03/07/2020 - 18:44

العمل في المستوطنات... محو الذات سعيًا لطلب الرزق

منذ عشرات السنين، كان التوسع الاستيطاني وبناء المستوطنات الإسرائيلية حربًا شنّت ولا تزال على الحقوق الوطنية الفلسطينية. أن ننام بطمأنينة وأيادي عاملة فلسطينية مهمّشة تُجبر على المشاركة في بناء المستوطنات الصهيونية على الأراضي الفلسطينية، هو أشبه برضوخ لحكم إعدام.

العمل في المستوطنات... محو الذات سعيًا لطلب الرزق

أرض عائلة فلسطينية محاطة بأربع مستوطنات (أرشيف وفا)

كتبت هذه المقالة في إطار "ورشة المقالة الصحافية" التي نظمها موقع "عرب 48" بالتعاون مع جمعية الثقافة العربية، مؤخرًا، وقدّمها أستاذ الإعلام في جامعة بير زيت، صالح مشارقة.


في أحد الأيام الصيفية في مدينة نابلس، وجدت نفسي في سوق للخردة والأدوات المستعملة. استقرت يدي على ألبوم صور وأخذت أتصفحه: كتاب صور إسرائيلي. نظرت إلى صاحب "البسطة" بعينين فضوليتين. فهمت منه ببضع لحظات أنّه أحضره مع أشياء أخرى بطريقة ما من مستوطنة قريبة عمل بها، ليتاجر به في أسواق المدينة.

منذ تلك الحادثة، وإذ بغصة تظلّ تطلّ علي: معرفة أن عمّالا فلسطينيين يقتاتون من العمل في المستوطنات الإسرائيلية، تقدّر أعدادهم بحوالي 25 - 30 ألفًا. يتركّز عمل هؤلاء في قطاعات البناء والزراعة والصناعة.

هنا بدأ طرح الحسابات والأسئلة.

الخلل

إن المستوطنات الإسرائيلية تتغذى وتتضخّم من رفات المشروع الوطني الفلسطيني. في الضفة الغربية ومدينة القدس اليوم، هناك حوالي 150 مستوطنة، يقطنها نحو 800 ألف يهودي، ناهيك عن أكثر من مئة بؤرة استيطانية. تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المقالة لا تتطرق إلى استغلال العمال الفلسطينيين وتعرضهم إلى الضغط النفسي والإساءة الدائمة في المستوطنات، والتي بدورها تُوثّق من جهات ودراسات مختلفة. عوضًا عن ذلك، تسلط هذه المقالة الضوء على هذه العمالة بوصفها انتهاكًا للحقوق السياسية والوطنية للعمال الفلسطينيين بالمقام الأول، وعلى الأضرار التي تلحق بالمشروع الوطني التحرري للفلسطينيين. ففي ممارسة هؤلاء العمال لعملهم، لا يتوفر أمامهم خيار سوى وضع وجودهم السياسي والوطني جانبًا. وفي اضطرارهم لطلب الرزق لبقائهم وبقاء عائلاتهم على قيد الحياة، لا يتبقى حيّز كافٍ لهم للتفكير في كرامتهم الوطنية.

بالإضافة إلى الدور المهم للعمالة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي، والتي يصنّفها على أنّها عمالة رخيصة، تسخّر إسرائيل فرص العمل هذه كأداة لتحييد العديد من الفلسطينيين وفصلهم عن ساحات النضال الوطني. فعلى سبيل المثال، يمتنع بعض العمال عن المشاركة في المظاهرات الشعبية، خوفًا من ألا تمنحهم السلطات الأمنية الإسرائيلية تصاريح العمل، وبالتالي قطع أرزاقهم. هنا قضية هي عنصر من مشروع "السلام الاقتصادي"، أو ما قد يراه البعض رشوة اقتصادية إسرائيلية تساهم في ديمومة الاحتلال والوضع القائم.

دعم وحماية، لا مزيد من الاضطهاد

في الوقت الذي تتفاقم فيه مشكلتا الفقر والبطالة في الضفة الغربية، يستمر الاقتصاد الإسرائيلي بالنمو. هكذا أخذ الإقبال على العمل في المستوطنات الإسرائيلية في الأعوام القليلة الماضية بالازدياد.

الحل يبدأ عندما نقرّ بجديّة هذه الظاهرة القديمة - الجديدة. عندها فقط ندرجها في قائمة أولوياتنا الوطنية. ينبغي النظر إلى المسألة من زاوية الحماية للعمال الفلسطينيين، لا اضطهادهم وتعريضهم للمزيد من الفقر بقطع الطريق أمام مصدر رزقهم الوحيد، ودون توفير فرص عمل حقيقية بديلة. الجهود التي بذلت في السابق، مثل الحملة التي أطلقتها السلطة الفلسطينية عام 2010، أي قبل عقد واحد، والتي ركزت على منع التعامل مع بضائع المستوطنات والتوجه نحو تجريم العمل في المستوطنات، قد فشلت. تجارب كهذه بحاجة إلى مراجعة نقدية وتقييم جديّتها، وربما البناء عليها وتطوريها وتجنب الأخطاء السابقة.

ولا تهدف هذه المقالة إلى فضح تقصير هذا الطرف أو ذاك، ولكنها دعوة إلى استكشاف أفق إبداعية تغير من الوضع القائم وترفضه، خصوصًا في هذه الفترة التي تشهد تحولات كبيرة على أرض الواقع. هناك حاجة إلى إرادة جمعية تلتف حولها كل الفصائل الوطنية.

نضال اقتصادي، لا انتظار لـ"تسوية نهائية"

مع احتلال الأرض والشعوب، يأتي احتلال الاقتصاد. ولقضية فلسطين، التي هي في الأساس مناهضة للاحتلال، بعد اقتصادي لربما لا يتم التطرق إليه بشكل ملائم من قبل الجماهير الفلسطينية اليوم. ربما يعود ذلك إلى المفاوضات السياسية التي أخذت جلّ الاهتمام منذ توقيع اتفاقية أوسلو، وربما ركنت السلطة الوطنية الفلسطينية إلى تسوية نهائية تتضمن إنهاء الاحتلال لحلّ المشاكل الوطنية المتعددة والناتجة بشكل كبير من الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث. إنّ النضال الاقتصادي شكل واحد من أشكال النضال ضد الاستعمار والتبعيّة، يساهم في فتح المجال لتحرّر الأفراد والشعوب. ولذلك، مع التضييق المستمر للاحتلال الإسرائيلي، وتضييق قبضته الأمنية والاقتصادية على الشعب الفلسطيني، تطرأ الحاجة إلى العمل الدؤوب والحوكمة الجيدة والاقتصاديين الجيدين، ممّن دفعتهم المصالح الوطنية والحرص على الحرية.

قد يساعد التفكير والعمل الدؤوب لإنشاء مشاريع إنمائية وريادية تضع في أجندتها توفير فرص عمل لعمال المستوطنات، وبالتالي حمايتهم من الاستغلال وانتهاك حقوقهم الوطنية. في هذا فعل نضالي، له تبعات اقتصادية واجتماعية وسياسية مهمة. غير أنّ في جعبة بعض عمال المستوطنات خبرة في مجالات مهمة - كقطاع الزراعة- والتي من الممكن استثمارها.

هنا تكمن الحاجة إلى خطة عمل حقيقية، تستقطب تعاون القطاعين الحكومي والخاص، بالإضافة إلى دعم الحلفاء والفلسطينيين بغض النظر عن مواقعهم.

التحولات السياسية وإمكانات التحرك

مع مخطط الضم الإسرائيلي لغور الأردن والمستوطنات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية، يتزايد الحديث حول مصير العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية التي بنت اتفاقية أوسلو أُسُسها، وأيضًا حول ما كان قائمًا بين السلطة وإسرائيل من تنسيق وتعاون في مجالات عدة. يجري هذا في جو من تعهدات وإعلانات من رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بإنهاء جميع الاتفاقيات القائمة وتنفيذ قرارات المجلس المركزي الفلسطيني. فكيف سيُنظَر في شأن بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي وقع نحو قبل 26 عامًا بين منظمة التحرير وإسرائيل، والذي يعتبر اليوم الكابح الرئيس للتنمية؟ ثم ما هو موقف السلطة من "السلام الاقتصادي" اليوم؟ وإن أقدمت إسرائيل على الضم فعلا، كيف ستنظر السلطة إلى العمالة الفلسطينية في المستوطنات؟

كلّ هذه هي أسئلة عاجلة.

منذ عشرات السنين، كان التوسع الاستيطاني وبناء المستوطنات الإسرائيلية حربًا شنّت ولا تزال على الحقوق الوطنية الفلسطينية. أن ننام بطمأنينة وأيادي عاملة فلسطينية مهمّشة تُجبر على المشاركة في بناء المستوطنات الصهيونية على الأراضي الفلسطينية، هو أشبه برضوخ لحكم إعدام.

* الكاتب ناشط وطالب اقتصاد في الجامعة الأردنية في عمّان، وآداب في جامعة أوتفوش لوراند في بودابست.

التعليقات