14/02/2023 - 11:10

الجولان المحتلّ: 41 عامًا على الإضراب الكبير... والأسئلة هي نفسها

كانت البداية في عام 1967، مع احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربيّة والجولان السوريّ. في ذلك الوقت، كان تعداد الأهالي نحو ستّة آلاف شخص، أو ربّما أقلّ، حيث قُطِّعت أوصالهم مع ذويهم وأبناء شعبهم

الجولان المحتلّ: 41 عامًا على الإضراب الكبير... والأسئلة هي نفسها

(أرشيفيّة)

في عام 1982، وبتعداد لم يتجاوز حينئذ عشرة آلاف شخص في مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة وعين قنيا، واجه الأهالي بكبريائهم وعزيمتهم منقطعة النظير مخطّطات الاحتلال، إذ خاضوا معركة انتمائهم العربيّ السوريّ موحّدين ومتراصّين، وأصدروا ما يسمّى بـ"الوثيقة الوطنيّة"، والتي تحوّلت إلى أيقونة يزيّنون بها بيوتهم، ليتوّج هذا النضال فيما بعد بما عُرِف بالإضراب العامّ الشامل والمفتوح، والذي استمرّ لأكثر من 6 أشهر على التوالي، في وجه جيش مدجّج بالسلاح، قام بإغلاق مداخل بلداتهم وقراهم وحصارها، وفصل بينها تمامًا معلنًا "حظر التجوال".

الجنود الذين فاق عددهم تعداد الأهالي بمرّة ونصف، حاصروا البيوت في القرى، وتوزّعوا على الحارات، وفي سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ، قاموا بإيصال الهويّات المجهّزة بالصور الشخصيّة والأسماء الثلاثيّة إلى كلّ البيوت، لكنّ الأهالي بأكثريّتهم الساحقة في بيوتهم المحاصرة، ومع منع تواصلهم حتّى مع جيرانهم، تمسّكوا بقرارهم الجماعيّ برفض هذه الهويّات، وهو ما اضطرّ الجنود إلى تركها أمام مداخل البيوت، على أمل أن يستلمها الأهالي فيما بعد، إلّا أنّ الردّ كان واضحًا بأنْ كُنِسَت هذه الهويّات، وتكدّست في الشوارع وأُضرِمَت النيران في بعضها.

كانت البداية في عام 1967، مع احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربيّة والجولان السوريّ. في ذلك الوقت، كان تعداد الأهالي نحو ستّة آلاف شخص، أو ربّما أقلّ، حيث قُطِّعت أوصالهم مع ذويهم وأبناء شعبهم، فوجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها بمفردهم في مواجهة مصيرهم المجهول أمام "دولة منتصرة"، اقتحمت قرويّتهم وفي جعبتها مصائد ومكائد كانت قد استعدّت لها قبل سنوات وسنوات من "قدومها إليهم"، وهي المكائد التي كانت تبغي سلطة الاحتلال من خلالها، جعل هذه القلّة القليلة من السكّان، والثمينة بوزنها المعنويّ، مطيّة ووسيلة لتمرير طموحاتها اللصوصيّة في هذه القطعة الجميلة من الأرض، بثرواتها وخيراتها وموقعها في بلاد الشام عمومًا، والأراضي السوريّة على وجه الخصوص؛ ستّة آلاف شخص في قرى مغمورة على سفوح مرميّة على أطراف جبل الشيخ، وفي بيوت تكاد أن تكون خالية تمامًا من خدمات لا يمكن لنا اليوم أن نتخيّل الحياة خارج صخبها وضجيجها… ستّة آلاف شخص، وجدوا أنفسهم فجأة أمام احتلال سحق في حرب "خاطفة ومهينة" جيوش ثلاث دول عربيّة معًا؛ مصر وسورية والأردن.

في هذه الأوقات العصيبة، كانت "الظروف الموضوعيّة" التي أحاطت بالأهالي في غاية "المثاليّة"، حيث توفّرت "ذرائع" أكثر من كافية لتختار هذه القلّة القليلة التسليم بـ"الأمر الواقع"، والانسياق مع تلك الأطماع والمخطّطات الهدّامة التي كانت تضمرها سلطة الاحتلال، فلا أحد عادلًا ومنصفًا كان من حقّه أن يسألهم "كيف رضيتم يا ستّة آلاف شخص بأن تجعلكم إسرائيل مطيّة ووسيلة؟". ولا أحد كان يملك في مثل هذا الظرف أن يُعيّب عليهم "انكسارهم" أمام "دولة" كانت قد أذلّت للتوّ جيوش ثلاث دول عربيّة خلال أقلّ من ستّة أيّام.

ولكن، ليس هذا ما حدث على الإطلاق؛ فلم يمرّ أسبوع من الاحتلال حتّى نهض حراك وطنيّ يبحث عن جواب لأسئلة مثل "ما العمل؟" و"ما السبيل إلى حماية الأهالي من استدراجهم إلى الخطيئة؟". واجتمع صانعو الحراك الوطنيّ في أحد المنازل، وأقسموا اليمين على أن يبقوا أوفياء لهويّتهم السوريّة، مهما طال عمر الاحتلال، ومهما تعاظمت الإغراءات والرشاوى أو التهديد والوعيد. ببساطة، لقد أقسموا على حماية أنفسهم ومجتمعهم من أن يتحوّلوا إلى مطيّة وأداة لهذا الاحتلال. لقد أدركوا أنّ مهمّة تحرير الأرض لا تقع على عاتقهم، وأنّ مهمّتهم الأساسيّة تكمن في فكّ هذا الطوق عن أعناقهم، وتطويق مخطّطات الاحتلال التي تريد أن تحوّلهم إلى كبش فداء يُسَمْسَر به على "موائد اللئام".

ستة وخمسون عامًا مضت على "سقوط الجولان"؛ الجولان الممتلئ بأجوبة عن سؤال كيف نجحت هذه القلّة القليلة في ثباتها، وكيف نجحت الحركة الوطنيّة الفتيّة والشبابيّة في ذلك الوقت بحماية الهويّة السوريّة لمجتمعها؟ يمكن القول، إنّ من يبحث يرى، أو على الأقلّ، فإنّني أرى شيفرة النجاح وسرّها تمثّلت في أنّ سلطات الاحتلال كانت كلّما حشرت الأهالي بين خياري "الهويّة والانتماء" أو "المعيشة والخدمات"، ينجح الأهالي بالعبور بسلام عبر التسلّح بـ"أداء وسطيّ" يقوم على الدمج بين أمرين معًا؛ ألّا تُهان "سوريّتهم"، وفي الوقت ذاته، ألّا تُداس مصالحهم المعيشيّة اليوميّة. لقد نجحت هذه الوسطيّة في الأداء، ونجحت هذه الذهنيّة في رفض الانصياع والرضوخ من جهة؛ ومن جهة أخرى، رفض الذوبان والاندماج.

هذه هي الشيفرة - كما يبدو لي - وراء هذا النجاح اللافت الذي حقّقه أهالي الجولان المحتلّ في تجنّب الإيقاع بهم؛ وفي الوقت ذاته، في توفير مساحة تحرّك مريحة لمواصلة نضالهم في معركة وجوديّة أخرى مع الاحتلال، وهي معركة تحصيل المزيد والمزيد من حقوقهم في الارتقاء والتقدّم على مستوى الهموم المعيشيّة الحياتيّة اليوميّة.

الآن، وبعد 56 عامًا على الاحتلال، و41 عامًا على معركة الهويّة والإضراب الكبير، وصل تعداد الأهالي إلى 24 ألف شخص، ولا يزال السؤال ذاته، كما كان في اليوم الأوّل للاحتلال… ماذا بوسع الأهالي أن يفعلوا أكثر مما فعلوا وما زالوا، من أجل صون هويّتهم السوريّة، وسوريّة هذا الجزء المحتلّ من الجولان؟

التعليقات