هل هنالك حاجة لتجديد مشروع التجمع؟ / وئام بلعوم

لصالح الإجابة على هذا السؤال، يجدر تقسيم الإجابة إلى منحيين: الأول تجديد الفكر، والثاني هو تجديد المشروع. بالأول نقصد المبادئ العامة التي تحدد وجهة الحزب وبوصلته في تحديد لمساره، تلك التي تشكل المنبع لتطوير المشروع السياسي.

 هل هنالك حاجة لتجديد مشروع التجمع؟ / وئام بلعوم

 

لصالح الإجابة على هذا السؤال، يجدر تقسيم الإجابة إلى منحيين: الأول تجديد الفكر، والثاني هو تجديد المشروع. بالأول نقصد المبادئ العامة التي تحدد وجهة الحزب وبوصلته في تحديد لمساره، تلك التي تشكل المنبع لتطوير المشروع السياسي. بالثاني نقصد المشروع السياسي المنبثق عن هذا الفكر، يتميّز المشروع بكونه ترجمة عمليّة للفكر السياسي، في حين ان الفكر هو ذو طابع عام ومشترك مع احزاب عالمية او عربيّة، فإن المشروع السياسي يحمل جانباً محدداً، يختص في الشأن الوطني على المستوى الفلسطيني العام أو المحلّي على مستوى فلسطينيي 48.

الفكر

في حالة التجمع، يشكل الفكر "القومي الديمقراطي اليساري" المنبع النظري للحزب ومشّكّلاً لمشروعه السياسي. في الحديث عن "القومي الديمقراطي"، كان التجمع سباقاً براقاً، فقد طوّر فكراً قومياً على صورة الهويّة القوميّة، والتي تعامل معها كهوية ثقافية، وكهوية جامعة للعرب في البلاد، هوية حامية من التشرذم الطائفي والعشائري الذي تقوم المؤسسة الاسرائيلية بتغذيته وتأجيجه، رافضاً التعامل مع الهوية القومية كهوية عرقية، وبالتالي عنصرية. وكان التجمع سباقاًً، عند الحديث عن الفكر الديمقراطي، بحيث طور فكراً ديمقراطياً مناهضاً للفكر العنصري الاسرائيلي وطوّر فكراً ديمقراطياً عربياً، بحيث تحدّثت أدبيّات الحزب عن اهميّة الإصلاح والديمقراطيّة لبناء دول عربية وطنية قومية. 

مع ان التجمع طرح فكراً اقتصادياً يسارياً، لكنه قصّر ولم يقم بتطويره، فقد بقي الطرح على مستوى الشعار فقط، بحيث تكاد تخلو أدبيّات الحزب من طرح اقتصادي-اجتماعي يليق بالحزب وبما قدّمه في الجوانب الفكريّة الأخرى، وقد ظهر الأمر جلياً عند محاولات للشبيبة التجمعيّة لإحياء يوم العمال، التي اقتصرت على فعاليّات رمزيّة (توزيع الحلوى والقهوة على العمال وفعاليات فنيّة) وخَلَت من الخطاب السياسي، هذا ما يحدث عندما يغيب هذا الفكر وبالتالي المشروع. 

وإذا عدنا لأسباب اهمال هذا الجانب، نجد ان بعضها كان محقاً، مثل كون التجمع والعرب عموماً أقليّة لن تتحول إلى أغلبية في إطار الوضع الدولتي الراهن، اي انّه ليس مهماً ان يقول حزب، لا يطمح للحكم، رأيه في قضايا توزيع الثروات. كما أن وجود العرب في أسفل السلم الاقتصادي الاجتماعي، سهّل المهمّة على التجمع وباقي الاحزاب السياسية العربية، فمن يدعي الانتماء لمصالح العرب الفلسطينيين في البلاد سوف يتخذ بالضرورة مواقفاً سياسية تميل إلى العدالة الاجتماعية وإلى الطبقات السفلى. سبب اخر هو  انتماء الحزب التاريخي واندراجه تحت إطار الحركة الوطنية الفلسطينية وبالتالي تركيزه على التناقض الأساس وهو الصراع القوميالوطني مع المشروع الصهيوني.

لكن التناقض المركزي مع الإحتلال، لا يعني اهمال هذا الجانب الفكري الهام، فكما لم يهمل التجمع، فكره الديمقراطي دون التذرع بالاحتلال، عليه البدء بتطوير الفكر الاقتصادي. ليس هذا مطلوباً من باب الترف الفكري او من باب الحنين إلى الحركات الثورية في القرن الـ20، بل ان الحديث حاجة ملحّة. فلا يعقل ان يخلو التحليل السياسي من تحليل للإقتصاد، وذلك للإرتباط العضوي الشديد بين الإثنين، حتى تكاد لا تستطيع التفريق بينهما. كما ان التحليل والطرح الاقتصادي يساهم في تحليل المنظومة الامبريالية العالمية والاسرائيلية، وبالتالي القدرة على اتخاذ المواقف. ولا يقل أهميّة، مساهمة الطرح والتحليل الإقتصادي بما يتعلق بالتناقضات الداخلية في المجتمع العربي الفلسطيني، فكيف نستطيع تحديد اولويات النضال والتغيير داخل المجتمع الفلسطيني دون وجود هذا التحليل، وكيف نتعامل مع القضايا الشائكة مثل العاملات العربيات في البلدان العربية، وإلى أي اتجاه تنموي للمجتمع العربي نذهب وإلى أي فئات وطبقات ننحاز، وكيف؟ كل هذا في ظل ترشّح التجمع للسلطات المحليّة العربيّة، حيث يأخذ دوراً في نوع من انواع "الحكم".  

المشروع

في حين يتم تقييم الفكر عند المنعطفات التاريخية الكبرى، يجدر تقييم المشروع السياسي في احيان متقاربة، وذلك لطبيعة المشروع السياسي، وكونه ترجمة عملية ملموسة للفكر. لقد أطلق التجمع الوطني الديمقراطي مجموعة من المشاريع السياسية منذ انطلاقه، لكن لطبيعة مرحلة انطلاقه، مرحلة اوسلو، جرى التركيز على مشروع "الهوية القومية – المواطنة الكاملة"، وقد رفع التجمع السقف السياسي بهذا المشروع وقاد المجتمع وراءه. ويُحسب بحق الحزب انه ساهم بشكل كبير جداً بجعل الهوية العربية الفلسطينيّة في المركز عبر مشاريعه وندواته ومخيماته والخطابات الاعلامية والخ، كما يُحسب له رفع السقف السياسي للفلسطينيين كافة برفضه ليهودية الدولة وطرح مشروع معادي لها هو "دولة كل مواطنيها". 

وصل مشروع "هوية قومية – مواطنة كاملة" أوجهه، وقد أصبحت تتبناه مؤسسات وأحزاب اخرى، لو لم يصرح بعضها بذلك. فتكاد لا تجد اليوم فلسطيني يقبل بيهوديّة الدولة، التي يضمنها شعار "دولتين لشعبين". لقد اصبح مشروع الهوية القومية العربية الفلسطينية ودولة المواطنين مشروع غالبية الفلسطينيين في الداخل، وأصبح التجمع في السنوات الاخيرة لا يسبق الناس بخطابه، وأحياناً كان العكس، فأصبح الكثيرين يشكرونه وآخرون ينكرون له ما صنع، لكنّ الفئتين أصبحتا تتحدّث فكره، والفئة الأولى تنتظر منه المزيد، وقد يفسر هذا سبب غياب بريق الانطلاقة للحزب، بالإضافة للنفي القسري للدكتور عزمي بشارة وما تلاه من حاجة لترسيخ الحزب.

كما ان مشروع "هوية قومية – مواطنة كاملة" تم صياغته بناء على مرحلة معيّنة، هي مرحلة ما بعد أوسلو، فإن تقييم المشروع الآن يجب ان يكون بحسب المرحلة الحاليّة. في مرحلة أوسلو كان تقييم مؤسسي الحزب ان المجتمع العربي ذاهب باتجاه مخططات الأسرلة، ولذا تم طرح المشروع. 

ما العمل إذن؟ ليس المطروح هنا هو إلقاء مشروع "هوية قومية – مواطنة كاملة" جانباً، وذلك لسببين مرتبطتين: الأول، هو ان هذا المشروع يتطابق بدرجة كبيرة مع الحزب نفسه، فتكاد لا تفرق بين الحزب والمشروع. أمّا السبب الثاني فهو مرتبط بطبيعة المشروع، بحيث ان التمسك بالهوية القومية مهماً في ظل التشرذم الطائفي في المنطقة والذي يلقي بظلاله علينا. والتمسك بالهوية الوطنية والتثقيف لها ما زال مهماً في ظل عدم تراجع المؤسسة الاسرائيلية عن مشاريع الأسرلة، وقد احتفلت الاخيرة مؤخراً برقم قياسي في عدد المنخرطين في الخدمة المدنية، اما التمسك بطرح المواطنة الكاملة ما زال مهماً لتحدي عنصرية النظام ومجرّد وجوده.

لن تكفي المساحة هنا، لتقييم الوضع السياسي للعرب في الداخل، لكن يمكننا بدون شك القول أن المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل قطع شوطاً جيّداً، ولو كان غير كافٍ، في ترسيخ الهوية الفلسطينيّة. ويظهر هذا جليّاً على سبيل المثال في مسيرات العودة ومسيرات يوم الأرض، ونجاح الإضرابات واستعمال نشيد موطني واختفاء اعلام اسرائيل في البلدان العربية في اعياد استقلال اسرائيل والخ..

بعد ان اصبح خطاب التجمع في المركز، يجدر بالحزب ان يضع مشروعاً جديداً في الواجهة. واذا كان المشروع السابق استغرق 15 عاماً، ومن ثم 5 اعوام بدون تجديد، فإن الوقت الآني هو الأنسب لطرح مشروع جديد.

ينطلق المشروع الجديد الذي يجدر ان يوضع في الواجهة، من رحم المرحلة الآنية. ومن دون الخوض في تفاصيل المرحلة، فإن المشروع المُلِح الآن هو مشروع البناء الذاتي. القصد هو بناء مؤسسات المجتمع العربي. لقد طرح التجمع هذا المشروع في السابق، ولكنه لم يشرع بتنفيذه بالصورة اللائقة، فمثلاً، متى انطلق التجمع بحملات اعلامية عن اهمية المؤسسات، متى انطلق التجمع بحملة شعبية لبناء لجنة المتابعة، وقد حان الوقت لأن يصبح هذا هو "ال-مشروع" للتجمع. ان مشروع البناء الذاتي هو الضامن لأي خطوة سياسية ونضالية نقرر خوضها، فكيف يمكن نناقش مقاطعة الكنيست دون بناء مؤسسة لجنة المتابعة وكيف يمكن ادارة نضال طويل الأمد دون مؤسسة قانونية توفر الدعم الكامل للمعتقلين وليأخذ القارئ أي مجال آخر ويقارنه مع البناء الذاتي وبدونه. ومن نافل القول، ان مشروع البناء الذاتي ليس فقط انه لا يتعارض مع مشروع بناء الهوية، بل انه يساهم في تعزيز هذه الهوية؛ وأكثر من ذلك: لا يمكن الشروع بالبناء الذاتي إلا على أساس الهوية القومية الوطنية.

لا يجب ترك المرحلة الصعبة الآنية بما تشمل من انسداد الآفاق، في ظل تصاعد حكم اليمين في اسرائيل وتراجع دور المحكمة العليا، لمن يطرح خفض السقف ويشجع الناس على طأطأة الرأس ومحاولة إعجاب المستعمِر، بل إنها الفرصة لنعزز ثقتنا كشعب بأنفسنا ونطرح مشروع البناء الذاتي.

التعليقات