نحن والخطاب التقدمي.. محاسبة الذات/ سونيا بولص

مرت عشرون سنة بحلوها ومرها منذ أن تـأسس حزب التجمع الوطني الديمقراطي. واليوم ممكن أن نقول بكل ثقة وإعتزاز بأن التجمع نجح في تحويل شعار "دولة كل مواطنيها" إلى حجر الزاوية في الخطاب السياسي المهيمن على الساحة الفلسطينية في الداخل، وحجر الزا

نحن والخطاب التقدمي.. محاسبة الذات/ سونيا بولص

مرت عشرون سنة بحلوها ومرها منذ أن تـأسس حزب التجمع الوطني الديمقراطي. واليوم ممكن أن نقول بكل ثقة وإعتزاز بأن التجمع نجح في تحويل شعار 'دولة كل مواطنيها' إلى حجر الزاوية في الخطاب السياسي المهيمن على الساحة الفلسطينية في الداخل، وحجر الزاوية لتعرية هشاشة الديموقراطية الإسرائيلية. ومع الإنجازات والثقة تأتي المسؤولية، مسؤولية محاسبة الذات لنرى أين نجحنا وأين قصرنا وما هي العبر المستقبلية

هذه المقالة هي مساهمة نقدية متواضعه حول مساهمات الحزب في طرح خطاب تقدمي لمناهضة القيم والقوى الرجعية في مجتمعنا. لا شك بأن اهتمام الحزب بقضايا حقوقية داخلية، خاصة بقضايا العنف ضد المرأة، أصبح في تصاعد في السنوات الأخيرة، خاصة مع دخول أول امرأة عربية إلى البرلمان كممثلة لحزب عربي، إلا أن هذا الاهتمام يكاد يكون عيني ولا يعكس أبدا رؤى شاملة لدور الحزب في إرساء خطاب تقدمي ليس فقط مقابل إسرائيل، بل للتصدي لكافة أشكال القمع داخليا.

وفي انعدام رؤية واضحة في هذا الصدد، تكون النتيجة تبني سلوكيات وتصريحات إشكالية وغير مدروسة قد تتناقض كليا مع قيم ديمقراطية حداثية يجب على الحزب أن يعززها. على سبيل المثال، في البيان التي أصدرته القائمة المشتركة للتصدي لنية بعض الأطراف توزيع مجلة «شارلي إيبدو» جاء بأن القائمة تعبر 'عن موقف واضح وحازم مع حرية التعبير بما لا يشمل خطاب الكراهية العنصري وكذلك الإساءة للمعتقدات والمقدسات الدينية، التي نرى فيها فعلا جنائيا يجب أن يعاقب عليه القانون'. هذا التصريح يتناقض مع أبسط أسس الديمقراطية. صحيح أن هنالك نقاش حول  أفضل السبل لمواجهة التعبيرات العنصرية وهذا النقاش يتسع توجهات تتطالب بتجريم العنصرية، لكن من المؤكد أن اللجوء للقانون الجنائي لمعاقبة من قد 'يمس' بالمعتقدات الدينية هو إشكالي. هذه المقولة الفضفاضة الصادرة عن القائمة المشتركة تعني، على سبيل المثال، بأن الكاتب البرتغالي الراحل جوزيه ساراماغو كان يجب أن يحاكم ويسجن لأن بعض من إنتاجه الأدبي يسخر من المعتقدات الدينية المسيحية. هل يعقل أن نوافق ولو إفتراضيا على مطلب كهذا؟! أما على مستوى الممارسات فنرى، على سبيل المثال، بأن ممثلي الحزب في العمل المحلي يشاركون في طقوس اجتماعية معادية للحداثة كلجان الصلح المحلية على أنواعها وزيارات التواصل بين الطوائف بمناسبة الأعياد وغيرها. هذه المؤسسات، وبعكس ما تدعي، جاءت لتشدد على وجود هويات طائفية وعائلية ولخلق هالة من المقايضات لضمان استمراريتها.

أما عن النساء فحدث بلا حرج، فلا يمكن حتى أن نتخيل مشاركتهن في مثل هذه الطقوس إلا لتقديم التضييفات والقهوة. لا يمكن لحزب تقدمي أن يمر مر الكرام على مثل هذه الطقوس والتعامل معها كأمر مفروغ منه. الضرر الناجم عن التطبيع مع هذه الممارسات والطقوس هو أكبر بكثير من أية فائدة قد تعم على مجتمعنا جراء المشاركة بها

أما الضرر الأكبر الناتج عن إنعدام رؤية شاملة لتعزيز الخطاب التقدمي داخليا فيتمثل بخلق ثقافة سياسية مشوهة تتعامل مع حقوق الإنسان بشكل أدواتي، حيث تسخر هذه الثقافة إنتقائيا القيم الكونية لخدمة مفاهيم تراها أهم من حرية الفرد وكرامته كالعروبة والمقاومة. وهكذا يتحول الفكر القومي العروبي من آداة جاءت لتنظيم المجتمع بشكل عصري تشكل كرامة الفرد وحريته نواته هذا إلى عقيدة شمولية تتعامل مع الفرد كقربان يمكن التضحية بحقوقه وبحياته على مدبح الجماعة.  

طبعا الحزب كأي مؤسسة بشرية موارده وطاقاته تبقى محدودة ولا يمكنه أن يقود ثورة فكرية شاملة على المدى القريب، خاصة في ظل السياسات العدائية للدولة. لكن هذا لا يعفيه من وضع استراتيجيات واضحة لتعزيز القيم الديمقراطية داخليا.

هذا يتطلب أولا أن يبحث الحزب ويناقش قيم حقوقية بحاجة إلى تعزيز وأن يتخد منها موقفا أخلاقيا. ثانيا، بالرغم من أن جميع حقوق الإنسان مهمة، هذا لا يلغي أهمية أن يميز الحزب بين مواضيع طارئة وملحة، يجب على الحزب أن يأخد دورا رياديا في الدفاع عنها، وبين مواضيع مهمة لكنها ليست طارئة قد يكتفي الحزب بأن يأخذ دورا ثانويا لتعزيزها. على سبيل المثال، تشير كل الإحصاءات إلى وجود استغلال للمرأة العاملة داخل المدن والقرى العربية. هذه القضية تعكس استهتارا كبيرا بعمل المرأة وقدرتها على المساهمة الفعالة في الاقتصاد المحلي، ويجب أن تتصدر سلم أوليات أي حزب سياسي يضع كرامة الإنسان في مركز برنامجه الانتخابي.

أما بالنسبة للقضايا التي تبقى مهمة دون الحاجة لأن يحول الحزب جل طاقاته وموارده لدعمها يمكن الحديث مثلا عن قضية الزواج المدني. لا يمكن لحزب يدعي التزامه بقيم كونية أن يقبل بمنظومة قوانين تصادر حق الفرد في اختيار الإطار القانوني الذي يناسبة للزواج بمن يحب من خلال فرض قيم دينية بقوة القانون. دعم الزواج المدني لا يعبر عن معاداة للأديان، بل هو احترام لحرية الفرد بالاختيار. المقتنع بتعاليم دينيه فليذهب ليتزوج بموجبها، دون أن يطالب بفرض الخيار ذاته على أفراد غير مقتنعين بذلك. الحد الأدنى المطلوب من الحزب هو اتخاذ موقف علني وصريح مؤيد للزواج المدني بدون تأتأة، بموجبه يحق للفرد التمع بحرية العقيدة وبضمن ذلك أن يرى بتعاليم دينه ملزمة له في حياته الأسريه أو أن يرفض الخضوع لأي سلطة دينية في أمور تتعلق بحياته الخاصة.

وأخيرا، عندما نتحدث عن العمل السياسي المحلي، ينبغي توخي الحذر من المشاركة في طقوس اجتماعية معادية للحداثة لا يعني  أبدا مقاطعة القيادات الرجعية على المستوى المحلي بالكامل. التحدي الحقيقي يكمن بتحويل أي شراكة مع قوى غير تقدمية إلى مكسب سياسي يصب في الصالح العام، قادرا على خلق ديناميكيات جديدة بوسعها تهميش أي مكسب قد تحققه القيادات الرجعية من وراء أي شراكة معها. فقط حراك شبابي قادر على كسر النظم الطائفية، العائلية والذكورية. على سبيل المثال، مبادرة 'ليالي شفاعمرو الميلادية'، وهي مبادرة شبابية بامتياز، أثبتت نفسها كنموذج نقيض لطقوس المعايدات الطائفية، حيث شارك الرجال والنساء والأطفال من جميع أحياء المدينة، وتحول السوق القديم إلى مركز تجاري وترفيهي مكتظ بالسكان الذين يمثلون فقط أنفسهم بعد أن خلعوا عنهم عباءة الطائفة والعائلة التي لم تجلب لهم إلا التبعية.

لم يخف الحزب يوما من التصدي والمواجهة وآن الآوان أن نظهر الشجاعة ورؤية  تقدمية في معركتنا داخليا.  

*سونيا بولص - محاضرة في جامعة 'نبريخا' في مدريد في قسم القانون والعلاقات الدولية.

  

 

التعليقات