوا العشرات منهم داخل الجامع، حيث وصل عدد الشهداء ٨٠-١٠٠ داخل الجامع، و ١٠٠ آخرين في مركز القرية بالأسلحة الرشاشة. 

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث هرب السكان من القرية، وقام عدد كبير منهم يقدرون ب ٨٥ عائلة من عشيرتي العوامرة والقيسية، بالاختباء في مغارة مقدسة تقع بقرب القرية، ويطلق عليها "عراق الزاغ"، ولما عثر الجنود الصهاينة عليهم بعد يوم أو يومين، أطلقوا نيرانهم عليهم، بعد ان وضعوهم في طوابير، وقتلوهم جميعًا إلا امرأتين كانتا قد اختبأتا بين أمتعة السكان.

وصف بعض الجنود الصهاينة ما فعلوه بأهالي القرية، حيث حطموا جماجم الأطفال بأكعاب البنادق والحجارة، واغتصبوا عددا من النساء، وحرقوا البعض من السكان أحياء داخل بيوتهم. أحدهم قال إنه اغتصب امرأة ثم اطلق النار عليها. وأطلق آخر النار على رأس طفل وهو يرضع، فاخترقت الرصاصة رأسه وصدر أمه فماتا على الفور. وقام آخرون بوضع ديناميت في بعض البيوت وفجروها على رؤوس من فيها. وأجبر آخرون امرأة على نقل جثث أطفال تم الفتك بهم، ثم أطلقوا النار عليها فأردوها قتيلة. آخرون أخذوا ثلاث فتيات في سيارتهم العسكرية ثم قاموا باغتصابهن وقتلهن.

استمرت المجزرة عدة أيام أخرى، حيث قام الجنود بقتل كل من سوّلت له نفسه بالرجوع إلى القرية لأخذ متاع بيته، حتى وصل عدد الشهداء إلى أكثر من ٤٥٥ شخصًا، كما أحصى مختار القرية آنذاك الشيخ محمود هديب، منهم نحو ١٧٠ امرأة وطفل.

تعتبر مجزرة الدوايمة أكبر مجزرة نفذتها القوات الصهيونية في حرب ٤٨.

خاتمة

في مذكراته، ذكر بن غوريون في العاشر من تشرين ثان/ نوفمبر ١٩٤٨، أن إليميلخ أڤنر أبلغه أن الكتيبة التاسعة من لواء "شموني": "في الدوايمة ذبحت بحسب الإشاعة نحو ٧٠-٨٠ شخصًا". أما قائد حملة "يوآڤ" يغئال ألون فقد اكتفى برسالة إلى يتسحاك ساديه يطلب منه التحقيق في أمر المجزرة، وأكد في رسالته أنه على يقين أن ساديه لا يسمح بحدوث أعمال قتل لمواطنين عزل ونهب بيوتهم. أما الأمم المتحدة فحققت بالأمر بدون أن يكون لتحقيقها أي تأثير أو استنتاجات تؤثر على الإنجازات الصهيونية.

كما لم يسعف أهالي الدوايمة عدم مقاومتهم للمصفحات التي دخلت القرية، وأمعنت بهم قتلا وذبحا، كذلك الأمر بالنسبة للجيش المصري الذي التزم بالهدنة المفروضة على الطرفين من قبل الأمم المتحدة، فتعرض لهجوم كبير زعزع كيانه وأضعف وجوده في فلسطين، ومني بهزيمة فادحة وخسر مساحات هامة كان يسيطر عليها، ووقع جزء منه في حصار محكم في جيب الفالوجة. 

انتهت الحملة، ولكن الحرب لم تنتهِ بعد، حيث أن الخطط الصهيونية للسيطرة على باقي الأرض الفلسطينية ما زالت قائمة، بينما فتحت نهاية الحملة الباب على مصراعيه لتنفيذ حملة كبيرة على جيش الإنقاذ في الجليل.    


المصادر:

١. "بيني موريس"، ١٩٤٨- تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى؛
٢. "ابراهام ألون"، لواء "چڤعاتي" في مواجهة الغازي المصري؛
٣. "بيني موريس"، مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ١٩٤٧-١٩٤٩؛
٤. د. رفعت سيّد احمد، وثائق حرب فلسطين- الملفات السرية للجنرالات العرب؛
٥. "نتانائيل لورخ"، سيرة حرب "الاستقلال"؛
٦. إبراهيم شكيب، حرب فلسطين ١٩٤٨- رؤية مصرية؛
٧. "داڤيد بن غوريون"، يوميات الحرب ١٩٤٧-١٩٤٩؛
٨. د. عبد الوهاب بكر محمد، الجيش المصري وحرب فلسطين ١٩٤٨-١٩٥٢؛
٩. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود؛
١٠. الجيش الإسرائيلي، معارك ١٩٤٨، ٢٣ قصة معركة في حرب الاستقلال؛
١١. أحمد خليفة (مترجم)، حرب فلسطين ١٩٤٧-١٩٤٨؛
١٢. "موشيه چڤعاتي"، في طريق الصحراء والنار، سيرة الكتيبة التاسعة؛
١٣. الجيش الإسرائيلي، لواء النقب في الحرب؛
١٤. "أنيتا شاپيرا"، "يعئال ألون"، ربيع حياته؛
١٥. "إليعزر طال"، حملات سلاح الحربية في حرب "الاستقلال"؛
١٦. "آڤي كوهن"، سيرة سلاح الجو في الحرب للاستقلال، الجزء الثالث؛
١٧. "إيلان پاپه"، التطهير العرقي في فلسطين.

التعليقات