في التحديات... تثبيت البوصلة! / سهير أسعد

التجمع اليوم أمام تحدي وفرصة تاريخية لتثبيت تعريفات جوهرية لا معنى لهويتنا وقضيتنا ونضالنا بدونها ولطرح إجماع وطني متحدي نحمله لشعبنا، ونقارع به المؤسسة الصهيونية العنصريّة. وهذه ليست فرصة تاريخية للتجديد، بل لإعادة تثبيت خطاب التجمع، وثو

في التحديات... تثبيت البوصلة! / سهير أسعد

نقف اليوم في العام الـ20 لتأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، ليس أمام تحديات تنظيمية وسياسية يخوضها التجمع كحزب سياسي فحسب، بل وربما الأهم أمام تحديات كبيرة في ظل وجود القائمة المشتركة التي تفتح أفقًا لتنظيم الفلسطينيين في الداخل ولتأسيس ثقافة سياسية جديدة، والسؤال الأهم الذي يرافق ذلك: أيّ ثقافة سياسية نريد؟ وإلى أي رؤيا جماعية وأي خطاب سياسي نطمح؟ 

في الأشهر الأخيرة راقبت مثل الكثيرين، وبمنتهى الجدية، الرسائل السياسية التي تصدر عن القائمة المشتركة أو مركباتها إيمانًا بأهمية الخطاب السياسي للقائمة ومركباتها السياسية وشخصياتها المركزية، لما في ذلك من تأثير كبير تراكمي على اتجاه بناء الوعي العام  لفلسطينيي الداخل بشكل يتأثر بسقف الخطاب السياسي للأحزاب السياسية وقياداتها ويؤثر عليه. 

الإيمان بأهمية رفع سقف الخطاب السياسي وتثبيت تعريفات أساسية متعلقة بأصل الصراع مع الدولة ووجهة المشروع الوطني منوط بفهم تشكيل القائمة المشتركة كفاتحة لتنظيم الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل وليس كقائمة انتخابية بهدف الالتفاف على محاولة ضرب حقنا في التنظيم السياسي وملاحقة حركاتنا السياسية، والإيمان بذلك يتضمن أيضا الإيمان بأن الوحدة ومواجهة الملاحقة عليه أن يتضمن رفع سقف خطابنا السياسي والسعي لخلق تأثير تراكمي على وعي الناس بالإضافة إلى تصعيد في أدوات المواجهة مع السلطة.

نحن نهدد!

كل هذا غير ممكن حين لا تنفك قيادات مركزية في القائمة اجترار معادلة أن نكون مقبولين لنؤثر، وتكرار مقولة 'لا أهددكم ولا نهددكم' وتبني ثقافة مستعمَرين يسعون لنيل رضى المستعمِر وتبني خطاب لا يضرب في سقف المتوقع والمتفق على حدوده ويتمحور حول خوف الناس على 'الموجود' ومعادلات الربح والخسارة، التي نفهمها، وعلى القيادة السياسية أن تفهمها، مع الفهم أن دورها يكون في حملها والسعي لقلبها بشكل تراكمي وإعطاء القوة للناس لمصالحة التناقض بين كرامتهم الإنسانية وتوقهم للتحرر ورفض القمع، وبين هموم حياتهم اليومية، وخلق سقف آخر لتوقعاتهم من حياتهم كأفراد وكمجموعة قوميه واستعدادهم للنضال في سبيل ذلك.

وقد يكون هذا من أهم ما فعله ويسعى لفعله التجمع، إنتاج التغيير والتراكم في الخطاب السياسي باتجاه رفض أدلجة الخوف وإنتاج تراجع في وعي الناس، بادعاء فهمه، والسعي الدائم لرفع السقف، وخلق الصدمة مع الآخر المستعمِر لإيمانه أن صاحب السيطرة والامتياز لن يتنازل عن فوقيته بالاقناع. هذا التغيير لم يفهمه البعض وما زال يسعى لإعادتنا إلى معادلات جُربت وفشلت، تعيد الكُرة باستمرار إلى ملعب الضحية بادعاء أن شكل خطاب آخر، أقل صداميّة ويتعامل بحساسية مع نفسية الخوف لدى المجتمع الإسرائيلي الذي قد يلقى أذنا صاغية عند فئات منه ويؤثر على شكل 'الحل النهائي' ودنوه

لو افترضنا متجاوزين أصل الإشكالية في هذا الخطاب، لا يوضح طارحوه ما الذي تغيّر، لنضرب عرض الحائط منجزات الحركة الوطنية في العقدين الأخيرين،  ونعود لإنتاج خطاب أثبت فشله في ظل توغّل المجتمع الإسرائيلي في عنصريته، فحتى قراءة سريعة لنتائج الانتخابات تثبت أنه رغم تبني البعض هذا الخطاب كان عدد المصوتين اليهود للقائمة المشتركة أقل من مجموع المصوتين للأحزاب العربية مجتمعة في الكنيست السابقة.

إلا أن الإشكالية الأساسية في تبني هذا الخطاب وهذه الاستراتيجية تنبع بالأساس من انحرافه عن تعريف أصل الصراع كصراع مع مشروع استعماري عنصري وبالتالي الانشغال بـ'حل' الصراع علاوة عن الحق في النضال، فنحن لا نسعى لإنهاء الاحتلال لإقامة دولة فلسطينية، بل قبل ذلك للعدالة والحرية والمساواة للشعب الفلسطيني ومن هنا نشتق شكل وأدوات وأهداف نضالنا.

بين القومي والمدني

يُنتج تبني هذه الخطاب وهذه الاستراتيجية، بالضرورة، فهم آخر لدور القائمة المشتركة، داخل الكنيست أيضًا، فحملة هذا الخطاب يعتبرون الكنيست 'مكان نخوض فيه نضالاً من أجل حقوقنا المدنية' ولأجل تجنيد شرائح من المجتمع الإسرائيلي معنا في هذه النضالات، ويحاجج التجمع أن مكان القضايا القومية خارج الكنيست بادعاء أنها 'لن تحل' هناك. فمن السذاجة الادعاء أننا نحمل خطابنا القومي داخل الكنيست 'لنحل هذه القضايا' فالتجمع يحملها لإيمانه بأهمية هذا المكان لرفع صوت الضحية، وبكون صوتها غير قابل للفصل والتصنيف لمطالب مدنية وقومية، فالأخيرة أصل الغبن في الأولى

طرح التجمع معادلة أخرى للمطالبة بالمساواة المدنية والقومية لا تقبل المطالبة بالمساواة التي تنطلق من تعريف إسرائيل لمواطنة منوطة بفك ارتباطنا مع انتمائنا لشعبنا الفلسطيني وذاكرة وخطاب ضحايا النكبة، بل ضمن مواطنة متحدية للصهيونية، ومناقضة لها، تنطلق الحقوق فيها من مكانة السكان الأصليين وأصحاب الوطن وتتضمن، معادلة تقوم على التناقض بين الصهيونية والديمقراطية، وهي معادلة تعيد التأسيس لنضال وطني يقوم على مبادئ ديمقراطية كونية مثل المساواة والحرية والعدل، الأمر الذي يصطدم مباشرة مع العنصرية الصهيونية. مشروع التجمع هو مشروع العدالة للضحية، غير الممكنة في سياق الصراع مع الصهيونية دون الحفاظ على الهوية والانتماء للشعب الفلسطيني والأمة العربية.

وفي هذا المشروع لا يكون الانتماء حنينًا للماضي، كما أنه ليس انتماءً عاطفيًا للزيتون والموسيقى الشعبية، أو حتى للثقافة العربية، فذلك لا يهدد جوهر المشروع الصهيوني، دون الانتماء لكل هذا ولذاكرة النكبة والغبن التاريخي كانتماء لمشروع سياسي للضحية ولبوصلة خطابها ضمن حركة تحرر وطني تقارع حركة استعمارية عنصرية وتجلي مشروعها الأيديولوجي في الدولة التي لا زالت تقمعنا وتعتبرنا حجر عثرة أمام تحقيقه

وهنا يكمن التهديد، التهديد الاستراتيجي غير المتعلق بوجودنا، الذي قد يكون متصالح مع الصهيونية، بل بالمشروع السياسي الذي نحمله، وهذا تهديد نختاره.

الشراكة مع الآخر

عندما يحمل البعض خطاب 'المستقبل' والقطيعة مع الماضي يصبح من السهل  التعاطي مع  الغبن بنقطة الزمن الراهنة، فيقول قيادي في القائمة المشتركة إن 'إسرائيل ليست دولة أبارتهايد ففيها قاضي محكمة عليا عربي بل هي دولة تهمل مواطنيها العرب'، ويصبح تهديد مشروع الخدمة المدنية إطاره الأمني لا تشويه هوية شبابنا، ويتضامن آخر مع سكان يهود شرقيين مهددين بالإخلاء في “جفعات عمال”، ويغيّب أصحاب قرية جماسين الغربي التي بني الحي على أنقاضها عن وعينا وخطابنا.  وبهذا يصبح خطاب 'النضال لأجل كل الفئات المهمشة' مدماكًا آخر في قمع الضحية، وإفقادها حقها في صياغة خطابها ومشروعها وأدوات نضالها.

وهذا بالطبع ذو معنى أساسي حين نتحدث عن 'شراكة نضالية' حيث أنها غير ممكنة دون أن يتنازل 'الشريك' عن امتيازاته كيهودي تابع للمجموعة القامعة، ودون أن يتضمن انضمامه لمشروع المقموع اعترافًا بمكانته كضحية للاستعمار وبأحقيته بتحديد نضاله وحدود أي مساومة تاريخية قد يختار. وهي المعادلة التي تبناها التجمع لمفهوم الشراكة مع القوى الديمقراطية اليهودية.

أي معادلة غير هذه، لا تقوم على النديّة، مركزية الضحية ومعاداة الصهيونية، هي معادلة خطيرة، الأمر الذي يمكننا قراءته من خلال تحليل بعض النقاشات التي خضناها في فترة الانتخابات، فحين لم يكن خطاب القائمة المشتركة خطابًا صداميًا واضحًا مع الصهيونية استقطبت القائمة بعض الداعمين اليهود من الذين  'تخلوا' عن صهيونيتهم لأنها 'تميّز وتهمّش' العرب في النقطة الزمنيّة الراهنة، ولم يتخلّوا عن أساس هذا الفكر وعن مكانتهم كأسياد 'داخل' مشروع الضحية التي يختارون التضامن معها، وبالتالي عن مكانتهم، أيضًا، داخل القائمة المشتركة حين دعموها. وهؤلاء لم يتورعوا عن فرز مركبات القائمة لعقلانيين و 'قومجيين انعزاليين' وعن وصف العدالة والتمسك بها بـ'الخشبية'، ولم يجدوا أي رادع عند المساواة بين الضحية والقامع، بين المستعمر والواقع تحت الاستعمار وبين حركة تحرر وطني وحركة استعمارية، حيث طالبونا، باسم الجدوى والنجاعة، بنسيان 'ناراتيف' الماضي والاعتراف بالصهيونية كممثلة لحقوق اليهود الجماعية كشرط للاعتراف بنا وبحقوقنا كفلسطينيين، ولم يتورعوا عن مطالبة التجمع بالشعور بالامتنان والقبول حين تمد لنا الحركة الصهيونية يدها بشقها 'اللطيف' المتمثل بـ”ميرتس” للتعاون والحفاظ على قوة معسكر الوسط واليسار الصهيوني. وحين رفضت القائمة ذلك لم يجدوا أي رادع بالمقارنة بين قومية التجمع وفاشية الصهاينة اليمينيين وتنميط أعضاء وعضوات التجمع  عبر وصفهم بـ'مجموعة من محبي الأعلام يرقصون حولها ليشعروا أنهم أقوياء وموحدين أمام الآخر'.

المشروع الوطني الفلسطيني

إن حصر الرابط الذي يجمع الفلسطينيين بالهوية الثقافية، يؤسس أيضًا لغياب الوعي لدور الفلسطينيين في الداخل بصياغة المشروع الوطني الفلسطيني. فيقوم مثلًا أيمن عودة المرشح الأول في القائمة بتبني نموذج 'مشروع ثقافي فلسطيني جامع' ويرفض السعي لمشروع سياسي فلسطيني جامع ويحصر العلاقة بين أبناء الشعب الواحد بتبني ما أسماه  بالـ'تنسيق' لتفاعل القضية، أي الإيمان بأن الشراكة في أفق القضية الفلسطينية يكمن فقط في تأثير قيام الدولة الفلسطينية على الفلسطينيين في الداخل. في خطابات أخرى لعودة قال مرارًا إن الفلسطينيين في الداخل أصحاب مصلحة مباشرة بإقامة الدولة الفلسطينية لكون ذلك يقلل من 'التوتر' ويحسن وضعهم، ويقلل أيضًا من تبذير الميزانيات الإسرائيلية على الأمن. هذا الخطاب لا يعبر عن انحراف أساسي عن أصل الصراع مع الصهيونية فحسب، بل عن عدم فهم أساسي لمصدر وأسباب التمييز والعنصرية ضد الفلسطينيين في الداخل، التي لا يمكن أن تنتهي بإنهاء 'التوتر' مع شعبهم بل بهزيمة المشروع الصهيوني أساس الاحتلال والحصار والفصل والتمييز العنصري.

وهنا تكمن أهمية دور التجمع الذي قام من رحم إخراج الفلسطينيين في الداخل من المشروع الوطني الفلسطيني في أوسلو، منتفضًا على اعتبارهم شأنا داخليا إسرائيليا ومؤكدًا على حقهم ودورهم ودور الأحزاب السياسية في الداخل بإعادة بلورة المشروع الوطني الفلسطيني، بحكم كونهم جزءًا من الشعب الفلسطيني، وبحكم المسؤولية  السياسية والوطنية في الحفاظ على الحق الفلسطيني والحق في النضال لأجله. ونضالنا لا يمكن أن يكون نضالًا من أجل إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة ومساواة مدنيّة في الداخل، بل نضال من أجل الحرية والعدالة والمساواة للشعب الفلسطيني، الأمر غير الممكن دون العودة إلى أصل وجوهر الصراع

لذلك لا يمكننا أن نحمل خطاب ورؤيا واستراتيجيات لنضال الفلسطينيين في الداخل دون أن يكون ذلك ضمن دورنا كجزء من الشعب الفلسطيني الذي بلور هويته الوطنية في ظل الصراع مع الاستعمار والصهيونية وكجزء من الأمة عربية

في التحدي...

التجمع اليوم أمام تحدي وفرصة تاريخية لتثبيت تعريفات جوهرية لا معنى لهويتنا وقضيتنا ونضالنا بدونها ولطرح إجماع وطني متحدي نحمله لشعبنا، ونقارع به المؤسسة الصهيونية العنصريّة. وهذه ليست فرصة تاريخية للتجديد، بل لإعادة تثبيت خطاب التجمع، وثوابت شعبنا، إرثه وإرث أحرار العالم النضالي، فرصة لإعادة تثبيت البوصلة.

 

التعليقات