71 عاما على النكبة: سقوط الجليل وهزيمة جيش الإنقاذ (1/27)

توقفت المدافع الصهيونية عن القصف في الجنوب الفلسطيني في الأسبوع الأخير من تشرين أول/أكتوبر 1948، معلنة عن انتصار كبير ضد الجيش العربي المصري ومتطوعيه من السودان والسعودية وفلسطين، فالطريق إلى مستعمرات النقب المحاصرة فُتحت وسقطت بئر السبع

71 عاما على النكبة: سقوط الجليل وهزيمة جيش الإنقاذ (1/27)

من معارك النكبة (أ ب)

الحلقة الخامسة من الحملات الصهيونية الأخيرة لكسب الحرب 1948 – 1949

(أهدي هذه السلسلة لروح صديقي المرحوم هاشم حمدان، والذي كان له الدور الأكبر في تشجيعي على الاستمرار بكتابتها)


توقفت المدافع الصهيونية عن القصف في الجنوب الفلسطيني في الأسبوع الأخير من تشرين أول/أكتوبر 1948، معلنة عن انتصار كبير ضد الجيش العربي المصري ومتطوعيه من السودان والسعودية وفلسطين، فالطريق إلى مستعمرات النقب المحاصرة فُتحت وسقطت بئر السبع، وأجلي أكثر من 100 ألف فلسطيني من بيوتهم التي صارت خاوية من أهلها، بانتظار توطين اليهود اللذين يأتون من بقاع الأرض فيها.

إذًا، وبعد هذا النصر الصهيوني الكبير، يمكن الإعلان عن هزيمة الجيوش العربية النظامية في حرب 1948، وإن كان البعض منها ما زال رابضًا على جزء من الأرض الفلسطينية، ولم يبقَ للصهاينة إلا أن يقضوا على جيش واحد، ما زال يقف أمام حلمهم في السيطرة على كل منطقة الجليل شماليّ البلاد، ألا وهو جيش الإنقاذ، جيش المتطوعين العرب، الذي هزم في معارك كبيرة كمعركة "مشمار هعيمق"، في نيسان /أبريل 1948 (انظر/ي الحلقة التاسعة بعنوان أبريل الأسود 1948)، ومعركة الشجرة في تموز/يوليو 1948 (انظر/ي الحلقة الثالثة بعنوان قصة استشهاد قرية 1948، أو الحلقات 1/24، و 2/24 بعنوان سقوط الناصرة والجليل الأدنى 1948)، ومعارك هوشة والكساير في نيسان/أبريل 1948، مع أن جنوده اأدوا بسالة منقطعة النظير في هذه الجولات، لكن ضعف القيادة وقلة حيلتها في إدارة المعارك، والنقص في العدة والعتاد مقابل الترسانة الصهيونية، أدّى بهم، أي جنوده، إلى أن ينهزموا في المعارك الحاسمة، وأن يفقد الفلسطينيون ثقتهم بهذا الجيش. وفي المقابل، صار الصهاينة يعرفون نقاط ضعفه، ولذلك دأبوا على رصده ودراسة كيفية القضاء عليه، ووضعوا خطّتهم المحكمة في تحقيق النصر عليه، وصارت قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الصهيوني تنتظر قرارًا سياسيًا يسمح لها بالانقضاض على جيش الإنقاذ وطرده من فلسطين، بل أنّ خطتها رمت إلى تطويقه ومنع انسحابه، إلّا بعد أن يتلقى ضربة شديدة تقضي عليه نهائيًا.

القيادة السياسية، وعلى رأسها دافيد بن غوريون، تريد الجليل خاليا من العرب، ولكنها كانت تتحيّن الفرصة، وتنتظر اللحظة المناسبة لشنّ الهجوم المنشود، وها هي اللحظة تقترب، إذ أنّ خسارة الجيش المصري المعركة في الجنوب، وعدم هبّة العرب الآخرين إلى نجدته ستسهل شؤون الأمور العسكرية في الشمال، بتهيئة وحدات عسكرية كافية للهجوم على جيش الإنقاذ والقرى الفلسطينية في الشمال، ومصير هذا الجيش سيكون مرهونًا بصموده وحيدًا في المعركة، فمن سيجرؤ من الجيوش العربية على خوض غمار الحرب لإنقاذ جيش الإنقاذ من براثن آلة الحرب الصهيونية؟ أما سياسيًا فالأمور كانت تسير بالاتجاه الصهيوني الصحيح، حيث أنّ جيش الإنقاذ تحرك بشكل مفاجئ خلال الهدنة الثانية، واحتل مرتفع الشيخ عباد، وهو الآن يحاصر مستعمرة "منارة" في الشمال، ما يمكن اعتباره إخلالا بالهدنة وعدم التزامٍ بتنفيذها، ما يعطي الضوء الأخضر أمام الأمم المتحدة لتنفيذ هجوم صهيوني واسع، من أجل "استرداد" منطقة اعتبرت ضمن الدولة اليهودية حسب قرار التقسيم عام 1947.

مراكز انتشار جيش الإنقاذ قبل حملة "حيرام"

مُني جيش الإنقاذ بهزيمة كبيرة في معارك الأيام العشرة بين الهدنتين، واحتلت القوات الصهيونية منطقة الجليل الأدنى وعاصمتها الناصرة، في ما سميّت بحملة "ديكل"، (المذكورة في الحلقات السابقة 1/24 و 2/24، بعنوان "سقوط الناصرة والجليل الأدنى").

خلال الهدنة الثانية وحتى انطلاق حملة "حيرام" الصهيونية لاحتلال ما سمي بجيب الجليل، الذي يضم قرى البطوف والشاغور ومناطق من الجليل الأعلى حتى الحدود اللبنانية، كان عدد جنود جيش الإنقاذ أقل من 3000 جندي متطوع، مقسّمين على ثلاثة ألوية صغيرة وهي:

لواء اليرموك الأول، والذي ضم نحو 1500 جنديٍ بقيادة عمار حسك، وتمركز في القطاع الممتد من عيلبون شرقًا حتى مجد الكروم غربًا، أي قطاع البطوف والشاغور وطريق عكا - صفد. اعتبر هذا اللواء الأكثر تدريبا وتنظيما بين الألوية الثلاثة، حيث أنّ عتاده كان مكتملا تقريبا، فعدا عن الأسلحة الشخصية من بنادق وقنابل يدوية، كان هناك مدفع رشاش متوسط لكل صف، وراجمة 60 ملم لكل قسم، ومدفع رشاش وقسم راجمات 81 ملم لكل كتيبة، وكان اللواء مجهّزًا بمدفعين عيار 75 ملم في عيلبون والمغار، وأربع مدرعات عيار رطلين لكل مدرعة. كانت قيادة اللواء متمركزة في الفراضية على طريق عكا صفد، وتوزعت كتائبه على النحو التالي: الكتيبة الرابعة وعددها 500 نفر وقيادتها في المغار بالإضافة إلى سرية واحدة، وثلاث سرايا في كفر مندا وعيلبون وكوكب أبو الهيجا، وأضيفت إليها سريتان من مناضلين محليين في سخنين.

كتيبة اليرموك الثانية وعددها 500 نفر ومتمركزة في كفر عنان والسموعي.

الكتيبة اللبنانية وعددها 300 نفر، تدعمها سرية البداوة السوريّة، وكانت متمركزة في منطقة مجد الكروم حتى شعب ومركزها مجد الكروم.

لواء اليرموك الثاني، تحت قيادة غسان جديد، وسيطر اللواء على القطاع الشمالي الشرقي، وكان مكونا من كتيبتين عددهما معًا من 700 إلى 800 نفر، وهما الكتيبة العلوية وكتيبة اليرموك الأولى. اعتبر هذا اللواء أقل تنظيمًا وانضباطًا، وأقل جاهزية وتسليحا من اللواء الأول. كانت قيادة هذا اللواء في سعسع وتوزعت سراياه الخمسة في الجش، وسعسع، والمالكية، وميرون، والصفصاف.

اللواء الأخير هو لواء اليرموك الثالث، بقيادة مهدي صالح وتعداده 850 نفرا موزعين على كتيبة أجنادين وكتيبة اليرموك الأولى، وكان هذا اللواء مسؤولا عن الدفاع عن القطاع الشمالي الغربي مقابل مستعمرات الجليل الغربي الساحلية. كانت قيادة اللواء في ترشيحا، وتمركزت سريتان له في طربيخا وترشيحا، وسرية متطوعين محليين في سحماتا ودير القاسي، وسريتان في ينوح ومعليا. كان تحت تصرف اللواء أربعة مدافع عيار 75 ملم ومدرعتانن عيار رطلين في ترشيحا.

وضع بائس والقاوقجي يستقيل مرتين

كانت المنطقة التي يتمركز فيها جيش الإنقاذ كبيرة جدًا بالنسبة إلى حجم قواته، فقد كان ملقى على بعض الكتائب مهمة حماية جبهات بطول 50 كيلومترًا، فكان عليها وضع قوات في مراكز دفاعية في إطار منطقة الدفاع، وأن تؤمن احتياطًا خلفيا لمواجهة المفاجآت، كل ذلك في ظل نقص كبير في الضباط والأسلحة والقوات الاحتياطية، ما اضطر الجنود إلى البقاء في مراكزهم لمدة تزيد عن الشهر في بعض الأحيان، ولا يتركها الجندي إلا بسبب الإصابة أو الشهادة أو احتلالها من قبل الجيش الصهيوني.

رغم ذلك، ظلّت قيادة جيش الإنقاذ في دمشق متعنّتة ومتصلبة في وجه أي اقتراح كان يأتيها لتحسين الوضع من القياديين الميدانيين، وفي نفس الوقت كان تموين الذخيرة والمحروقات وقطع التبديل للسيارات والمدرعات يجري ببطء شديد وفوضى تامة، ففي بعض الأحيان، وعلى سبيل المثال، كانت القيادة ترسل عدّة لجان من أجل التأكد من صحة التقارير التي تفيد بأن هناك حاجة للتزود بقطع غيار من أجل السيارات، وفي النهاية لا ترسل أي شيء.

زد على ذلك، تسلم القائد فوزي القاوقجي رسالة من أمين الجامعة العربية، عبد الرحمن عزّام باشا، مؤرخة بتاريخ 29 تموز / يوليو 1948، تفيد بأن الجامعة قد قررت تخفيض أعداد جيش الإنقاذ، نظرًا لحراجة الموقف المالي للجامعة، مع أن عزّام باشا نفسه كان قد وعد القاوقجي بأن يزيد عدد جيش الإنقاذ، وذلك منتصف نفس الشهر. هذه الرسالة "قصمت ظهر البعير"، فقدّم القاوقجي استقالته من قيادة الجيش في الخامس من آب/أغسطس 1948، وأوكل المهمة مكانه للمقدم شوكت شقير من لبنان. في رسالته، وصف القاوقجي الحالة السيئة لجيش الانقاذ، الذي "يدافع عن جبهة بطول 143 كيلومترًا، يتصل بها 11 طريقًا رئيسية، تخرج من 7 قواعد عسكرية صهيونية كبرى". ووصف في رسالته بأنّ "العتاد الحالي يكفي لـ18 طلقة لكل بندقية إنكليزية، و45 للفرنسية و650 طلقة لكل رشاش، وبدون طلقات لمدافع الهاون على اختلاف أنواعها، وكذلك للمدافع عيار 105 ملم، ويوجد 800 طلقة لمدافع عيار 75 ملم". كذلك، حذّر من مغبة لجوء أكثر من 100 ألف فلسطيني إلى لبنان، في حالة سقوط الجليل بأيدي القوات الصهيونية.

وإثر هذه الرسالة، تحرك بعض المسؤولين ووعد القاوقجي بتحسين الوضع، فعاد إلى الجبهة مجددًا بعد تدخل رئيس الوزراء السوري ونظيره اللبناني، وذلك بتاريخ 20 آب / أغسطس 1948، عادلًا عن استقالته، معزيًا ذلك إلى الضغط الذي فرض عليه من قبل المسؤولين العرب، بسبب الهجمات الصهيونية المتكرّرة على القرى العربية في الجليل، حيث يتمركز جيش الإنقاذ.

بعد ذلك، حاول القاوقجي جاهدًا إقناع حكومتي لبنان وسورية بضرورة إمداد جيش الإنقاذ بالأسلحة والعتاد، وقام بعقد لقاء مع حسني الزعيم، رئيس أركان حرب الجيش السوري، من أجل ذلك، إلا أنّ محاولاته باءت بالفشل بسبب رفض مسؤول مفتشية التطوع العامة، طه الهاشمي، إضافةَ كتيبةِ متطوعين لبنانية جديدة، كانت الحكومة اللبنانية مستعدة لتجنيدها، وفي نفس الوقت رفضت الحكومة السورية زيادة الأسلحة والذخائر لجيش الإنقاذ. ليس هذا فحسب، بل أنّ رئيس الحكومة السورية، جميل مردم، طالبَ القاوقجي بوقف خروقات جيشه للهدنة مع اليهود، ما يضطره إلى طلب المزيد من الإمدادات.

عندما فشل القاوقجي في تحسين وضع جيش الإنقاذ، قدّم استقالته مجددا بتاريخ 22 أيلول / سبتمبر 1948، ولكنّه عدل عنها بعد تدخل الرئيس السوري، شكري القوتلي، الذي زوّد القاوقجي بست مدافع هاون عيار 81 ملم مع 1800 قذيفة، وكذلك رئيس الوزراء السوري، جميل مردم، ووزير الدفاع السوري، محمد حيدر، الذي زوّده بالذخائر والقنابل اليدوية. هذه المرّة تدخلت القيادة المصرية في استقالة القاوقجي، الذي اجتمع في القاهرة مع الملك فاروق وغادر مصر في 10 تشرين أول/أكتوبر 1948، وبعدها بعدّة أيام، عاد لقيادة الجيش على أثر انطلاق حملة "يوآڤ" ضد الجيش المصري في 15 تشرين أول/أكتوبر 1948.

قطيعة مع القيادة وتعاون مع السكان المحليين

سادت الفوضى إدارةَ جيش الإنقاذ خلال الفترة التي سبقت حملة "حيرام"، إذ انقطعت العلاقة تقريبًا بين القيادة الميدانية في أرض الجليل وبين القيادة في دمشق، التي، بدورها، فقدت السيطرة على أعداد المجندين ووجدت في شهر أيلول/سبتمبر 1948، أنهم أكثر بـ25٪؜ من العدد الأقصى المسموح به وهو 2361، ولذلك رفضت دفع رواتب الجنود الإضافيين، وصارت ترسل المؤن والذخيرة وغيرها حسب العدد المعلن لديها وليس حسب العدد الفعلي للجنود، ما أدى إلى تذمر الجنود وقياداتهم، وتوترت العلاقة بين الطرفين، إلى حد أنّها أصبحت بعيدة كل البعد عن الأدب والضبط العسكري، حتى الوصول إلى تبادل الشتائم والاتهامات عبر الرسائل التي أرسلها كل طرف. وفي النهاية، وصلت القيادات الميدانية إلى نتيجة مفادها أنّ القيادة العربية لن تنفذ طلباتهم على الإطلاق ولذلك كان عليهم أن يتولوا شؤون وحداتهم بأنفسهم دون اللجوء للقيادة.

في المقابل، كانت علاقة جيش الإنقاذ مع السكان المحليين جيّدة إلى حد ما. ومن أجل ضبط هذه العلاقة، تشكّلت لجان محلية من أهل القرى، لديها صلاحيات قضائية وإدارية، وعمدت إلى ترتيب العلاقة بين الجيش والسكان، ومن ممثلين لهذه اللجان تكونت لجنة مركزية مركزها قرية الرامة.

من جانبه، قام الجيش بتدريب المسلحين من الفلسطينيين الذين أرادوا المشاركة في القتال، وأنشأ معسكرات خاصة من أجل ذلك في المغار وعرابة ومجد الكروم. وشيئا فشيئًا، صار الجيش يستبدل الهاربين من الخدمة بالمناضلين المحليين، الذين من شأنهم الاستماتة في الدفاع عن قراهم وأراضيهم، ما ساهم في تحسين وضعية جيش الإنقاذ، واستعاضة اعتماده على القيادة بمساندة السكان المحليين.

لم تقتصر مشاركة الفلسطينيين على القتال فقط، بل أُسندت للمدنيين مهمة إنشاء الاستحكامات من أجل الدفاع عن قراهم وشق الطرق حتى تمر عليها آليات جيش الإنقاذ، وحسب قائد لواء اليرموك الأول، وصفي التل، أبدع السكان الفلسطينيون في هذه المهام، إذ أنشأوا خطوطا دفاعية بطول مائتي كيلومتر، وفتحوا طرقا للآليات مسافة تزيد عن الثلاثمائة كيلومتر. رغم المبالغة في هذه الأرقام إلا أنها تشير إلى التعاون الجدّي بين جنود وضباط جيش الإنقاذ وسكان قرى الجليل التي تواجد فيها الجيش.

اعتداءات صهيونية متكررة لاستنزاف جيش الإنقاذ

دخلت الهدنة الثانية موعدها في 19 تموز / يوليو 1948، وهدأت الجبهاتُ، إلا جبهة جيش الإنقاذ في الجليل، إذ استمرت الاعتداءات الصهيونية، بدايةً من أجل تعزيز مواقع الجيش الصهيوني في الجبهة، وفي ما بعد أصبح الهدف الأساسي هو استنزاف جيش الإنقاذ، وجس نبض يقظته ومعرفة مواطن ضعفه وقوته، ومواقع تمركزه.

كانت الهجمات تنفذ تحت جنح الظلام، تحتل خلالها القوات الصهيونية موقعًا أو مخفرًا أو تلّة. ثم تتعرض، في اليوم التالي، وفي وضح النهار، إلى هجوم مضاد من قبل مقاتلي جيش الإنقاذ لاسترداد الموقع المحتل. كانت الهجمات المضادة تنجح في أغلب الأحيان، ولكنها كانت تكبّد جيش الإنقاذ خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، في وقت كان يعاني فيه هذا الجيش من نقص شديد في الإمكانيات. تركّزت الهجمات في مناطق ترشيحا، وكفر مندا، وشعب، وسخنين، وعيلبون، واستعمل فيها الجيش الصهيوني قوات مدرعة ليس في حوزة جيش الإنقاذ رد مناسب لها.

بعد دخول الهدنة بأيام قليلة، احتلت قوة صهيونية قرية شعب، وذلك في 21 تموز / يوليو 1948، ولكنّها تعرضت لهجوم مضاد من قوة مكونة من حوالي مائة مناضل فلسطيني، واستطاعت هذه القوة طرد القوة الصهيونية، ولكنها، أي قرية شعب، تعرضت خلال الأشهر الثلاثة القادمة إلى هجمات متكررة، واحتلت عدة مرات بعد أن يتم تحريرها، في كل مرة، من قبل المناضلين الفلسطينيين المدعومين من جيش الإنقاذ، واستمر هذا الحال حتى سقوط الجليل في نهاية شهر تشرين أول/أكتوبر 1948. من 25 حتى 27 تموز / يوليو 1948، تمركزت المعارك في سخنين، وانتهت بدون أن تحقق مأربها في احتلال القرية. بعدها خفت المعارك لتعود من جديد بعد منتصف آب/أغسطس 1948.

ما عدا قرية شعب التي بقيت مشتعلة طوال فترة الهدنة، فتحت القوات الصهيونية وخاصة لواء "غفعاتي" جبهة أخرى في الشمال، ونفذت عمليات كثيرة، متسللة خلف الحدود الشمالية معتدية على القرى اللبنانية مثل عديسة ومركبة وحولة، ما تسبب في تذمر أهل هذه القرى وتهديدهم للحكومة اللبنانية بعدم دفع الضرائب إن لم تفلح هذه في حمايتهم. ومنذ نهاية شهر آب/أغسطس 1948، بدأ الصهاينة المتمركزون في مستعمرة المنارة بقصف قوات جيش الإنقاذ التي تحاذي المستعمرة، وبعد قصف استمر ساعتين، قام الصهاينة بهجوم على قوات جيش الإنقاذ في الحولة وميسر الجبل، واشتبكت معها لمدة ست ساعات حتى العاشرة ليلا، ثم تجدد الاشتباك في صباح الأول من أيلول/سبتمبر 1948، بالأسلحة الثقيلة وبمشاركة قوات صهيونية كبيرة، واقتربت هذه القوات إلى مسافة قريبة جدا من المواقع الأمامية لجيش الإنقاذ، الذي صمد حتى ساعات المساء فانسحبت على اثرها القوة المهاجمة إلى مستعمرة المنارة.

في 4 أيلول / سبتمبر 1948، قامت قوة من الكتيبة الثالثة من لواء "كرملي" بمهاجمة قرية هونين إلى الشمال من المنارة، ونسفت حوالي 30 بيتا ثم انسحبت بعد اشتباك مع جيش الإنقاذ. تكرر الأمر في 7 أيلول/سبتمبر، حيث هاجمت نفس الكتيبة قرية عموقة شمالي صفد، ونسفت عدة بيوت في القرية لمنع الأهالي من العودة إليها، وحاولت القوة الوصول إلى جبل نطاح، ولكنها ردّت على أعقابها. وفي التاسع من نفس الشهر هاجمت قوة أخرى جيش الإنقاذ بجانب قرية ميرون، وفي 13 أيلول/سبتمبر نسفت قوة من الكتيبة الثانية / "غفعاتي" 12 بيتًا في قرية القدرية. في 18 أيلول/سبتمبر 1948، تمكّنت قوة من "غفعاتي" من احتلال جبل المخبي وماروس والمرتفعات القريبة منها، فيما سمي بحملة "مكنسة"، إلا أنّ جيش الإنقاذ نفذ هجوما مضادًا، فانحصرت القوة الصهيونية في جبل المخبي وحاول جيش الإنقاذ عبثا استرجاعه، ولم يفلح رغم تنفيذه ثلاث هجمات متتالية ضد قوة "كرملي" التي تمركزت على الجبل. كانت هذه المعارك شرسة لدرجة أنّها استنزفت قوات كثيرة لجيش الإنقاذ، الذي خسر الكثير من العتاد وسقط منه عدد كبير من الشهداء والجرحى.

في الثاني من تشرين أول/أكتوبر 1948، هاجمت قوة صهيونية مدرعة قرية كفر مندا عند الساعة 07:30، إلا أنها اضطرت للانسحاب عند الساعة 11:00. وفي الثامنة صباحا نفذت قوة أخرى هجوما على قرية عيلبون، ثم انسحبت بعد اشتباك شديد مع القوة العربية المحلية. في 7 و9 تشرين أوّل/أكتوبر، تركزت الهجمات الصهيونية في منطقة ترشيحا من أجل السيطرة على مرتفع قريب من مراكز دفاع جيش الإنقاذ، يسمى تل "بلوتون". ولما فشلت القوة الصهيونية من السيطرة على المرتفع أعادت الكرّة في ليلة 10-11 تشرين أوّل/أكتوبر فنجحت في احتلاله، إلّا أن جيش الإنقاذ شنّ هجوما معاكسا عند الساعة السابعة صباحًا، فتمكن من دحر القوة الصهيونية ومن ثم طاردها حتى تل "الزويديتا"، وهناك استمات الصهاينة في الدفاع عن الموقع حتى انسحبوا منه بعد عدة ساعات من القتال الشرس. كذلك، نفّذ جيش الإنقاذ هجوما على تل "شعبة"، ولكنه لم يستطع اقتحام التحصينات الصخرية التي أقامها الجيش الصهيوني وفشل الهجوم.

جيش الإنقاذ يحتل مرتفع الشيخ عباد

ساد بعض الهدوء في الجبهة الشمالية، وبدأ الجيش الصهيوني في بناء معسكر على بعد كيلومترين شمال غرب قرية قدس، على طريق المنارة - النبي يوشع. أثار هذا المعسكر مخاوف قيادة جيش الإنقاذ، فاعترض فوزي القاوقجي قائد الجيش على بناء المعسكر أمام مراقبي الأمم المتحدة، الذين قالوا إنهم أبلغوا ببنائه وهو معسكر لإيواء النساء اليهوديات اللواتي لا مأوى لهن، ولذلك فهو لا يشكل خطرا على جيش الإنقاذ، ولكن القاوقجي رفض هذا الادعاء وقرر أن يزيل المعسكر بالقوة إذا بقي مكانه بسبب اعتقاده الجازم بأنّ هذا المعسكر يبنى لأغراض حربية هجومية، خاصة بسبب النقليات الدائمة إليه والحفريات حوله، ما يؤكد مخاوف القاوقجي.

في 21 تشرين أول/أكتوبر 1948، قامت عدة طائرات صهيونية بطلعات جوية استطلاعية فوق مواقع جيش الإنقاذ في منطقة المنارة وقدس. وفي ليلة 21-22 تشرين أول/أكتوبر شنّت القوات الصهيونية من داخل المنارة والمعسكر الجديد، هجومًا كبيرًا ضد مواقع جيش الإنقاذ في قرية الحولة اللبنانية، مستعملة مدافع الهاون عيار 81 مم ومدافع الميدان، ونشبت معركة كبيرة انتهت بصد الهجوم الصهيوني، وتقدّم جيش الإنقاذ حتى مرتفع الشيخ عباد الواقع على بعد 500 مترٍ من مستعمرة المنارة، والذي كان تحت السيطرة الصهيونية وتتمركز فيه قوة صهيونية صغيرة من مقاتلي المستعمرات.

استغل القاوقجي ضعف القوة الصهيونية المتواجدة على المرتفع، وأعطى الأوامر باحتلال مرتفع الشيخ عباد، وبعد معركة قصيرة انسحب المدافعون عن التلة، فسقطت في أيدي جيش الإنقاذ، الذي بدأ فورًا بالتمركز في مواقعه من أجل البقاء على مرتفع الشيخ عباد الهام من الناحية العسكرية، حيث أنّ السيطرة عليه تعني أنَّ الطريق إلى بنت جبيل في لبنان أصبحت متاحة لجيش الإنقاذ بعد أن كانت مغلقة في وجهه، ومن هنا يستطيع السيطرة على المخافر التي تقع جنوبي الشيخ عباد، وبذلك يغلق الطريق على مستعمرة منارة ويحاصرها، وأصبحت بذلك قرية هونين المهجرة بمتناول جيش الإنقاذ الذي يستطيع العودة إليها، وعندها تصبح قرية الخالصة المهجرة في مرمى نيرانه وكذلك الطريق إلى المطلّة، شمالًا.

هجوم مضاد صهيوني لاسترداد السيطرة على المرتفع

قررت قيادة لواء "كرملي" الصهيونية أن تستعيد السيطرة حالًا على تلة الشيخ عباد، وذلك قبل أن يتمركز عليها جيش الإنقاذ ويبني تحصيناته. ولذلك، أصدر قائد اللواء أوامره للكتيبة الرابعة بإرسال سرية مدرعات لمهاجمة جيش الإنقاذ، بحيث أن تتحرّك السرية على شارع النبي يوشع - منارة، في حين تقوم سرية بنادق مشاة من الكتيبة الثالثة بالتحرك على طول المرتفعات التي تصل بين الخالصة ومنارة بحيث تقوم بحراسة طريق المدرعات إلى مستعمرة منارة. كذلك تمركزت وحدة مدفعية في الخالصة من أجل قصف قوة جيش الإنقاذ المتواجدة على تل الشيخ عباد للتغطية على تقدم المدرعات وقوة المشاة.

في الساعة الثامنة صباحا من يوم 22 تشرين أوّل/أكتوبر 1948، بدأ الهجوم المضاد الصهيوني على جيش الإنقاذ، حيث انطلقت قوة من ست مدرعات على طريق النبي يوشع - منارة، ترافقها أربع سيارات جيب، وانطلقت القوة الراجلة من الخالصة لترافق القوة المدرعة حسب الخطة. استمرت المدرعات في سيرها لمسافة 5 كيلومترات. في الساعة 09:30، وصلت القوة إلى منعطف قوي وهناك انفجر لغم أرضي بالمدرعة التي تسير في المقدمة، ما أدّى إلى إغلاق الطريق أمام باقي المدرعات، وأعطى الإشارة لقوة جيش الإنقاذ بفتح نيرانها الشديدة على القوة المهاجمة، ما تسبّب في تعطيل مدرعتين تسيران خلف الأولى، وصار من المستحيل على الجنود الصهاينة أن يتقدموا، ولذلك اتخذوا مواقع دفاعية. بعد ساعة ونيّف من تبادل إطلاق النار، اندفع جنود جيش الإنقاذ راجلين نحو القوة الصهيونية، ما اضطرّها إلى الانسحاب متكبدة خسائر فادحة في الأرواح تقدر بتسعة قتلى و15 جريحًا، وتدمير أربع مدرعات وسيارتي جيب، ووقع في الأسر عدة جنود، واستطاع جيش الإنقاذ السيطرة على ذخائر ومعدات وأسلحة تركها الصهاينة في أرض المعركة عند انسحابهم السريع.

سرية المشاة من الكتيبة الثالثة / "كرملي"، هاجمت واحتلت مرتفعين إلى الجنوب من الشيخ عباد، ولكنّ جيش الإنقاذ شنّ هجوما مضادا فاستعاد المرتفعين في اليوم التالي، أي 23 تشرين أول/أكتوبر، وبذلك أصبحت مستعمرة منارة محاصرة تماما، وبإمكان جيش الإنقاذ مهاجمتها مباشرة واحتلالها.

فشل استعادة السيطرة على الشيخ عباد، مرّة أخرى

أصرّ قائد لواء الشمال في الجيش الصهيوني، موشي كرمل، على ضرورة احتلال مرتفع الشيخ عبّاد وعدم تركه في أيدي جيش الإنقاذ، ولذلك تقرّر تنفيذ حملة خاصة للسيطرة على المرتفع، وسميت الحملة باسم "ياعيل"، أي غزال باللغة العربية، على أن تنفذ في ليلة 22-23 تشرين أول/أكتوبر 1948، ويتم التنفيذ من قبل لواء "كرملي".

كانت خطة الحملة تقضي بأن لا تتحرك القوة على طريق النبي يوشع - منارة، فيصيبها ما أصاب منفذي الهجوم المضاد الفاشل، بل يأتي الجنود من الخالصة (المقصود هنا مستعمرة خالصة التي بنيت على أراضي قرية الخالصة، ويطلق عليها اليوم اسم "كريات شموني")، ويصعدون الطريق المتعرجة من خالصة إلى منارة خلال الليل، على أن تقوم قوة بمهاجمة الشيخ عباد من الشمال الشرقي وقوة أخرى تقوم بإطلاق نيرانها كل الوقت على مدافعي جيش الإنقاذ لمنعهم من التحرك، وقوة ثالثة تكون احتياطية وتدخل المعركة عند اللزوم، بالإضافة إلى مدفعي عيار 65 ملم يقومان بقصف موقع جيش الإنقاذ تحضيرا للهجوم. ومن أجل إنجاح الحملة، أعطيت الأوامر بتنفيذ هجمات في مناطق أخرى في الجليل لإلهاء قوات جيش الإنقاذ عن هذه المعركة.

انطلق الجند الصهاينة من مستعمرة خالصة، عند الساعة 01:00 بعد منتصف الليل، فوصلوا إلى مستعمرة منارة عند الساعة 04:40، وانطلقت سرية من الكتيبة الثانية/"كرملي" للهجوم على مرتفع الشيخ عباد عند الساعة 05:50، وانقسمت إلى قوتين حسب الخطة أعلاه، وبعد قصف مدفعي استمر لمدة 45 دقيقة، قامت القوّتان بالاندفاع باتجاه موقع جيش الإنقاذ، ولكنهما واجهتا دفاعا مستميتًا، أدى إلى مقتل 11 جنديا صهيونيا على الأقل وجرح 11 آخرين. استمرت المعركة حتى المساء، وانتهت بخسارة صهيونية كبيرة، وكانت هذه هي الهجمة الأخيرة التي نفذت ضد جنود جيش الإنقاذ المتمركزين على مرتفع الشيخ عباد، والذين بقوا مسيطرين على المرتفع حتى انسحابهم خلال حملة "حيرام"، التي سنأتي على ذكرها في الحلقة القادمة.

(يتبع)


المصادر:

١. ناهض حتر (إعداد)، وصفي التل في مجابهة الغزو الصهيوني.

٢. خيرية القاسمية، فلسطين في مذكرات القاوقجي.

٣. "بيني موريس"، تاريخ الحرب العربية الاسرائيلية الأولى ١٩٤٨.

٤. "تسادوك إيشل"، لواء "كرملي" خلال حرب "الاستقلال".

٥. "أبراهام سيلع"، جيش الانقاذ في الجليل خلال حرب ٤٨، حرب "الاستقلال" ١٩٤٨-١٩٤٩، تحرير ألون كديش".

٦. "موشي كرمل"، معارك الشمال.

٧. مصطفى عباسي، قرية الجش خلال حملة "حيرام"، مجلة أغصان زيتون وسيف، الجزء ١٦.

٨. حملة "حيرام"، قصة المعركة، مجلة "معرخوت" عدد ١٤٩.

التعليقات