"الوجع الدفين": حِكاية الطب وحَكايا طبيب 

الوجع الدفين، هو مناسبة لقول ما لم يقله الطبيب كناعنة في حكاياته، وذلك عن سُلطة الطب في عالمنا، وفي مجتمعنا داخل أراضي 48 خصوصًا. تخيّل أنك اليوم لا تستطيع أن تستجيب لأي نصيحة صحية - طبية تُسدى إليك حتى بآية

د. حاتم ووالده محمد العلي (أرشيف المتحف الفلسطيني)

شدّني كتاب "الوجع الدفين"؛ أولًا، لأنني أحب الحكايات، ففي الكتاب ما يزيدُ عن عشرين حِكاية، غير أنها كُلها حِكاية واحدة، تحكي عنّا نحن العرب الباقون في البلاد بعد نكبة 1948، من خلال أهالي عرّابة البطوف. والأهم من الحكايات، هو حاكيها، لأنه طبيب، فالدكتور حاتم كناعنة ابن قرية عرّابة البطوف في الجليل، هو أول طبيب في قريته، بل من أوائل الأطباء العرب في الجليل والداخل الفلسطيني عمومًا، وكتابه المترجم مؤخرًا عن الإنجليزية (1)، يتضمن حِكاية الطب في بلادنا، أكثر مما هو حِكايات طبيب.

سلطة الطب وطب السلطة

الوجع الدفين، هو مناسبة لقول ما لم يقله الطبيب كناعنة في حكاياته، وذلك عن سُلطة الطب في عالمنا، وفي مجتمعنا داخل أراضي 48 خصوصًا. تخيّل أنك اليوم لا تستطيع أن تستجيب لأي نصيحة صحية - طبية تُسدى إليك حتى بآية قرآنية، إذ لا سُلطة تفرض سطوتها علينا، مثلما هي سطوة الطب الحديث.

كُلنا نتذكر المَثل الذي كانت تقوله عجائزنا، منذ زمن تركيا، "الله يبعدنا عن الحاكم والحكيم". المقصود بالحاكم هو القاضي وليس والي البلاد، والحكيم هو الطبيب، في إشارة لتاريخ خوف الناس من المساءلة القانونية والمرض. ومع ذلك، ظل أهالينا في الداخل الفلسطيني، وعموم فلسطين يدفعون أبناءهم لتعلّم الطب والقانون، رغم إرباكهم من "الحاكم والحكيم"؛ فحتى أواخر القرن الماضي، لم يكن التعليم الأكاديمي مقنعا لأهلنا، إلا إذا كان في مجاليّ الطب والقانون، فمن أين هذه الهالة الممنوحة للطب؟

يعود تاريخ علاقة أهلنا بالطب السريري (عيادة الطبيب) إلى ما قبل النكبة، منذ مطلع القرن الماضي، وذلك في سياق صِحي ترك أثرًا سياسيًا- اجتماعيًا في الناس، أكثر مما ترك في صحتهم. كما جرى ذلك أيضًا في ظل هيمنة استعمارية مع الانتداب البريطاني على البلاد.

في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كان الأطباء العرب في فلسطين قِلّة، يقتصر وجودهم على المدن العربية فقط، فيما اعتمدت قُرى الفلاحين والبدو في البلاد على الطب الشعبي أولا، ثم على الطب السريري في المستعمرات اليهودية، حتى أكثر القرى الفلسطينية عداءً للمستوطنات قبل النكبة ورفضًا للتعاون معها، فإن طبيب المُستعمرة كان الدافع الوحيد الذي دفع بالفلاح الفلسطيني إلى دخول المُستعمرة من أجل العلاج، مما خلق في حينه شكلا من أشكال التصالح مع المُستعمرة (المستوطنة) من خلال عيادة طبيبها. إلى يومنا هذا، فإن أكثر حيّز يتصالح فيه أهلنا في الداخل مع الدولة العبرية، هو حيّز الصحة والطب.

يمكننا تفسير لجوء أهالي القرى الفلسطينية لأطباء المُستعمَرات اليهودية وتغليبهم على الأطباء العرب في المُدن العربية في كثير من الأحيان قبل النكبة، بسببين؛ الأول، القرب الجغرافي للقرية العربية من المُستعمرة اليهودية، وبخاصّة حين تكون حالة المريض حَرجة؛ والثاني، وهو الأهم، متعلق في الخصوصية، فالفلاحون وبضمنهم البدو وجدوا أنّ كشف مرضاهم، خصوصًا النساء، على طبيب أجنبي في مستوطنة، أخف وطأةً وأقل حرجًا من كشفهن على طبيب عربي في مدينة عربية. ظل مثل هذا التحسس الاجتماعي قائما لدى أهلنا في الداخل، إلى ما بعد النكبة، فقد أشار كناعنة في كتابه غير مرة، بعد تأسيس عيادته في سبعينيات القرن الماضي إلى حساسية بعض أبناء قريته العرّابيين من كشف نسائهن عنده كطبيب.

كان الطب واحدا من أهم ملامح الحداثة، التي انكشف عليها أهلنا مع مطلع القرن العشرين، وبعد مرور ما يزيد عن القرن من الزمن، فقد أتم الطب مهمته في عَقلّنة المرض، وتعلمنت (من علمانية) أجسادنا كفلسطينيين في الداخل لصالح خطاب الطب السريري الحديث، القائم في سياق استعماري – كولونيالي، استُخدم فيه الطب والطبيب الصهيونيان كأداة سياسية لاختراق مجتمعنا الفلسطيني وضبطه. كما ينسحب اختراقنا هذا على القانون والتعليم أيضًا.

دفع المرض وحَرجه أهلنا منذ ما قبل النكبة، التوجه لأسّرة أطباء المُستعمرات، كما دفعهم صراعهم على حدود الأرض أو حقهم في ملّكيتها مع الإنجليز إلى الاستعانة برجال القانون والمحامين، عربًا وأجانب، مما أكسب ذلك زخما لمهنتي الطب والقانون، وبعد هزيمة نكبة 1948، التي كان "تخلفنا" واحدا من تفسيراتها، صار التعليم شرطا تعويضيا عن نكبتنا. وبالتالي، ثابر أهلنا على حث أبنائهم دراسة الطب والقانون، بثقافة ظلت حمولتها اجتماعية ترى بمثل هذه المهن جزءا من رأسمالها الاجتماعيّ- السياسيّ، بصرف النظر عن حاجة السوق وطلبها، خصوصًا في ما يتعلق بالطب.

من ألم المرضى إلى وجع ذاكرتهم

د. حاتم كناعنة

تخرّج د. حاتم كناعنة من إحدى الجامعات الأميركية في ستينيات القرن الماضي، وأقام عيادته المتواضعة في حينه في قريته عرّابة البطوف في مطلع السبعينيات، وذلك في الوقت الذي كانت ما تزال ندوب ممارسات الحكم العسكري ماثلة على سكان الجليل والعرب الباقين في البلاد. استطاع كناعنة أن يجمع في أدائه الطبي بين تجربتين أو مرحلتين من تاريخ تطور الطب، هما: الطب السريري وطب الفِراش (2). يُعتبر طب الفِراش مرحلة سابقة على ظهور الطب السريري الحديث، غير أن كناعنة جمع بينهما معكوسًا، إذ لم يكن يكتفِ الرجل بعمله فوق سرير مرضاه في عيادته، إنما تابع المرضى عند فِراش مرضهم في بيوتهم، إلى حد الملاحقة التي لم تكن تخلو في بعض الأحيان من تقريع كناعنة وتوبيخه لهم.

كان كناعنة قريبًا من مرضاه، إلى حد استطاع فيه أن يتسلل من ألم المريض إلى وجع ذاكرته، من الجسد إلى المجتمع، ومن الصِحة إلى التاريخ. وهذا هو الثيم الذي ظل يحكم كل حكايا كتابه، حتى عناوين حكايات الكتاب، عنونها كناعنة بأسماء أمراض مرضاه. كانت أسماء أبطال حكاياته وهمية لشخصيات عرّابية حقيقية، في محاولة هي قليلة من نوعها، لناحية كتابة أدب التذكر لمجتمع فلسطينيي الداخل، أي "النظر للمجتمع من على سرير الطبيب".

نساء من عائلة كناعنة في لقطة تذكارية، أخُذت قبل سفر حاتم إلى الولايات المتحدة (المتحف الفلسطيني)

بلغة قصصية سلسة، وبإطار سرديّ - تاريخيّ، يعود كناعنة في كل حكاية بقارئه من خلال مريضه، إلى مسح نافذة الذاكرة عن ملامح تلك التحولات السياسية والاجتماعية التي طرأت على أهل بلدة عرّابة البطوف وسكان الجليل عموما، منذ انكسار الأتراك، ثم الانتداب البريطاني على البلاد، مرورًا بالنكبة، وصولًا إلى مرحلة الحكم العسكري أواخر الستينيات.

كما تحدث عن عرّابة وروابطها بالقرى المحيطة بها قبل النكبة وبعدها، وعن علاقة أهلها بسهلها البطوف، الذي ظلت عرّابة محسوبة عليه أكثر من أي قرية من قراه، وعن الفضاء البري الذي ضيّقه الصهاينة على أهله بعد تحريجه، واستبدال التين والصبّار بالصنوبر غير المثمر، وعن شجرتي الخروب والرمان، وعن الماعز والمعّازين والصيد والمحاجر والحجار، وعن الزمن الثوري والثوار والشهداء، والسلاح والملاحقات، وكل أشكال التعاون والعمالة. وكذلك الأرض والسماسرة، وعن العُرس والحدائين والشعّار، وعن الزناجيل والمُلّاك وفوارق ملامحها الطبقية، وعن "الهجاج" واللاجئين والباقين، والحاضرين- الغائبين، وعن النبذ والتهميش الاجتماعيين، وعن التبغ والدواء والطعام والماء، والبخل والسخاء، وعن دموع العرّابيين ودمائهم.

تُعدّ سنوات السبعينيات، مرحلة في غاية الأهمية على مستوى التحولات التي طرأت على فلسطينيي الداخل، بعد نحو عقدين من الحكم العسكري، وسياسات الضبط والتأديب التي اتبعتها الدولة العبرية تجاههم. تُحيلنا بعض حكايات د. كناعنة إلى شكل إيقاع تحوّل أهل قريته العرّابيين من فلاحين كانوا يفلحون الأرض، إلى عمال في ورشات بناء المُستعمرات اليهودية. وهذا ينسحب على جميع فلّاحي فلسطينيي الداخل المُحتل في حينه، حيث الانتقال من الحقل إلى الورشة. ومع ذلك، يبيّن لنا صاحب الوجع الدفين، كيف ظلّ أهل قريته العرّابون، مشدودين إلى سهلهم البطوف، بعد أن غدت علاقتهم به من علاقة مُياومَةٍ مع الأرض إلى موسميّة معها.

ينسلّ كناعنة وبخفة إلى خفايا مجتمع قريته، لينفتح على مساحات من تاريخه الاجتماعي، إلى حد تناول فيه حكايات عن الشرف العائلي والجنس والبغاء بجرأة مسؤولة، وبلغة دافئة لا تخلو من حسّ الدعابة والتندر. كما ظلت لغته على طول حكاياته رشيقة، ينقل فيها كناعنة بين الخاص والعام، في استخدامٍ دائم للقاموس الاجتماعي من التعابير العامية- المحكية، ما أضفى على نصوص حكاياته لغة حية، تشبه مجتمع قريته المحكي عنه.

أفراد من عائلة كناعنة، وهم حاتم ويسرى وجميلة (المتحف الفلسطيني)

إن كل هذا المتصل بالسياسي والاجتماعي، الذي يحكي عن العرّبيين وعنّا جميعا في فلسطين المُحتلة، لم يقطع خيط سؤال الصحة الرفيع، الذي ظلت كل حكايات كناعنة مشبوكة به على طول الكتاب، إذ أشار في غير موضع إلى تأرجح أهل قريته ما بين الطب الشعبي وبين الطب السريري الحديث، دون أن يغفل الكاتب التأكيد على الإهمال الصحي المتعمد من قِبل المؤسسة الصهيونية للمجتمع العربي الفلسطيني في البلاد، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر، يبيّن كناعنة كيف كان الطب أداة المؤسسة ضمن سياسات التدخل. فعلى سبيل المثال، يقص لنا الكاتب كيف خصصت إسرائيل المكافآت المالية للنساء الوالدات في المشفى، فيما حُرمت منها الأمهات اللواتي كنّ يلدن أطفالهن في البيوت، ما دفع بكل النساء العربيات الحوامل للولادة في المشافي.

في آخر حكاية من حكايات الوجع الدفين، يقص فيها كناعنة حكاية اكتشاف قرية "عرب نعيّم" أو "بني نعيّم" البدوية، تلك القرية التي دمرها الصهاينة في أحداث النكبة، فيما ظل أهلها في موقع قريتهم هائمين على وجوههم غيرُ معترَفٍ بهم ولا بقريتهم المُدمرة على مدار عقود. ما كان لعرب نعيّم أن يُعترف بهم وبقريتهم المُدمرة، لولا النشاط الصحي الذي قام به كناعنة مع بعض زملائه في "جمعية الجليل للبحوث والخدمات الصحية". أساسًا من تنبّه لقصة هذه القرية وأهلها هو طبيب، من خلال حملات التطعيم، الأمر الذي جعل للطب دورا بارزا في دعم وتثبيت نضال أهل القرية من أجل انتزاع الاعتراف بهم وبقريتهم من الدولة العبرية.

في الوجع الدفين وحكاياته، جُملة من الإحالات والمفاتيح، التي يمكننا من خلالها التعرف إلى ملامح تحولات المجتمع العربي داخل أراضي 48 على كافة المستويات. كما يبيّن لنا الكاتب وكتابه، دور الطب في الانكشاف على جسديّ المريض والمجتمع معًا. الناس عند الطبيب، لا تشكي آلامها الجسدية فقط، إنما وأوجاعها اليومية أيضًا.


الهوامش

1. صدر كتاب الوجع الدفين باللغة الانجليزية، بعنوان: chief complaint : A Country Doctors Tales of Life in Galilee. ( just World Books 2015).

ترجمة: سوسن كردوش – قسيس، إصدار دار سند، 2021.

2. تعتبر مرحلة طب الفِراش، بمثابة المرحلة التي كان الطبيب يقدم فيها العلاج لمريضه عند فِراش المريض. عن ذلك، راجع: باينم، ويليام، تاريخ الطب – مقدمة قصيرة جدا، ترجمة: لبنى تركي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2015.

التعليقات