30/05/2022 - 19:27

علَم فلسطين... ما الذي تغيّر؟

عودة رفع العلم في السنوات الأخيرة بهذه الكثافة، وفي الجامعات الإسرائيلية، فإنها تعكس عودة الوعي العام، خصوصًا بين الجيل الشاب، بفلسطين الواحدة، وبالشعب الفلسطيني الواحد، هذا الوعي الذي يُترجم الآن بتصاعد حركة النضال الشعبي الواعدة

علَم فلسطين... ما الذي تغيّر؟

(Getty Images)

رأتني من وراءِ شباكِ المنزل، أروحُ ذهابًا وإيابًا في حاكورةِ الدار وبين شجيراتها، مهمومًا وقلقًا، دون أن أنجحَ في العثور على ما كنتُ أبحثُ عنه. لم يكنْ سهلا، خصوصًا قبل المظاهرة بساعةٍ واحدة، تحضير قطعة القماش والوصول إلى صاحبة ماكينة خياطة يدوية، تمتلك الجرأة وتُخاطر بخياطته.

تخطت أُمّي عتبة المنزلِ خروجًا، وقالتْ بهدوء وبصوتٍ خافتٍ: "يمّا إنتِ بِتدّوّر على العلَم، ماهو وين إنت حطّيتو كان طرفو مبيّن، وأنا خبّيتو تحت الأرض خوفي الخنازير يْلاقو" (قصدتْ عناصر ’حَرَس الحدود’، الذين اعتادوا شن الغارات الليلية على البيت، للاعتقال والتفتيش عن علَم فلسطين).

خطتْ عدة خطوات داخل الحاكورة وتناولت مِجرفةً يدوية، وأخرجت بواسطتها كيسا بلاستيكيا من تحت الأرض، وضعتْ فيه علَم فلسطين، وقد طَوتهُ بطريقةٍ مثيرة. وقفتُ أمامها مذهولا في بداية الأمر، ثم انتابني شعورٌ بالفخر بأنّها أمي، التي تبيّن أنها كانت ترقُبُ كل حركةٍ أقوم بها، أو حركة يقوم بها أشقّائي، دون أن نشعر، وقد كانت تدرك خطورة وأهمية ما نقوم به، رغم خطورته على أبنائها، وهي الحنونة جدًا. في هذه اللحظة احتضنتُها وقبّلُتها، وقلتُ لها مازحا: "يمّا، شو بدّك تكوني مثل الأم في قصة ماكسيم غوركي وتنحبسي (رواية "الأم" - رائعة الأديب الروسي الثورية)"، التي كنتُ حدثتها عنها من قبل، "فيكفيكِ هموما وأثقالا؛ الأسرة كثيرة، الأولاد والبنات".

بالفعل لم أكن أُقحم والدتي بأمور ممنوعة بحسب القانون الإسرائيلي الجائر، خشيةً عليها، رغم أنها كانت معلمتنا الأولى في حبّ الوطن والكرامة، وهي التي كانت تُصِرُّ على المشاركة والسير في مسيرة يوم الأرض السنوية، مع الألوف المؤلّفة من الناس على مدار الثمانينيات، رغم تقدّمها في السن. لم أفكّر آنذاك في طرح السؤال عليها كيف كانت تفهم فكرة رفع علَم فلسطين، ولماذا هي تولي كل هذا الحرص عليه، ولماذا لم تعترض على رفعه رغم أن تكلفة رفعه في مظاهرة، أو مجرد حيازته آنذاك، تساوي اعتقالا وحكما بالسجن لفترة تتراوح ما بين أربعة إلى ستة أشهر، إضافةً إلى الضرب المبرح خلال عملية الاعتقال والتحقيق. وقد نال اثنان من أشقائي خلال هذه الفترة ما نالاه من السجن، بتهمة رفع العلَم الفلسطيني. كان سلوك الولادة تعبيرًا عن الروح الوطنية الفطرية، والعفوية، والصادقة، الذي ميّز الأمهات الفلسطينيات الماجدات أيضًا في الضفة الغربية وقطاع غزة ومناطق اللجوء.

حضَرتْ هذه الخواطر والذكريات بعد أنْ شنّ قباطنة نظام الأبرتهايد حملةً هستيريةً على أبنائِنا وبناتِنا في جامعتَي تل أبيب وبئر السبع في الأيام الاخيرة، بسبب رفعهم الأعلام الفلسطينية بكثافة. وقد وصلت الهستيريا إلى حدّ إطلاق تهديدات بتكرار النكبة بحقنا، نحن الذين نجَوْنا من عملية التطهير العرقي التي نفذتها العصابات الصهيونية عام 1948، فما القصة بالضبط؟ لماذا كل هذا الغضب والتحريض الجنوني والتهديد الدموي، مع أن علَم فلسطين أصبح قانونيًا بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو؟ ولماذا عاد المستعمِر ليُصَاب بالهستيريا عند رفع العلَم في شوارع القدس وفي باحات المسجد الأقصى؟

وهل تغيّر معنى ومغزى رفع العلَم الفلسطيني داخل الخط الأخضر أو في القدس، وهل بالفعل الأمر متعلق بالعلَم ذاته، أم أن الأمر أبعد بكثير من العلَم؟

داخل الخط الأخضر، كان رفعُ علَم فلسطين في أواخر السبعينيات وعلى مدار الثمانينيات، مقتصرًا على أعضاء وكوادر حركة وطنية فلسطينية جذرية، مكافحة وجريئة، هي أبناء البلد. وحركة أبناء البلد لم تكن حركة جماهيرية واسعة، بل كانت قوّتها في الأساس تتركز في الجامعات، أي بين الطلاب العرب الفلسطينيين، بين الشباب الذي يتميز عادة بالروح الثورية. وكان جلُّ نشاطها ودورها يتمحور على تنمية الهوية الوطنية الفلسطينية لفلسطينيي 48، الذين كانوا يتعرضون لعملية أسرلة منهجية، أي فصلهم عن جذورهم التاريخية والثقافية وعن علاقتهم بوطنهم. وكان جزء من هذا الجهد موجَّهًا أيضًا، ضدّ دور الحزب السياسي الأقدم والأكبر، أي الحزب الشيوعي، الذي قمع نشطاؤه رافعي العلَم الفلسطيني بعنفٍ شديد خلال مسيرات يوم الأرض. وقد عكس هذا القمع أُطروحة الحزب الخاصة بحل الدولتين، والاعتراف بحق تقرير المصير لليهود في دولة خاصة بهم، لها علَمها، هو العلَم الإسرائيلي، ونشيدها الوطنيّ. لا يستطيع المرء أن ينسى حالة النشوة والهتاف التي كان يُستقبَل فيها علَم فلسطين من جانب الجماهير الغفيرة، عندما كان يلوحُ فجأةً فوق رؤوسهم على يد شبان ملثّمين بالكوفية الفلسطينية، وهم يُرفعون على أكتاف شبان آخرين كذلك.

بعد اتفاقية أوسلو الكارثية، فَقَدَ رفْعُ العلَم الفلسطيني طعمه، إذْ بات رفعه في المظاهرات داخل الخط الأخضر، وتحديدا في السنوات الأولى بعد هذه الهزيمة، أشبه بالطقوس الفلوكلورية، والذي يشير أساسًا إلى المناطق التي خصصها الاتفاق للكيان الفلسطيني الموعود في الضفة الغربية. وراح الجميع يرفعه بعد أن فقد معناه، وبعد أن بات رفعه لا يشكل تحديًا أو "مغامرة"، بل تساوقًا عفويًا مع عملية التطبيع التي أقدم عليها التيار المتنفذ في منظمة التحرير الفلسطينية.

ولكن ومع تأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي جاء إلى حد كبير ردًا على أوسلو ومخاطره، وصعود نجمه واتساع قاعدته بين الناس، وبعد تطوّر دور ومكانة لجنة المهجرين، عاد العلَم الفلسطيني ليستعيد الكثير من معانيه، حيث رُفع بكثافة في كل المناسبات الوطنية كتأكيد على رفض أوسلو الذي أخرج فلسطينيي 48 من تعريف حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، أُسوة باللاجئين، وتأكيدًا على فلسطينية هذا الجزء من شعبنا الفلسطيني.

أما عودة رفع العلم في السنوات الأخيرة بهذه الكثافة، وفي الجامعات الإسرائيلية، فإنها تعكس عودة الوعي العام، خصوصًا بين الجيل الشاب، بفلسطين الواحدة، وبالشعب الفلسطيني الواحد، هذا الوعي الذي يُترجم الآن بتصاعد حركة النضال الشعبي الواعدة والآخذة بالترسخ في كل فلسطين والشتات، وهذا بالضبط ما يقف وراء هستيريا المستعمِر؛ إذ يرى أمام عينيه انهيار مخططات المحو والطمس، والإبادة الفيزيائية والثقافية، وانبعاث جيلٍ وراء جيل يُجدّد العهد، ويُذّكر هذا المستعمر بسرقته للأرض وتشريده لشعبها، وبأن فلسطين كلها وحدةٌ واحدة تخضعُ لنظام استعماري واحد، وتخوض نضالا موحّدًا في سبيلِ مصير واحد... لا مناهج التعليم المفروضة على مدارسنا داخل الخط الأخضر، ولا مخططات القمع والأسرلة، نجحت في إبادة هويتنا الوطنية، ولا اتفاقية أوسلو أو نظام التنسيق الأمني، أمات روح الرفض والمقاومة.

علَم فلسطين هو علم الحرية والتحرر، ورفعه واجب وطنيّ وكفاحيّ.

اقرأ/ي أيضًا | نجوم المرحلة الرديئة

التعليقات