13/02/2019 - 08:53

فزّاعة "ما بعد الصهيونية"

أعمدة صحافية من اليمين، يزعمون أنه، على الرغم من كل الإجراءات التي اتخذها حُكم اليمين، المُستمر أكثر من أربعة عقود، منذ صعود حزب الليكود إلى سدّة السلطة عام 1977، والرامية إلى تعزيز هيمنته الشاملة سياسيًّا وفكريًّا، لا تزال هناك جيوبٌ تخضع بالكامل

فزّاعة

مرة أخرى، قفزت فزّاعة "ما بعد الصهيونية"، لتحتلّ حيّزًا في الجدل الإسرائيلي الداخلي الدائر هذه الأيام على أعتاب الانتخابات البرلمانية العامة، يوم 9 نيسان/أبريل المقبل. وأجّج هذا القفز أصحاب أعمدة صحافية من اليمين، يزعمون أنه، على الرغم من كل الإجراءات التي اتخذها حُكم اليمين، المُستمر أكثر من أربعة عقود، منذ صعود حزب الليكود إلى سدّة السلطة عام 1977، والرامية إلى تعزيز هيمنته الشاملة سياسيًّا وفكريًّا، لا تزال هناك جيوبٌ تخضع بالكامل إلى سطوة منظمات "ما بعد صهيونية"، لا سيما في الجهاز القضائي ووسائل الإعلام. 

يضيق المجال لإيراد كل الأمثلة التي تجسّد هذه المزاعم، ولكن يظلّ أبرزها مثلُ الهجوم على منظمة "بتسيلم" لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، في ضوء تقرير أخير لها بعنوان "عدالة زائفة... مسؤولية قضاة محكمة العدل العليا عن هدم منازل الفلسطينيين وسلبهم"، يُظهر كيف شرعن قضاة هذه المحكمة جهاز التخطيط في أراضي الضفة الغربية، ومكّنوا دولة الاحتلال من مواصلة تنفيذ سياسة مخالفة للقانون، وتجاهل القضاة مرارًا وتكرارًا في قراراتهم حقيقة أنّ جهاز التخطيط يفرض حظرًا شبه تامّ على البناء الفلسطيني، بغرض إتاحة استيلاء إسرائيل على أكبر مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينيّة. 

وإلى جانب هذا المثل، برز أخيرًا مثلُ استهداف منظمة "صندوق إسرائيل الجديدة" التي اعتبر خبيران عسكريان إسرائيليان أخيراً أنها تندرج في إطار الأجسام التي تُعزّز خطاب "ما بعد الصهيونية"، على الرغم من الخطوط الحُمر التي تعتمدها حيال تقديم أموال دعمها، وفي مقدمها التبرؤ من أي تعاطفٍ مع نشاطات حركة المقاطعة، أو مع أي حراكٍ ضد الجيش الإسرائيلي وقادته. ودعا كلاهما إلى إنشاء "صندوق إسرائيل الصهيونية". 

هناك خلاف بين الباحثين بشأن تاريخ ظهور مصطلح "ما بعد الصهيونية" أول مرة في الأدبيات الإسرائيلية، وهل هو مرتبط بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، أم قبل ذلك بقليل أو كثير. مع هذا، لا نعثر على مثل هذا الخلاف حيال واقع أن الفكرة العامة التي ارتسمت وراء هذا المصطلح ماتت، أو أنها تغطّ في سبات عميق، منذ 2000، وهو عام تفجّر المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، واندلاع الانتفاضة الثانية. وللبرهنة على ذلك، أستعيد رأيين لمؤرخين إسرائيليين عُدّا، في حينه، من أساطين تلك الفكرة، التي صارت إلى موات. الأول المؤرخ توم سيغف الذي أكد أن "ما بعد الصهيونية" ماتت بسبب الفلسطينيين. وبعد ثلاثة أعوام من اندلاع الانتفاضة الثانية، قال سيغف إنه، في ذلك الوقت، أصبحت فكرتها في الثلاجة، في أحسن الأحوال، ولم تعد شيئًا حيًّا أو حيويًّا. وبرأيه الانتفاضة "أرغمتنا على العودة إلى داخل ذاتنا الصهيونية"، و"الإرهاب الفلسطيني يعيدنا إلى الرحم الصهيوني". والشيء الذي تصدر اهتمام التيار ما بعد الصهيوني كان الجدل حول "الكيفية التي يمكن أن تكون فيها الدولة يهودية وديمقراطية. واليوم لم يعد هناك من يأبه بهذا الموضوع". الثاني إيلان بابيه الذي يعتبر نفسه يساريًّا ومناهضًا للصهيونية، وأكّد أن "ما بعد الصهيونية" أضحت، منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، تيارًا وهميًّا غير فاعل. وفي قراءته، عقرت إسرائيل قدرتها على الإخصاب، لكنه، في الوقت نفسه، توقع أن يأتي يوم قد يُتاح فيه، في ظروفٍ مخبريةٍ ملائمة، إمكان تلقيح نطفتها في عملية إخصاب اصطناعية. 

وبعد ثلاثة أعوام من تلك الانتفاضة، أكد بابيه أيضاً أن المجتمع الإسرائيلي تخلّص من "ما بعد الصهيونيين". ومضى قائلاً: ابحثوا عنا بعد ثلاثة أو أربعة أو خمسة أعوام، عندما تصل الحقارة والشناعة والبربرية التي أضحت اليوم جزءًا من السياسة الإسرائيلية، إلى دركٍ من شأنه أن يدفع ناسًا كثيرين، حتى داخل البلد، إلى القول: إلى هنا! لكننا لم نبلغ بعد هذه اللحظة. 

على الرغم من هذا، تهدف العودة إلى فزّاعة "ما بعد الصهيونية" إلى تأثيم إرثها الباقي من نتاجها الفكريّ المُهم.

(العربي الجديد)

التعليقات